“محكمة” تتفرّد بنشر أوّل حكم قضائي: إعفاء قاصر من العقاب في موضوع الاتجار بالأشخاص مارست الدعارة بالإكراه/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
في أوّل حكم قضائي من نوعه في لبنان من حيث النتيجة في موضوع الاتجار بالبشر، أعفت محكمة الجنايات في بيروت فتاة قاصراً سورية الجنسية من العقاب بسبب وقوعها تحت تأثير الإكراه المعنوي في ممارسة الدعارة السرّيّة بعدما جرى استغلالها بطريقة مهينة للإنسان، بإيوائها وإطعامها مقابل القيام بهذا العمل لتحصيل المال.
وتتمثّل فرادة هذا الحكم غير المسبوق في ما توصّل إليه من خلاصة حكمية، تأكيده أنّه لا يعتدّ بأيّ موافقة تصدر عن الفتاة القاصر على ممارسة الدعارة تحت وطأة الضغط النفسي والمعنوي والمادي، فهي بحسب حال الفتاة في هذا الحكم، مواطنة سورية دفعتها ظروف الحرب في بلدها إلى اللجوء إلى لبنان، حيث قام مواطنها باستغلالها في هذا المجال مقابل استمراره في تأمين المأكل والمأوى لها، وهي وإنْ وافقت على ممارسة الدعارة، إلاّ أنّ ذلك حصل بفعل الإكراه المعنوي ما يعني انعدام مسؤوليتها الجزائية ووجوب إعفائها من العقاب وعدم إدانتها على هذا التصرّف.
وفيما القوانين الدولية تعفي الشخص من الملاحقة كلّياً باعتباره ضحيّة، يكتفي القانون اللبناني رقم 164 تاريخ 24/8/ 2011، بالإعفاء من العقاب في حال كانت الضحيّة قاصراً حيث نصّ صراحة على عدم الأخذ بموافقتها على ممارسة الدعارة.
وفي حيثيات الحكم الممهور بتوقيع القضاة محمّد خير مظلوم رئيساً منتدباً لمحكمة الجنايات، وهاني الحبّال، وبسّام الياس الحاج مستشارين نقرأ التالي:
الإتيان من سوريا
حيث إنّ قرار الاتهام أسند إلى المتهم فخري د.(مواليد العام 1985) ارتكابه جناية المادة 586/1 و3 عقوبات المضافة بمقتضى القانون رقم 164 تاريخ 24/8/ 2011، المسمّى بقانون معاقبة الاتجار بالأشخاص. كما أسند إلى كلّ من الظنينتين اللبنانية إناس خ.( مواليد العام 1990) والسورية إيمان ك.(مواليد العام 1997) ارتكابهما الدعارة السرّيّة، الجريمة المنصوص عليها في المادة 523/2 عقوبات.
وحيث يتبيّن من الوقائع والأدلّة المبيّنة آنفاً ولاسيّما أقوال الظنينة إيمان، ومدلول أقوال المتهم فخري وتواريه عن الأنظار خلال المرحلة الأولى من التحقيقات الأوّلية، وإلقاء القبض عليه وهو يحاول المغادرة إلى سوريا، ومن ثمّ فراره بعد تقرير تخلية سبيله، وأقوال الشاهد م.ح. أنّ الظنينة إيمان السورية الجنسية والمولودة في العام 1997، تركت سوريا لخلافها مع أهلها ودخلت لبنان في أواخر العام 2012 حيث اصطحبها أحد الأشخاص إلى منزل إحدى السيّدات في منطقة جونيه. وقد عملت تلك السيّدة على حثّها على ممارسة الدعارة والضغط عليها في هذا الاتجاه، فلجأت الظنينة إيمان عندئذ إلى الاتصال بزوجة المتهم فخري، وهي صديقة لها في سوريا، من أجل مساعدتها في حلّ هذه المشكلة، فقام المتهم بإحضارها بالاتفاق مع زوجته إلى منزله للإقامة معهما.
الاستيلاء على المال
وبعد حوالي الشهر، راح يصطحبها مع زوجته إلى أحد الملاهي في بيروت حيث يوجد فتيات يعملن في مجال الدعارة، فما كان من الظنينة إيمان وهي عاطلة عن العمل وبدون أيّ مدخول، إلاّ أن عرضت على المتهم تسهيل عملها في هذا المجال على غرار تلك الفتيات، فوافقها على ذلك وراح يكلّف الشاهد م.ح. بنقلها بالأجرة إلى الملهى المذكور عند الطلب، حيث تتفق مع الزبائن على ممارسة الجنس معهم في فنادق مختلفة، مقابل تقاضيها مبالغ مالية تتراوح بين 400 و500 دولار أميركي عن كلّ ساعة. وعند الانتهاء من هذا العمل، كانت تُعلم المتهم بالأمر، فيقوم بتكليف الشاهد م.ح. بإعادتها إلى المنزل، ثمّ ما يلبث أن يستولي على المبالغ التي جنتها في الدعارة بحجّة تأمين المسكن والمأكل لها.
وعند مطالبتها له بالمال، كان يهدّدها بفضح أمرها لدى أهلها، وهي بقيت على هذا المنوال حوالي الثلاثة أشهر، وكان يفرض عليها في كلّ مرّة إعلامه بتفاصيل اتفاقها مع الزبائن لجهة المبلغ المدفوع والفندق الذي قصدته.
وقد أقرّ المتهم باصطحابه الظنينة إيمان ك. إلى الملهى لعدّة مرّات، وقيامه بعد ذلك، بتأمين سيّارة تنقلها إلى الملهى لاصطياد الزبائن، ومن ثمّ إعادتها إلى المنزل، وقبضه منها 800 دولار أميركي لمرّة واحدة لقاء إيجار المنزل الذي يقيمون فيه.
تشجيع وإرغام
وحيث يستفاد ممّا تقدّم، أنّ المتهم الذي قام باستقبال الظنينة القاصر إيمان ك. في منزله وإيجاد مأوى لها بعد قدومها من سوريا إلى لبنان، عمل بعد ذلك على تشجيعها، ومن ثمّ إرغامها على ممارسة الدعارة، مستغلاًّ حالة الضعف التي هي فيها، بهدف الاستيلاء على الأموال التي كانت تجنيها من ذاك العمل، مقابل تأمين المأوى والمأكل لها.
ثلاثة عناصر لجريمة الاتجار بالأشخاص
وحيث إنّ جريمة الاتجار بالبشر أو الأشخاص المنصوص عليها في المادة 586(1) عقوبات المضافة بمقتضى القانون رقم 164/2011، والمعاقب عليها بعقوبة جنائية مشدّدة تختلف مدّتها بحسب الظروف والأوضاع التي تمّت فيها الجريمة، وذلك وفق ما لحظته الفقرات 2 و3و4 و5 من المادة 586 المذكورة، هذه الجريمة تقوم على ثلاثة عناصر تتمثّل بفعل ووسيلة وغاية.
يتمثّل الفعل باجتذاب شخص، أو نقله، أو استقباله، أو احتجازه، أو إيجاد مأوى له، ويتمّ هذا الفعل بواسطة التهديد بالقوّة أو استعمالها، أو الاختطاف أو الخداع، أو استغلال السلطة، أو استغلال حالة الضعف، أو إعطاء أو تلقّي مبالغ مالية أو مزايا، أو استعمال هذه الوسائل على من له سلطة على شخص آخر، وذلك بهدف استغلال الشخص أو تسهيل استغلاله من الغير، ولا يعتدّ بموافقة المجنى عليه في حال استعمال أيّ من الوسائل المشار إليها.
ويعتبر اجتذاب المجنى عليه، أو نقله، أو استقباله، أو احتجازه، أو تقديم المأوى له، لغرض الاستغلال بالنسبة إلى من هم دون سنّ الثامنة عشرة إتجاراً بالأشخاص، حتّى في حال لم يترافق ذلك مع استعمال أيّ من الوسائل المذكورة.
دون الثامنة عشرة
ويعتبر إرغام شخص على الاشتراك في الدعارة، أو استغلال دعارة الغير، إستغلالاً وفقاً لأحكام القانون. ومن المقرّر بمقتضى أحكام الفقرة(5) من المادة 586 عقوبات المضافة، أنّه في حل كانت الضحية دون الثامنة عشرة من عمرها، يعاقب على الأفعال الجرمية الواردة في الفقرة الأولى من المادة المذكورة بالحبس من عشر سنوات إلى اثنتي عشرة سنة، وبالغرامة من مائتي ضعف إلى أربعمائة ضعف الحدّ الأدنى الرسمي للأجور.
وحيث تأسيساً على ما تقدّم، يكون فعل المتهم فخري د. المبيّن آنفاً منطبقاً على جناية المادة 586/ 1 و3 و 5 عقوبات، ويقتضي تجريمه بمقتضاها. ولا يجدي به نفعاً القول بأنّ الظنينة إيمان ك. هي التي قرّرت العمل في مجال الدعارة، وأنّه لم يهدّدها بفضح أمرها لدى أهلها، ما دامت الظنينة المذكورة دون سنّ الثامنة عشرة بتاريخ الجرم، وقام المتهم باستقبالها وتأمين مأوى لها ودفعها بعد ذلك إلى العمل في مجال الدعارة واستغلالها في هذا المجال، مقابل استمراره في تأمين المأوى لها. ولا يعتدّ بالتالي بأيّ موافقة تصدر عنها، ولا يفترض استعمال وسائل التهديد وخلافه في هذا المجال.
الإكراه المعنوي
وحيث في ضوء ذلك ومجمل وقائع القضيّة، يتبيّن أنّ الظنينة القاصر إيمان ك. أرغمت على ممارسة الدعارة السرّيّة، وكانت تحت تأثير الإكراه المعنوي ممّا من شأنه أن يعفيها من العقاب، وبالتالي عدم إدانتها لانتفاء مسؤوليتها الجزائية، وذلك عملاً بأحكام المادة 586(8) عقوبات المضافة معطوفة على المادة 227 عقوبات.
وحيث من جهة أخرى، وفي ضوء اعتراف الظنينة إناس خ. الصريح خلال التحقيقات الأوّلية، وأقوال الظنينة إيمان ك. وإلقاء القبض عليهما معاً أمام الملهى، يقتضي إدانة الظنينة إناس خ. بما أسند إليها لجهة ممارسة الدعارة السرّيّة طبقاً لأحكام المادة 523/2 عقوبات.
الفقرة الحكمية
لذلك، وبعد سماع مطالعة ممثّل النيابة العامة، تحكم المحكمة بالإجماع:
أولّاً: بتجريم المتهم فخري د. بالجناية المنصوص عليها في المادة 586(1) عقوبات المضافة بالقانون رقم 164 تاريخ 24/8/2011 معطوفة على المادة 586( 3 و5) منه، وإنزال عقوبة الاعتقال به مدّة عشر سنوات، وتغريمه ثلاثماية ضعف الحدّ الأدنى الرسمي للأجور وفقاً للمادة 586(3) عقوبات، وحبسه مدّة عشر سنوات وتغريمه مائتي ضعف الحدّ الأدنى الرسمي للأجور طبقاً للمادة 586 (5) عقوبات، وإدغام هاتين العقوبتين سنداً للمادة 205 عقوبات بحيث لا تنفّذ في حقّه سوى العقوبة الأولى وهي الأشدّ، أيّ الاعتقال مدّة عشر سنوات وتغريمه ثلاثماية ضعف الحدّ الأدنى الرسمي للأجور، وتجريده من حقوقه المدنية، ومنعه من التصرّف بأمواله المنقولة وغير المنقولة، وتعيين رئيس قلم هذه المحكمة قيّماً عليها والتأكيد على إنفاذ مذكّرة إلقاء القبض الصادرة بحقّه.
ثانياً: بإدانة الظنينة إناس خ. بجنحة المادة 523/2 عقوبات وحبسها مدّة ثلاثة أشهر، وتغريمها مبلغ خمسماية ألف ليرة لبنانية، على أن تحبس يوماً واحداً عن كلّ عشرة آلاف ليرة لبنانية في حال عدم دفع قيمة الغرامة سنداً للمادة 54 عقوبات.
ثالثاً: بعدم إدانة الظنينة إيمان ك. بجنحة المادة 523/2 عقوبات، وإعفائها من العقاب سنداً للمادة 586(8) عقوبات المضافة بمقتضى القانون رقم 164/2011 معطوفة على المادة 227 عقوبات.
رابعاً: بتدريك المتهم والظنينتين بالاشتراك الرسوم والنفقات القانونية كافة، ومصادرة المضبوطات.
حكماً غيابياً أصدر وأفهم علناً في بيروت بتاريخ 28/12/2015 بحضور ممثّل النيابة العامة الاستئنافية في بيروت.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 4- شباط 2016)
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يرجى الإكتفاء بنسخ جزء من الخبر وبما لا يزيد عن 20% من مضمونه، مع ضرورة ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.