علم وخبر

الدولة للبقاعيين: موتوا بفقركم!/وفيق قانصو

وفيق قانصو*:
يكاد لا يمرّ يوم، بقاعاً، من دون اشتباك مسلّح أو جريمة قتل أو عملية سلب، فيما سرقة السيّارات صارت خبزاً يومياً لأهالي المنطقة، مع بروز “ظواهر” جديدة مثل القتل بغاية سرقة محاصيل زراعية أو رؤوس من الماشية.
يجري ذلك كلّه وسط غياب تام ومقصود – ولا يخلو من التورّط – للأجهزة الأمنية والقضائية التي تبدو المنطقة وأهلها في أسفل سلّم اهتماماتها.
قبل أسابيع اندلعت اشتباكات عنيفة في إحدى البلدات البقاعية استخدمت فيها أسلحة خفيفة ومتوسّطة، وأدّت إلى سجن الأهالي ساعات في بيوتهم، قبل أن يصلهم، صبيحة اليوم التالي، بيان عبر مواقع التواصل الاجتماعي يعتذر عن “الإزعاج” الذي تسبّب به “الشجار” الذي وقع بين شبّان من عائلتين!
هذا نوع من “الشجارات” التي تحدث يومياً في البقاع وفق “سيناريو” واحد تقريباً: إشكال فردي يتطوّر إلى اشتباك مسلّح يستمرّ ساعات، واتصالات موازية تنجح في التوصّل إلى “وقف لإطلاق النار”، قبل أن تصل ملاّلات الجيش تتويجاً للمشهد… ليستفيق الأهالي في اليوم التالي إلى أعمالهم ومواصلة يومياتهم الاعتيادية، وكأنّ لا اشتباك وقع ولا دولة موجودة.
من الإنصاف القول إنّ هذا النوع من الأحداث يكاد يتحوّل جزءاً من “الفرادة” اللبنانية. إشكالات مماثلة تحدث في كلّ مكان: في بعض بلدات الجنوب، وفي الشمال وضاحية بيروت الجنوبية وخلدة، وأخيراً في الطريق الجديدة. في كلّ من هذه المناطق زعران يتحكّمون بحياة الناس وعصابات وفرض خوّات وتجارة مخدّرات، وفقر وعوز وانتشار للسلاح. لكنّ “العلامة الفارقة” في البقاع تبقى دائماً الغياب التام للأجهزة الأمنية أو حتّى تواطؤ بعضها.
ليس الفقر والإهمال وغياب الخدمات ولا انتشار السلاح والتصفيات الثأرية أموراً طارئة على البقاع. هذه عمرها من عمر “لبنان الكبير”. لكنّ عوامل عدّة ساهمت في السنوات الأخيرة في تفاقمها جميعاً وتسبّبها في انفلات أمني ليس من المستحيل ضبطه متى ما توافر القرار لدى الأجهزة الأمنية.
إنتشار التكفيريين على الحدود الشرقية، قبل عام 2017، أدّى إلى انتشار أوسع للسلاح، ونفض الغبار عن تشكيلات عسكرية عائلية وعشائرية صعب ضبطها بعد معارك تحرير الجرود، وخلّفت “فائض قوّة” يجري “تنفيسه” بين العائلات والعشائر وحتّى داخل العائلة الواحدة والعشيرة الواحدة.
جاءت الأزمة الاقتصادية لتزيد الطين بلّة في منطقة تطحن البطالة شبابها، وكان معدّل الأُسَر الواقعة تحت خطّ الفقر فيها يبلغ 35% قبل الأزمة الاقتصادية الأخيرة.
يشير رئيس بلدية بقاعي إلى “ظواهر” جديدة تؤكّد “الإرتباط الوثيق بين ضيق الحال وبين جرائم لم نعهدها من قبل”. فـ”تاريخياً”، المنطقة “موصومة بزراعة المخدّرات أو سرقة السيّارات أو الخطف من أجل فدية، وهذه كلّها مستمرّة وإلى تزايد. لكن، قلّما سمعنا عن قتل شخص لسرقة سيّارته، فيما شهدنا الأسبوع الماضي جريمتين ذهب ضحيتهما مزارع وراعٍ لسرقة محصول من البصل وبعض رؤوس الغنم، ناهيك عن ظاهرة مستجدّة تتمثّل في غارات ليلية على مخيّمات لنازحين سوريين في قرى بقاعية كثيرة للسطو على الغلّة اليومية لهؤلاء بعد عودتهم من أعمالهم.”
ليس الوضع الإقتصادي تبريراً، لكنّ “الفقير مشكلو قريب”. والفقر، هنا، من “نوع جديد” لم يعهده البقاعيون سابقاً. صحيح أنّهم، تاريخياً، “ينقّون” على الحرمان والإهمال وغياب الخدمات. لكن بعض أوجه المشكلة “الوجودية” اليوم يتمثّل، على سبيل المثال، في أنّ سعر البرغل والحليب، المكوّنين الرئيسيين للكشك وهو المادة الغذائية الرئيسية في كلّ بيت بقاعي، إرتفع أربعة أضعاف.
قس على ذلك أسعار بقية المواد الغذائية، يقول رئيس البلدية ساخراً، “وبيطلع معك انو إذا راح قتيل كرمى لبعض أكياس البصل، فقد تحصل مجزرة بسبب الحامض، مثلاً، الذي يصل سعر الكيلو منه إلى 10 آلاف ليرة… وربّما تقع حرب أهلية مع اقتراب الشتاء في حال صحّ الحديث عن رفع الدعم عن المحروقات ومازوت التدفئة”، فيما لم يلمس أحد من الأساس أثراً لـ”السلّة الغذائية المدعومة”، ولا أيّ حركة لمصلحة حماية المستهلك في منطقة تزيد أسعار المواد الغذائية في دكاكينها على أسعارها في كبريات الاستهلاكيات في بيروت.
غياب الدولة لا يقتصر على وزارتي الاقتصاد والزراعة (ووزيرها بقاعي بالمناسبة)، بل يشمل أيضاً أجهزتها القضائية والأمنية.
يحدث، مثلاً، أن تشتعل إحدى البلدات بالرصاص والقذائف الصاروخية ابتهاجاً بإطلاق قاتل في جريمة موصوفة من دون أن يُقدم أيّ جهاز أمني على اعتقال أيّ من مطلقي النار، ومن دون أن يُفهم كيف أطلق القضاء سراح “المحتفى به” أساساً. (وحتّى لا يُفهم أنّ في الأمر “غطاء سياسياً”، تجدر الإشارة إلى أنّ الضحية ينتمي إلى أحد أكبر الأحزاب في المنطقة).
بهذا يصبح “الفلتان مسؤولية الدولة أساساً وكلّ أجهزتها الأمنية مقصّرة. وأيّ حديث عن غطاء سياسي ذريعة لتبرير كسل هذه الأجهزة”، بحسب نائب زحلة سيزار معلوف، مؤكّداً أنّه “في كمّ أزعر، وهم معروفون للأجهزة جميعاً. لكن هذه إمّا غائبة أو متواطئة أو ما بدها تشتغل أساساً. قادة الأجهزة الأمنية في البقاع هم المسؤولون. والمسؤولون الأرفع منهم يتحمّلون أيضاً المسؤولية.”
ليس البقاعي خارجاً على القانون بالسليقة، ولا مخالفاً بالفطرة. والدليل؟ يجيب المعلوف:“ما في أشطر من المعلومات والاستقصاء والمخافر عندما يكبسون مزارعاً يعمل على تعزيل بئر ماء، أو مواطناً يبني كم قرميدة، والناس يلتزمون، ومن يخالف منهم يفعل تحت جنح الظلام خوفاً من الأجهزة الأمنية. لكن هذه الأجهزة، نفسها، عندما يقع أيّ إشكال ويجري التواصل مع أيّ مخفر يأتي الردّ باللازمة نفسها:”ما في عنا آلية!” في العادة عندما يقع اشتباك يرفض الجيش التدخّل قبل وقف النار، وعندها تخبز بالأفراح. اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب»، يقول رئيس البلدية البقاعي، مضيفاً أنّ عناصر مخابرات الجيش “في كلّ البقاع باتوا مدجّنين. غالبيتهم العظمى تقبض من المطلوبين الذين يُبلَّغون أوّلاً بأوّل قبل تحرّك أيّ دورية”.
وفق مصدر أمني، “كثر من ضبّاط وعناصر مكاتب المخابرات في البقاع يتقاضون مخصّصات شهرية من واحد من كبار تجّار المخدّرات. قبل أكثر من عام كان معظم المطلوبين قد وصلوا إلى سوريا قبل أن تتحرّك سيّارات المكافحة من بيروت لدهمهم”! وهذا أمر تعرفه قيادة الجيش جيّداً، وتؤكّد مصادر أمنية أنّها في صدد إجراء “نفضة”، في غضون شهرين، لتغيير معظم رؤساء مكاتب البقاع وضبّاطها وعناصرها.
أمّا في ما يتعلق بشعبة المعلومات، فقد بات واضحاً أنّ هناك قراراً لديها، “لأسباب سياسية على الأرجح”، بعدم العمل في المنطقة، اللهم إلاّ في حالات نادرة، علماً أنّ عناصر الشعبة “أقلّ فساداً” وأكثر قدرة على الحركة وعلى تنفيذ “عمليات دقيقة”.
لذلك، “كلّ نقطة دم تسقط يتحمّل مسؤوليتها قائد الجيش وقادة الأجهزة الأمنية على اختلافها”، يقول المفتي الشيخ عباس زغيب.
المصدر الأمني يؤكّد أنّ فرض الأمن في البقاع ليس مستحيلاً. إذ إنّ “العديد كاف ويمكن البدء بتشكيل غرفة عمليات مشتركة مع رقم للطوارئ ودوريات سريعة الحركة بدل الحواجز الثابتة التي يحفظها المطلوبون ويعرفون طرق الإلتفاف عليها، والتي لا عمل لها إلاّ عرقلة سير المتوجّهين إلى قراهم نهاية الأسبوع أو العائدين منها”.
باختصار، المطلوب أن يكون الأمن في البقاع أولوية لدى الدولة ورؤساء أجهزتها الأمنية، على ملاحقة الآبار وأعمال البناء والمقالع والكسارات (إن كانت هذه وظيفتها أساساً)، وعلى “إقفال المصانع بحجّة تلويث الليطاني، فيما مجارير القصر الجمهوري وساحة النجمة والسراي الحكومي تصبّ في البحر”، بحسب المعلوف.
حتّى ذلك الحين تبقى الدولة كمن يقول للبقاعيين: موتوا بفقركم.
*المصدر: جريدة الأخبار.
“محكمة” – الإثنين في 2020/9/14

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!