الأخبارمقالات

القاضي حسن الحاج يرثي صديق عمره القاضي سهيل عبد الصمد

القاضي حسن الحاج (الأمين العام لرابطة قدامى القضاة، مفوّض الحكومة شرفاً لدى مجلس شورى الدولة):
حضرات المشايخ الأجلاء
حضرات السادة
أيّها الحفل الكريم*
أيّها الراحل الكبير: يا أخي، يا صديق عمري، ويا رفيق دربي في ذلك المشوار الطويل الذي قضيناه سويةً في القضاء ووقفت إلى جانبي في أحلك الظروف وأصعب المحن يوم ندر الوفاء وكثر أشباه الرجال!
لئن شَرَّفتني رابطة قدامى القضاة بأن كلّفتني تمثيلها بإلقاء كلمة بفقدان ركن من أركانها كان مثابراً ومواظباً على الاشتراك في كلّ نشاطاتها، فقد أصبح لزاماً عليّ أن أؤبنه كقاضٍ عَرَفَتهُ أروقة قصور العدل مثالاً للتجرّد والنزاهة، وعنواناً للجرأة والاقدام،
وأن أرثيه كصديق وأخ عزيز زاملته ورافقته منذ كنا عضوين في مجلس القضاء الأعلى في التسعينات من القرن الماضي، فعرفت فيه الرجل الذي يمثّل أسمى آيات الصدق والوفاء، وهي صفات نادرة الوجود في هذا العالم المشبع بالغدر والرياء!!
وإنّني اعترف بأنّني لم أشعر يوماً بصعوبة الموقف مثل هذه الساعة، فبين عشيّة وضحاها تسود وجوه كانت طافحة بالنور، وتلبس الحدادَ دارٌ كانت من أبهج الدور، بين عشّيّة وضحاها زوجة تترمّل، وأولاد وأحفاد وإخوة يُثكلون، والأبعدون كما الأقربون يتحرّقون،
يا قوم!! مات الذي كان يطفح نوراً ويفيض سروراً ويرقص طرباً للحياة شكوراً، واليوم أصبح مغمض الأجفان، معقود اللسان مقيّداً بالأكفانِ فسبحانك يا ربّ السماء!!
إنفجر القلب الكبير وهو الذي لم تنل منه السنون فظلّ ممتلئاً نشاطاً وحيويةً يوزّع ابتسامته البريئة يمنة ويسرة، يزور الأصدقاء ويؤاسي الأحباب بهمّةٍ ونشاطٍ منقطعي النظير،
أيّها السادة: منذ ثمانين عاماً وفي هذه البلدة الشوفية الأبيّة، عماطور، التي أعطت الشوف ولبنان كوكبة من رجال العلم والفكر والقانون، وفي بيت أصيل طيّب الأرومتين، ولد الراحل الكبير وترعرع في كنف والد كان من أولئك اللبنانيين الخيّرين الذين غرفوا العلم والقانون فدخل سلك القضاء، فنمّاه النسب ونمّاه الأدب وعاش فتلفّت إليه الزمن ومات فبكاه التاريخ!!
يُحار المرء من أين يبدأ في تعداد مزايا ومواهب من نودّع اليوم، وكيف ننتهي من تعداد مآثره وخصاله الحميدة التي تحتاج إلى ساعات وصفحات لا تسمح بها المناسبة الأليمة والحزينة والمفجعة، فهو مارد من حيث تناولته، وعملاق من حيث نظرت إليه، إنّه جبل متعدّد القمم، كلّما استشرفت أفقاً من آفاقه أو علوت قمّةً من قممه اتسعت أمامك الآفاق وتعدّدت القمم،
والحقَّ أقول لكم أنّني صُعقت بنبأ إصابته بجلطةٍ دماغيةٍ أدّت إلى وفاته، وكما نعته عائلته فقد نعته رابطة قدامى القضاة بقلبٍ حزينٍ ودمعةٍ محروقةٍ ولكن من كان مثل الفقيد الغالي الكبير فموته لا يُعدّ خروجاً من الحياة بل دخولاً فيها، فهو يختفي عن الأبصار ولكنّه لا يزول، لأنّ الحياة ليست أنفاساً تُعدّ، وأيّاماً تُسرّع في الركض، إنّها انتصار القيمة على المادة، إنّها تغلّب المثل على التراب،
فله الحياة إذن ولو غيَّبَه الكفن!!
أيّها الراحل الكبير
أرقد بسلام في الثرى الطيّب، في تراب عماطور التي احتضنتك صغيراً وافتخرت بك كبيراً، ونمْ قرير العين، ولتطمئن روحك الطاهرة في عليائها بأنّ من أنجبتَ سوف يكملون الرسالة التي نذرت نفسك لأجلها، وأنّ الحبيبة لارا سوف تسير على نهجك السويّ في القضاء وسوف تقتفي آثارك، وكما افتخر رؤوف بجدّه رؤوف الذي كان قاضياً صالحاً بكلّ معنى الكلمة، فإنّ سهيل الصغير سوف يفتخر ويتباهى أمام أقرانه أنّه كان له جَدٌّ في القضاء يدعى سهيل حلّق عالياً في أجوائه كالنسر الذي يرسل من أعالي القمم نظرَه الذي لا يبعد عنه مدى مهما نأى، وكالنسر تنحطّ لعلوّ همّته العقبات الكؤود والهضاب والنجود، بل كالنسر الذي إذا عرف غرضه وقصده لا يعرف دون ذاك الغرض وذيَّاك القصد حائلاً ولا مانعاً،
ولتطمئن وتثق الأخت العزيزة ليلي أنّها لم تخسر سهيل وحدها، بل خسره كلّ من عرفه فأحبّه وقدَّره حقّ قدره، وإنّنا سنبقى إلى جانبها ما دام فينا عرق ينبض بالحياة، لعلّنا نوفي الراحل الكبير جزءاً ممّا قدّمه للقضاء من علم وفقه واجتهاد، ولأصدقائه ومحبّيه من مودّةٍ ووفاءٍ وحبٍّ وإخلاص،
وأمّا ذكراك يا أبا رؤوف فستبقى محفورة في بالي ووجداني وسترافقني إلى أن يحين لقاءٌ يومَ يشاءُ ربُّك أمراً كان مقضياً،
وختاماً باسم رابطة قدامى القضاة رئيساً وأعضاء وباسم عائلتي الشخصية أتقدّم من الجسم القضائي عامةً ومن آل الفقيد الكرام خاصةً، بأحرّ التعازي سائلاً المولى عَزّ وجلّ أن يتغمّد الفقيد الغالي برحمته ويسكنه فسيح جنانه جزاءً لمزاياه وأن يوفيه من الراحة في الآخرةَ ما لم ينله في دنياه!! وإنا لله وإنّا إليه راجعون،
*ألقيت هذه الكلمة في حفل تأبين القاضي الراحل سهيل عبد الصمد في مسقط رأسه بلدة عماطور في قضاء الشوف يوم الاثنين الواقع فيه الأوّل من تموز 2019.
“محكمة” – الثلاثاء في 2019/7/2

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!