أبحاث ودراسات

السيناريوهات المحتملة للحرب الروسية-الأوكرانية/ كلير فخر الدين

الدكتورة كلير فخر الدين:
إتّخذت الأحداث في مطلع عام 2022 منعطفاً يُنذر بالخطر، إذ تسبّب النّزاع المسلّح الدولي الذي نشب في أوكرانيا في ظهور عنف منظّم من النّوع والحجم الذي كانت الدول قد تعهّدت بإقصائه منذ أمدٍ بعيد.
حلّلت اللّجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي 12 مسألة ناشئة تتعلّق بالقانون الدولي الإنساني المُطبّق في النّزاعات المسلّحة وتفرض هذه المسائل تحدّيات جمّة لضمان احترام قانون النّزاعات المسلّحة. فمثلاً، في السنوات الأخيرة صارت رحى القتال تدور بشكلٍ متزايد في وسط المدن، ما يعرِّض المدنيّين والبنية التّحتية التي يعتمدون عليها للخطر. كما تظلّ العائلات المشتّتة دون تواصل لفترات طويلة، وتثير العمليّات السيبرانية والأسلحة ذاتية التّشغيل واستخدام الفضاء الخارجي تساؤلات تتعلّق بتطبيق القانون الدولي الإنساني وتفسيره.
تشمل قائمة المسائل الـ12 التي حلّلتها اللّجنة الدولية: الحرب في المدن واستخدام الأسلحة المتفجّرة في المناطق المأهولة بالسّكان والمعاناة الإنسانية المرتبطة بالأشخاص المفقودين وعائلاتهم، وتحدي احترام القانون الدولي الإنساني من قبل الجماعات المسلّحة من غير الدول، وتحدّي حماية الأطفال المنتسبين أو المرتبطين بالجماعات المسلّحة من غير الدول، والتكنولوجيّات الجديدة المستخدمة في الحرب، والأسلحة النووية، والبيئة والمخاطر المناخية والنّزاع المسلّح، والنّوع الإجتماعي والقانون الدولي الإنساني، والإعاقة والقانون الدولي الإنساني، والشركات العسكريّة والأمنية الخاصة، وأخيراً الحفاظ على الحيّز الإنساني كضمان وصول المساعدات الإنسانية.
إنّ قواعد القانون الدولي تقوم على مبدأ رئيسي – من بين مبادئ أخرى – ألا وهو حظر استعمال القوة أو التّهديد باستعمالها ضد سلامة الأراضي أو الإستقلال السّياسي للدول الأخرى، المبدأ الذي أقرّته الدول في المادة (24) من ميثاق الأمم المتّحدة لعام 1945 في أعقاب الحرب العالمية الثانية لغرض حفظ الأمن والسّلم الدوليّين. ويرقى هذا المبدأ إلى اعتباره قاعدة آمرة في القانون الدولي؛ فكل اتّفاق بين الدول ينصّ على ما يخالفه يُعدّ إتّفاقاً باطلاً بطلاناً مطلقاً، ولا يرد على هذا المبدأ إلا إستثناءان يتمثّلان في حق الدفاع عن النفس (بما في ذلك الدفاع المشترك)، وصلاحية مجلس الأمن في ترخيص استعمال القوة لغرض فرض السّلم الدولي أو إعادته لنصابه بموجب المادة (42) تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
إذ إنّ روسيا لم تلجأ إلى مجلس الأمن، كان مبرّرها القانوني لعملياتها العسكرية في أوكرانيا هو الحق في الدفاع عن النفس، ويشترط لادّعاء هذا الحق بشكلٍ إستباقي في القانون الدولي أن يكون الخطر حقيقياً ووشيكاً على الدولة، وألاّ تتوافر وسائل سلميّة بديلة لتسوية النّزاع، وأن يكون استخدامه بشكلٍ يتناسب مع حجم الضرر الواقع أو المتوقّع.
برّرت روسيا بأنّ انضمام أوكرانيا إلى تحالفات دولية كحلف الشمال الأطلسي وطلب الإنضمام إلى عضويّة الإتّحاد الأوروبي يضع سيادتها على مناطق كإقليم القرم في خطر وشيك، مع الإشارة إلى أنّ هذا الإدّعاء الروسي يخالف صراحةً مبدأ المساواة في السيادة بين الدول جميعها، ومبدأ عدم التدخّل في الشؤون الداخلية أو الخارجية للدول الأخرى، إضافةً إلى عدم مشروعيّة ضمّ إقليم القرم، كما ادّعت روسيا قيام السّلطات الأوكرانية بجرائم دولية في إقليم دونباس، والتي تعترف فيه بدولتين إنفصاليّتين، وبأنّها إستجابة لدعوات الدولتين بتدخّلها العسكري ضدّ أوكرانيا (الدفاع المشترك عن النفس).
وفي حال اعتبرنا التدخّل الروسي حرباً لا مشروعة، يُعرّف القانون الدولي عدداً من صور الجزاء، من أمثلتها: الشجب والإستنكار، عدم الإعتراف، قطع العلاقات الدبلوماسية، العقوبات الإقتصادية وقطع المساعدات، الوقف أو الطرد من عضوية المنظّمات الدولية، ومنها استخدام القوة بترخيص من مجلس الأمن كما كان لتحرير الكويت من الغزو العراقي وما تلاه من عقوبات. وكما هو معلوم، فإنّ المعضلة القانونية التي تحول دون خيار استخدام القوة بترخيص مجلس الأمن تكمن في أنّ روسيا من الدول الأعضاء الدائمين في المجلس التي تملك حق النقض (الفيتو) مما يحتّم فشل أي مشروع قرار محتمل، ذلك بالرغم من أنّ المادة 27 من الميثاق تنصّ على امتناع الدول عن استخدام الفيتو في المسائل التي تكون لها فيها مصلحة، ليعطّلها العرف الدولي بعد ذلك. ليُطرح التساؤل مجدّداً: أما آن الأوان لإعادة تفعيل المادة 27 من ميثاق الأمم المتّحدة كخطوة لإصلاح مجلس الأمن؟ لا بد من الثّناء هنا على السياسة الخارجية لدولة قطر في السّعي لإصلاح منظومة العمل الدولية بما فيها مجلس الأمن، إذ نادى سموّ الأمير في عديد المناسبات إلى تعديل آلية التّصويت في مجلس الأمن، وترأّست قطر والدنمارك جلستي المفاوضات غير الرسمية لإصلاح مجلس الأمن على أساس التعدّدية والتّمثيل العادل للدول جميعها. وإذا كان مجلس الأمن عاجزاً عن اتّخاذ القرارات، فإنّ دور المنظّمات الإقليمية والمتخصّصة يمكن أن يكون أكثر فاعليّة في مثل هذه الحروب. وشهدنا أمثلة على ذلك في تجميد عضويّة روسيا في عدد من تلك المنظّمات كمجلس أوروبا ومنظّمة التعاون الإقتصادي والتّنمية، كما أنّ العدوان من الجرائم الدولية، بموجب لائحة المحكمة الجنائية الدولية، التي تستدعي المسؤولية الدولية على الأفراد بصفتهم الشّخصية، وخضوعهم لاختصاص المحكمة الجنائيّة الدولية كما حدث في محاكم نورمبرج وطوكيو. مما قد يترتّب عليه مساءلة المسؤولين الروس عن جريمة العدوان في حال انتهاء صفتهم التّمثيلية، كما يمكن تجميد أصولهم وأموالهم الشّخصية في الدول بحسب أنظمتها الداخلية.
يبدو أنّ المجتمع الدولي يسير لاتّخاذ مجموعة من العقوبات السياسية والإقتصادية على روسيا لمخالفتها مبدأ حظر استخدام القوة، إضافةً إلى مبادئ القانون الدولي الأخرى كحلّ النزاعات بالطرق السّلمية ومبدأ المساواة في السيادة، وكان اعتبار حظر استخدام القوّة قاعدة آمرة في القانون الدولي لأنّ مخالفته تُهدّد مصالح دول العالم بأسرها وأمنها وسلامتها واستقرار العلاقات في ما بينها، لا أوكرانيا أو أي دولة بعينها فحسب.
بدأت روسيا غزواً عسكرياً واسعاً على أوكرانيا في 2022/2/24، فقد قامت بشنّ هجمات أدّت إلى قتل وإصابة مدنيّين، وألحقت أضراراً بالمباني المدنية، بما فيها المستشفيات والمدارس والمنازل وقعت هجمات عشوائية شكّلت انتهاكاً فاضحاً لقوانين الحرب التي ترقى إلى جرائم الحرب. وفرّ الملايين من الأوكرانيّين من منازلهم، ولجأ العديد منهم إلى خارج أوكرانيا.
وبالمقابل، توسّع نطاق الرقابة في روسيا على نطاقٍ كبير، حيث منعت السّلطات الوصول إلى العديد من المواقع الإعلامية المستقلّة على أساس منشوراتها حول الحرب وأغلقت وسائل الإعلام المستقلّة الرئيسية. كما اعتقل بشكلٍ تعسّفي آلاف المتظاهرين المناهضين للحرب في جميع أنحاء روسيا خلال الأسبوع الأوّل من الحرب، على الإتّحاد الأوروبي ودولة الأعضاء بذل كافة الجهود من أجل المرور السليم والآمن وتلقّي المعاملة العادلة لكافة المدنيّين الفارّين من أوكرانيا.
وتعتبر هذه الحرب الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية من حيث أهميّتها فهي تتعدّى الحرب بين دولتين هما روسيا وأوكرانيا، إنّما تمتدّ لتطال الولايات المتّحدة وحلفها الغربي بالكامل، بالاضافة إلى حجم الآثار المتوقّعة لهذه الحرب لا سيما الإقتصادية منها.
وإنّ الحالة الروسية الأوكرانية تشكّل حالة تناقض في المصالح، فمنذ استقلال أوكرانيا بدأت تنمو فيها مصلحتان قوميّتان تتناقض مع المصالح الروسية، الأولى نمو القومية الأوكرانية، والثانية التوجّهات السياسية للدولة ما يشكّل تهديداً لروسيا خصوصاً بعد انتخاب عام 2014 بحسم توجّهاتها تجاه الغرب، حيث تمتدّ أوكرانيا على 1200 كم من الحدود الروسية، ولا تبعد سوى 300 كم عن العاصمة موسكو، وذلك بالرغم من قيام روسيا بضمّ شبه جزيرة القرم رسميّاً بالقوة العسكرية ثم بالإستفتاء تحت إشرافها.
وقد أحدث الإجتياح الروسي لأوكرانيا في 2022 العديد من ردود الفعل على الصعيد الدولي والأوروبي، لا سيما لجهة مشروعيّة الغزو الروسي وموقف القانون الدولي.
وبالعودة إلى جذور الخلاف الروسي الأوكراني، نجد أنّها تعود إلى العام 2014 بعد سقوط الحكومة الأوكرانية القديمة والتي كانت تعرف بولائها لروسيا وتعتبرها روسيا حليفاً وشريكاً لها، وبعد سقوط هذه الحكومة على إثر مظاهرات شهدتها معظم شوارع المدن الأوكرانية، جاءت حكومة إعتبرتها روسيا موالية للغرب وحلف الناتو وتهدّد أمن روسيا في المنطقة. وهذا ما دفع روسيا إلى اجتياح جزيرة القرم وضمّها للأراضي الروسية في إجراء أحادي الجانب لا يعترف المجتمع الدولي إلى اليوم بمشروعيّته.
وقد شهدت الفترة الممتدّة ما بين 2014 وما قبل الغزو الروسي لأوكرانيا توتّراً وعدم استقرار في العلاقة بين روسيا وأوكرانيا. وقد بلغت ذروتها بعدما كثر الحديث عن مفاوضات بين حلف الناتو وأوكرانيا حول إنضمام الأخيرة إلى الحلف.
ومن ثمّ شهدت العلاقات بين الدولتين موجة من التّهديد والوعيد الروسي بأنّها لن تقف مكتوفة الأيدي إذا قامت أوكرانيا بالإنضمام إلى حلف الناتو وأنّها ستقوم بإاّخاذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على أمنها القوي والإستراتيجي. وقد وردت تقارير أمريكية أشارت إلى أنّ القوات الروسية تحضّر لعمليّة عسكرية كبيرة تهدف من خلالها إلى السّيطرة على أوكرانيا وإسقاط نظام الحكم الحالي واستبداله بحكومة موالية لها.
وبعد ذلك قامت القوات الروسية بالإعتراف بجمهورية دونيتستك ولوغانسك الشعبيّتين على أنهما دولتان مستقلّتان، وأتبعتها بعمليّة اجتياح لأوكرانيا بحجة حقها المشروع في الدّفاع عن نفسها وعن الروس المقيمين في إقليمي دونيستك ولوغانسك ضدّ ما وصفته بالإبادة الجماعية التي ترتكبها القوات الأوكرانية النازيّة على حدّ وصفها ضدّ السّكان الروس هناك.
نفت أوكرانيا الإدّعاءات الروسية واعتبرت الغزو الروسي انتهاكاً لوحدة وسلامة الأراضي الأوكرانية واستقلالها السياسي ولمخالفة روسيا الأعراف والقوانين الدولية وفي مقدّمتها منشور الأمم المتّحدة.
والسّؤال الذي يطرح هنا ما هي السيناريوهات المحتملة للحرب الروسية-الأوكرانية؟
لقد عملت روسيا الإتّحادية كدولة أوروبية بكافة جهودها من أجل استعادة مجدها ودورها على السّاحة الدوليّة وذلك بعد نهاية الحرب الباردة كقطب عالمي منافس للهيمنة الأمريكية. وبتولّي الرئيس (بوتين) سدّة الحكم، قام بتحديث الإستراتيجية الروسية وبدأت باعتماد نهج مختلف من خلال العمل على تحقيق عدة أهداف كان أبرزها إخراج روسيا من العزلة التي فرضت عليها في حقبة الحرب الباردة إلى جانب تطوير مختلف القطاعات العسكرية وإعادة هيكلة الإقتصاد واستعادة نفوذها الإقليمي الضائع بعد سقوط الإتّحاد السوفييتي. وذلك من خلال دول جوارها ولا سيّما أوكرانيا التي تشكّل نقطة التحوّل البارزة في الإستراتيجية الروسية الجديدة. وخاصةً أنّ أوكرانيا تعتبر محطّ اهتمام دولي لما تتمتّع به من ثروات وأصبحت محطّ أنظار وصراع وتنافس إستراتيجي عالميّاً. وهو ما جعل الأزمة الأوكرانية أعقد الأزمات الجيوسياسيّة بين القوى الكبرى (روسيا – الولايات المتّحدة الأمريكية والإتّحاد الأوروبي).
وبالإمكان اعتبار أنّ مواقف الدول السياسية وتدخّلها المباشر وغير المباشر(إعلان تأييد أو معارضة الحرب) يرسم ملامح ومحدّدات نتائج الحرب.
وممّا لا شكّ فيه، يعتبر موقف الولايات المتحدة الأميركية أساسياً في هذا الإطار كونها القطب الأفعل في التأثير على الساحة الدولية منذ سقوط الإتحاد السوفياتي السابق، ولهذا تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى عرقلة أيّ مسعى روسي لتغيير المعادلة المكرّسة منذ عام 1989. بمعنى آخر، تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى الحفاظ على أحاديتها القطبية ومنع تكريس ثنائية أو تعدّدية قطبية تهدّد مصالحها الدولية.
وتكمن أهداف الولايات المتّحدة في منع نجاح أي محاولة أو مسعى روسي لتغيير واقع النّظام العالمي الحالي بغضّ النّظر عن مستوى التغيير وإمكانية حدوثه، وحرمان روسيا من إمكانيّة إعادة نفوذها في دول الإتّحاد السوفييتي السابق، وإضعاف القدرات الإستراتيجية الروسية الإقتصادية والعسكريّة، والإستنزاف الإستراتيجي لروسيا من خلال توريطها في أوكرانيا عسكرياً وسياسياً في ظلّ توجّهات مشاغبة على سياسات الولايات المتّحدة دولياً.
وعمّقت هذه الحرب العداء بين روسيا وأوكرانيا وأعادت هيمنة الولايات المتّحدة الأمريكية على أوروبا وحقّقت ضربة قوية للإقتصاد الروسي. وبالتالي أثبتت قدرتها على السّيطرة على القرار العالمي.
هي معضلة الأخ الأكبر والأصعر في عالمي التّاريخ والجغرافيا. أوكرانيا بلد صغير بالنسبة إلى روسيا، تماماً كتلك العلاقة الإشكالية والمتأزّمة تاريخياً بين سوريا ولبنان. معضلة البلد الصغير في أنّه يشكّل عمقاً إستراتيجياً للبلد الكبير، ولكنّه في الوقت نفسه خاصرة رخوة له. كان خوف سوريا من لبنان أنّه في أراضيه تمّ التّخطيط للإنقلابات العسكرية المتتالية التي شهدتها سوريا في خمسينات القرن الماضي. هذه الخشية حذت بأن يكتب تعهّد في الدّستور اللّبناني بألاّ يشكّل لبنان مقراً أو ممراً لأي مؤامرة ضدّ أشقّائه العرب، وطبعاً كان المقصود ” سوريا”. على المنوال نفسه، تخاف موسكو من كييف، فمنها وعبرها وعبر نظامها السّياسي، إستطاعت أميركا والغرب مزاحمة بوتين سياسياً وتهديده عسكرياً. العقدة التاريخية الروسية تجاه أوكرانيا تتمثّل أيضاً في أنّ الأخيرة شهدت بروز أول حركة إنشقاقية عن الإتّحاد السّوفييتي عام ١٩٨٧. إذاً، هي معضلة ال big brother مضافاً إليها عوامل الإقتصاد والحسابات الجيو-سياسية، في عالم معقّد ومتشابك الأطراف.
كشفت الأزمة الأوكرانية – الروسية عدة قوانين دولية أو قوانين الحرب بشكلٍ خاص فما عاد بعد هذه اللّحظة يتمتّع القانون الدولي الإنساني بصفة الشّمولية. أما عن مجلس الأمن فبات مصيره شبيهاً بمصير عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى فلم يقم بمهمّته ولم يستطع حلّ النّزاع سلمياً ووجد نفسه مكبّلاً أمام المارد الروسي. بينما كان العالم منشغلاً بالاتّفاق النووي الإيراني الأميركي، صفع بوتين المجتمع الدولي فحاصر الأميركي وأدرك الإيراني بأنّه مع الجانب المخطئ وعليه إعادة حساباته.
في حين كانت الولايات المتّحدة الأمريكية تهيمن منفردةً على العالم لم يكن بمقدور أحد غيرها إستخدام القوة. أما الآن وبعد أن وصلت الهيمنة الأميركية المنفردة إلى نهايتها أصبح بمقدور غيرها إستخدام القوة أيضاً ما يوحي بأنّ النّظام الدولي على وشك الدخول في حالة فوضى وعدم استقرار إلى أن يتمّ العثور على نقطة توازن جديدة. فالقانون هو مظلّة الضّعفاء، أما القوة فهي آداة الأقوياء، لذا لن يكون بمقدور المجتمع الدولي أن ينعم بالأمن والإستقرار ما لم يقرّر الأقوياء في المجتمع الدولي إقامة نظام عالمي يضمن الأمن والإستقرار للجميع، الأقوياء منهم والضّعفاء، فإنّ إقامة نظام للأمن الجماعي يكون قابلاً للتّطبيق وهو ما لا يمكن أن يتمّ من دون إصلاح جذري للأمم المتّحدة وتلك هي الفريضة الغائبة الآن في المرحلة الرّاهنة من مراحل تطوّر النّظام الدولي.
الإعتبارات السّياسية الخارجية والسّياسية القانونية الخارجيّة التي تنتهجها الدولة والتي تتقدّم غالباً على التّطبيق البحت للقاعدة القانونية المجرّدة.
فالدّفاع الوقائي لا يفترض في حالات الإعتداءات القائمة والأضرار الحاصلة إنّما على العكس يستهدف منع الإعتداءات والأضرار التي يحتمل وقوعها مستقبلاً. وقد ذهب البعض إلى أنّ سرعة الأسلحة النوويّة وقوّتها التّدميريّة الهائلة تجيز ممارسة الدّفاع الوقائي لأنّه لا يمكن أن تطلب من الدول في عصر الصّواريخ والأسلحة الهيدروجينية أن تنتظر وقوع العدوان المسلّح عليها حتى يسمح لها بالدّفاع عن نفسها وأنّه بسبب التطوّر الكبير في التسلّح وعدم فعاليّة نظم الأمن الجماعيّة المعاصرة، أصبحت فكرة الدّفاع الوقائي مشروعة، ومقبولة في ممارسة أجهزة الأمم المتّحدة إذا توافر فيها شرط اللّزوم والتّناسب.
وإنّ الرأي السّائد أنّه لا يجوز إستخدام القوة توقّياً لعدوان وشيك الوقوع أي ما يعرف بالدّفاع الوقائي، وذلك بالإستناد إلى ما يلي:
– وقد اشترطت المادة 51 من ميثاق الأمم المتّحدة أن يكون الإعتداء مسلّحاً وذلك يشمل الإعتداء المسلّح المباشر والإعتداء المسلّح غير المباشر وهذا فيه حسم قاطع للمشكلة، وما يقال إنّ القانون الدولي التّقليدي كان يجيز استخدام القوّة في حالة الدّفاع الشّرعي الوقائي مردوداً، حيث إنّه قد أصبح غير جائز في ظلّ أحكام المادة الخاصّة بالشروط المتعلّقة بأحكام الدّفاع الشّرعي.
– وإنّ السّماح باستخدام القوة في حالة الدّفاع الشّرعي الوقائي من شأنه أن يفتح الباب أمام أعمال الإنتقام، والأعمال العدوانية تحت دعوى الدّفاع الشّرعي، ولعلّ ذلك فيه مخاطر تؤثّر على الإستقرار الدولي. أما ما يقال إنّ التطوّر الهائل في أسلحة الهجوم وبالذّات في ما يتعلّق بالأسلحة الذرّية والنوويّة فإنّه على الجانب الآخر يوجد أجهزة الإنذار المبكّر وغيرها مما يجعل الدول المستهدفة قادرة على اتّخاذ التّدابير اللازمة لمواجهة الهجوم إذا ما وقع.
– إنّ إستخدام القوّة في حالة الدّفاع الشّرعي يعدّ استثناءً على قاعدة حظر استخدام القوة في العلاقات الدولية، والإستثناء لا يجوز التوسّع في تفسيره.
– إنّ الحق في الهجوم الإستباقي في مواجهة عدوّ محتمل قد استبعده الميثاق في الفقرة الرابعة من المادة الثانية والتي تحظّر الإستخدام الأحادي للقوّة إلا إذا تمّ بتفويض من مجلس الأمن.
وفي ما يتعلّق بتطوّرات الحرب الروسية الأوكرانية، فإنّنا لا نرى أنّه سيصار إلى حدوث حرب عالمية ثالثة، إنّما نتوقّع أن يقوم الرئيس الروسي بوتين بتوجيه ضربات عسكرية مستخدماً الأسلحة النوويّة التكتيكية في حال واجه تجمعاً دولياً مقابل القوة الروسية، فيكون بمثابة تهديد بهدف تحقيق المكاسب، وسنكون أمام عدّة سيناريوهات:
السيناريو الأول: أن تحقّق روسيا الإتّحادية بعض أهدافها، وأهمّها تحويل أوكرانيا إلى دولة حبيسة، وضمان سلامة الجمهوريّات السابقة في شرقي أوكرانيا وجنوبي شرقيها، وتنظيم استفتاء على مستقبلها، مع استمرار النّزاع العسكري الروسي – الأوكراني مستمراً ومنخفض الحدّة، سواءً بدوافع للمجموعات النّازية الدّاخلية في أوكرانيا، أو بطلب وتوجيه من الولايات المتّحدة والقوى اليمينيّة الحاكمة في بعض دول أوروبا الشّرقية، مثل بولندا وسلوفاكيا وغيرهما، ومن دون التوصّل إلى اتّفاق سياسي لتسوية النّزاع.
السيناريو الثاني: أن يستمرّ النّزاع العسكري الروسي – الأوكراني مرتفع الحدّة، أكثر من مدّة العام المقدَّرة لانتهاء روسيا من تحقيق أهدافها، الأمر الذي سيُجبر روسيا على توسيع نطاق عمليّاتها والوصول إلى العاصمة كييف، وإسقاط النّظام النازي في هذا البلد. بيد أنّ ذلك السّيناريو مصحوب بكثير من المخاطر. فإحلال القوّات العسكرية الروسية لهذا البلد يعني عدم وجود أيّ ضمانات لتحويل هذا الوجود إلى قوة احتلال أجنبي قد تدفع حركات مقاومة وحرب عصابات محلّية ضدّ هذه القوّات المحتلّة، وهو أسوأ السّيناريوهات التي قد تتعرّض لها روسيا خلال هذا النّزاع، الذي قد يستمرّ على هذا النحو أعواماً طويلة، مكرِّرة تجربة الإتّحاد السّوفييتي في أفغانستان.
السيناريو الثالث: يُعَدّ السيناريو الثالث مزيجاً من السيناريو الثاني، السّابق عرضه، مضافاً إليه التأثيرات العكسية لاستمرار هذا الصّراع الروسي – الأوكراني أكثرَ من عام، في دول الإتّحاد الأوروبي ذاتها، واحتمالات تفكّك روابطه، وخصوصاً لدى دول ترى أنّ هذا الصّراع الضّاري كان حاجة أميركية وبريطانية أكثر من كونه ضرورة أوروبية. وهو شعور يتنامى لدى دول وشعوب، مثل ألمانيا وفرنسا والمجر وتركيا، وربما إيطاليا، وهو ما من شأنه أن يؤدّي إلى تفكّك الموقف الأوروبي الموحَّد تجاه الحرب، والموقف المتعنّت تجاه روسيا.
السيناريو الرابع: مع استمرار حدّة الصّراع العسكري في المسرح الأوكراني، أو ما بقي منه جيو – سياسياً، فإنَّ المرجَّح أن تنشط المبادرات السّياسية السريّة أو العلنية من بعض الدول الأوروبية أو الصين وربما الهند، من أجل البحث عن مخارج مقبولة، وطرح أفكار تؤدّي إلى وقف العمليّات العسكرية الروسية عند حدود ما وصلت إليه وحداتها، الأمر الذي غالباً سيكون بعد تجاوز نهر دنيبرو والسّيطرة على خاركوف، من دون الوصول إلى العاصمة كييف. وبدأت فعلاً، في الأسبوع الأخير من شهر أيار، بمبادرة إيطالية، وُصفت من الجانب الروسي بأنّها دون المستوى المأمول، من دون أن تلقى قبولاً من جانب المجموعات الحاكمة في كييف. والأرجح أن تأتي المبادرات التّالية بصيغة شبه جماعية، أي مقدَّمة من أكثر من طرف، عبر الإتّصالات الدبلوماسية الحثيثة (الصين ألمانيا، تركيا، الهند، فرنسا وبعض الدول الأوروبية… إلخ) مع قبول أميركي على مضض، خشية تضعضع التّحالف الأورو – أطلسي.
وهذا هو المرجّح من أجل البحث عن صيغة للخروج الآمن للقوّات الروسية حتى شرقي نهر دنيبرو، وبدء مفاوضات تحفظ ما بقي جيو سياسياً من أوكرانيا. والمؤكَّد أنّه من دون تحرير القوّات الروسية مدينةَ أوديسا وميناءَها، وقبل ذلك الإحتفاظ بإقليم خيرسون، لن تقبل القيادة الروسية أيّ تسوية. فهذا هو الحدّ الأدنى المقبول روسياً، بالإضافة بالطبع إلى تحقيق المطالب الروسية الأخرى، مثل تحييد ما بقي من أوكرانيا عن الإنضمام إلى حلف الناتو، والتخلّص من المجموعات النّازية ومن السّياسة النّازية لهذا البلد، وتحديد مستوى التسلّح فيها. أمّا شبه جزيرة القرم فستكون خارج أي نقاش أو تفاوض.
في ظل ما يشهده العالم من تطور على صعيد العلاقات الدولية، هل سنكون أمام ثنائية أو تعدّدية قطبية برعاية الحليف الصيني ؟ وما هو الدور الذي ستلعبه الصين على صعيد حل النزاعات الدولية؟
المراجع:
1. أسماء حداد، النموذج الروسي للحرب الهجينة في أوكرانيا، الخيارات والرهانات، مركز الكتاب الأكاديمي، عمان، 2020.
2. أنس محمد الطراونة، عودة فلاديمير بوتين والتحديات الروسية الغربية، دار الخليج للنشر والتوزيع، عمان، 2022.
3. أنمار موسى جواد، الحرب في السياسة الخارجية الأمريكية بعد الحرب الباردة، دار الأكاديميون للنشر والتوزيع، عمان، 2021.
4. بن عامر تونسي، العمل الدولي غير المشروع كأساس بمسؤولية الدولة الدولية، منشورات حلب، 1995,
5. حسين علي إبراهيم الفلاحي، العولمة الجديدة أبعادها، إنعكاساتها، الطبعة الأولى، دار غثياء للنشر والتوزيع، عمان، 2014.
6. ستيفن لي مايرز، القيصر الجديد، الطبعة الأولى العبيكان للنشر، الرياض، 2018.
7. سهيل حسين الفتلاوي، الموجز في القانون الدولي العام، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 2019.
8. طالب رشيد يادكار، مبادئ القانون الدولي العام، دار الشروق، القاهرة، 2009.
9. فاطمة هارون العمارات، العلاقات الروسية الإيرانية وأبعادها على الأمن القومي العربي (2011-2018)، الطبعة الأولى، دار الخليج للنشر والتوزيع، عمان، 2021.
10. كاظم هاشم نعمة، روسيا والشرق الأوسط بعد الحرب الباردة – فرص وتحديات، الطبعة الأولى، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2016.
11. ماهر عبد المنعم أبو يونس، إستخدام القوة في فرض الشرعية الدولية، المكتبة المصرية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2004.
12. مايكل كوفمان، كاتيا ميجاشيفا، براين نيشيبوروك، أندرو رادين، وليسيا تكاشيفا، جيني أوبيرهولتزر، عبر من عمليات روسيا في شبه القرم وشرق أوكرانيا، مؤسسة Randal، 2017.
13. محسن حساني ظاهر مديهش العبودي، توسيع حلف الناتو بعد الحرب الباردة، دراسة في المدركات والخيارات الإستراتيجية (الروسية)، دار الجنان للنشر والتوزيع، بغداد، 2013.
14. محمد الكوفي، الأزمة الأوكرانية وصراع الشرق والغرب جذور المسألة ومآلاتها، الطبعة الأولى، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2015.
“محكمة” – السبت في 2023/3/18

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!