أبحاث ودراسات

إتفاقيات استكشاف وإنتاج النفط والغاز اللبناني: ما لها وما عليها/إبراهيم العرب

المحامي الدكتور إبراهيم أسامة العرب:
تعتبر عقود النفط من أهمّ أنواع العقود التي تبرمها الدولة المنتجة للنفط مع شركات الإستثمار الأجنبية، وتظهر أهمّية هذه العقود في نواحي كثيرة، إذ إنّها تعدّ الركن الركين الذي تبنى عليه الموازنة العامة السنوية في غالبية الدول المنتجة للبترول في الشرق الأوسط.
كما وأنّ موضوعها الذي هو النفط ومشتقاته، كان ولا يزال السبب الرئيسي للتطوّر الإقتصادي وللتنمية البشرية الحاصلة في مختلف جوانب الحياة المختلفة.
وتتميّز عقود النفط عن بقيّة العقود الأخرى، سواء تلك المبرمة في إطار المعاملات الداخلية أم تلك المبرمة في إطار المعاملات الدولية من حيث المحلّ أو الموضوع الذي تنصبّ عليه العقود، ذلك أنّ عقد النفط ليس من العقود العادية التي تنصبّ على عملية واحدة وتنقضي بمجرّد تنفيذها كعملية شراء منزل أو بناء مصنع مثلًا، وإنّما يتضمّن عقد النفط استخراج واستغلال مورد هام من الموارد الطبيعية لفترات زمنية طويلة.
وكانت عقود البترول في بدايتها تعرف اختلالًا في التوازن لصالح الشركات الأجنبية المكلّفة بالتنقيب والإستغلال، ولم تكن عوائد الدول المنتجة توفي بالحدّ الأدنى لمعيشتها، ولكن بعد عقود من الزمن رجّحت الكفّة لصالح تلك الأخيرة، وأضحى البترول يشكّل أساس النهضة المنتجة للنفط، وباتت عقود البترول تحتل مكانة هامة في المنظومة القانونية الوطنية، ممّا أعاد اختلال التوازن من جديد ولكن هذه المرّة لصالح الدول المنتجة للنفط التي أظهرت ميلًا نحو ضرورة المحافظة على ثرواتها الطبيعية، وهذا ما دعا الشركات الأجنبية مع الدول المنتجة للنفط إلى السعي لتطوير عقود النفط بشكل يؤمن مصلحة الطرفين بشكل عادل ومنصف، وإلى السعي أيضًا إلى تطوير طرق تسوية منازعات هذه العقود، وتفعيل آلية التحكيم المتعلّقة به بشكل يعزّز حقوق الطرفين.
أمّا في لبنان، فقد بدأت رحلة البحث عن النفط عندما أصدر المفوّض السامي الفرنسي هنري دو جوفنيل قرارًا يجيز فيه أعمال التنقيب عن مناجم النفط والمعادن واستخراجها واستثمارها.
لاحقًا أجريت أبحاث ودراسات في شأن وجود النفط في لبنان أبرزها أعمال المهندس الجيولوجي الفرنسي لويس دوبرتريه منتدبًا من إدارة المناجم في فرنسا ومن المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي الذي أطلق مشروع المسح الجيولوجي.
فعلى مدى خمسة وعشرين عامًا بدءًا من العام 1930 عمل دوبرتريه ومجموعة من المساعدين له على تنظيم خريطة لبنان الجيولوجية بمقياس 200000/1. هذه الدراسة ساهمت في إضاءة بعض جوانب عمليات الإستكشاف النفطي، وقد تبيّن أنّ الأرض اللبنانية بسبب نوع الطيّات الموجودة فيها، تعطي أملًا كبيرًا في احتمال وجود النفط.
وفي العام 2002 جرى الإنتهاء من المسح الزلزالي الجديد الذي تبنتّه وزارة الطاقة والمياه وخرجت النتائج بانطباع إيجابي آخر حول إمكانية وجود النفط.
ولاحقًا جرت دراسات أخرى تركّزت في الجنوب بواسطة أكثر من شركة ومنها شركة نروجية، وتوصّلت هذه الدراسات إلى نتائج تؤكّد وجود كمّيات واعدة من النفط والغاز، ووفق التقارير الرسمية وغير الرسمية، فإنّ المسح الثنائي الأبعاد الذي أنجزته شركة “سبكتروم” عام 2002 في المياه اللبنانية (المنطقة الاقتصادية والمياه الإقليمية) أظهر نتائج إيجابية تدلّ على وجود كمّيات كبيرة من “الهايدروكاربونز”، أيّ يمكن أن تكون من النفط الخام أو الغاز. ثمّ جرت عمليات مسح ثلاثي الأبعاد من قبل شركات نروجية عامي 2006 و2007 وجاءت النتائج جيّدة جدًّا وتدلّ على وجود كمّيات واعدة من النفط والغاز.
ولذلك أصدر المشرّع اللبناني القانون رقم 132 تاريخ 24-8-2010 المتعلّق بالموارد البترولية في المياه البحرية، والذي يتألّف من عشرة فصول تضمّ 77 مادة تعالج كافة عمليات الترخيص والإستكشاف والإستخراج وآليات تقديم طلبات الترخيص والآثار البيئية والصحّية الناتجة عن عمليات الإستخراج وعائدات الدولة والشركات، والنصّ على إيداع العائدات البترولية في صندوق سيادي تحدّد لاحقًا طريقة إنشائه وإدارته ووجهة استثمار وتوظيف واستعمال العائدات.
وحدّد الإطار الزمني لاتفاقية الإستكشاف والإنتاج بـ 10 سنوات لمرحلة الاستكشاف و30 سنة لمرحلة الإنتاج، كما نصّ على إنشاء هيئة إدارة قطاع البترول.
كما أصدر المشرّع القانون رقم 163 تاريخ 18 آب 2011 المتعلّق بتحديد وإعلان المناطق البحرية للجمهورية اللبنانية، والذي يتألّف من 18 مادة حدّد من خلالها لبنان مياهه الداخلية وبحره الإقليمي والمنطقة المتاخمة والمنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري تطبيقًا لأحكام إتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار المعتمد في جمايكا بتاريخ 15 كانون الأوّل 1982، والتي انضمّت إليها الجمهورية اللبنانية بموجب القانون رقم 295 تاريخ 22-2-1994. كما حدّد خطّ الأساس للجمهورية اللبنانية باعتماد أدنى الجزر والخطوط المستقيمة التي تصل بين نقاط أساس مناسبة بما يتوافق مع أحكام القانون الدولي اعتبارًا من منتصف مصبّ النهر الكبير شمالًا وصولًا إلى نقطة خطّ الهدنة موضوع اتفاقية الهدنة لعام 1949 جنوبًا. وحدّد عرض البحر الإقليمي للبنان بمساحة 12 ميلًا بحريًا مقيّسة من خطّ الأساس. وتقع المنطقة المتاخمة وراء البحر الإقليمي وتلاصقه وتمتد 24 ميلًا بحريًا مقيّسة من خطّ الأساس. وحدّد المنطقة الاقتصادية الخالصة من خطّ الأساس وتمتد إلى أقصى الحدود المتاخمة على أن لا تتعدّى مسافة 200 ميل بحري وفقًا لأحكام اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. واستنادًا إلى هذا التحديد تبلغ مساحة المنطقة الإقتصادية الخالصة 22,730 كلم2 أيّ نحو ضعف مساحة لبنان.
والحقيقة أنّ الثروة النفطية تعدّ مصدر الطاقة الأساسي للبشرية جمعاء، وحتّى الآن تتحكّم بدرجة النمو الإقتصادي ومعدّله في كلّ دول العالم هي محلّ المشاركة أو العقد النفطي والتي تظهر فيها الدولة المنتجة للنفط (المضيفة) التي تتمتّع بامتيازات السلطة العامة بسبب ارتباط محلّ العقد بموضع السيادة الإقليمية، تجاه الطرف الثاني في العقد النفطي المتمثّل بالشركات النفطية التي كانت ولا تزال الطرف الوسيط والفعّال بين فريقي الإنتاج والإستهلاك (الدول المنتجة والمستهلكة).
وفي ما يتعلّق بلبنان، فبعد إقرار قانون النفط في العام 2011 جاءت خطوة تشكيل الهيئة الناظمة أو هيئة إدارة قطاع النفط لتشكّل الخطوة الأساسية الثانية من جانب لبنان الرسمي في هذا المجال.
ولا شكّ أنّ إقرار القانون وتشكيل الهيئة تعزّزان صدقية لبنان والمسار الجدّي الذي انتهجه مؤخّرًا في مجال الإهتمام بقطاع النفط، ممّا يعزّز الثقة أيضًا بلبنان من جانب الشركات الراغبة في التنقيب والاستثمار. ولهذا أُقرّ المرسوم 7968 تاريخ 19 نيسان 2012 (المتعلّق بإنشاء هيئة إدارة قطاع البترول)، والمرسوم رقم 9438 تاريخ 13-12-2012 (المتعلّق بتعيين مجلس إدارة الهيئة)، والمرسوم رقم 9882 تاريخ 16-2-2013 (المتعلّق بالتأهيل المسبق للشركات للإشتراك في دورات تراخيص الأنشطة البترولية).
وسوف يصبح لبنان من دول الـ “بترودولار”. والنفط ينتظر ساعة الصفر للخروج من قعر البحر، وهذه هي النقلة الاقتصادية التي ينتظرها بلد الـ 10452 كلم2، وربما تكون نقلة إجتماعية أيضًا، وربّما أيضًا، سيكرّس لبنان النفطي واقعًا ريعيًا يسيطر على مفاصل الاقتصاد، وواقعًا إستهلاكيًا يعزّز مفاصل الإنتاج، ولكن يمكن القول بأنّ بصيص الأمل هو أيضًا واقع.
وكانت الحكومة اللبنانية قد أقرّت في 27 كانون الأوّل 2012 إطلاق دورة تراخيص للبحث عن النفط في المياه اللبنانية. أمّا مرحلة الاستكشاف فهي تستغرق وقتًا طويلًا، وقد بدأت أوّل عملية تنقيب عن النفط في نهاية العام 2015 وما زلنا بانتظار مرحلة الإنتاج. وأكّد وزير الطاقة بأنّ “هناك شروطًا قانونية ومالية أهمّها أنّ المشغّل يجب أن يكون لديه موجودات مالية بـ 10 مليارات دولار، وغير المشغّل يجب أن يكون لديه موجودات مالية بقيمة 500 مليون دولار، إضافة إلى شروط تقنية يجب أن تتوافر لدى المشغّل في عملية تنقيب واحدة مثبتة وقائمة، ولغير المشغّل في عملية إنتاج نفطية مثبتة ضمن الشروط البيئية، والصحّة والسلامة العامة وتحترم المعايير والإجراءات والتدابير المثبتة عالميًا”.
ومن المعروف بأنّ العقود التي تبرمها الدول مع شركات الاستثمار الأجنبية عدّة أنواع، منها عقود الإمتياز وعقود الخدمة وعقود شراء المباع ( Buyback Contract) وعقود اقتسام الإنتاج. علمًا أنّ عقود الإمتياز التقليدية تشترط ألّا يجري أيّ تغيير في نصوصها، حيث لا تكون الدول المنتجة للنفط قادرة على مشاركة شركات النفط الأجنبية في اتخاذ القرارات بشأن حجم الإنتاج أو إدارة المشروع أو تحديد أسعار النفط أو رسم السياسة النفطية للدولة، تلك المشاركة التي من شأنها أن تحمي مصالح الشعوب في الدول المنتجة للنفط وتضمن التنمية فيها.
بيد أنَّ الأمر لم يبقَ على حاله حاليًا، فبعد أن طالبت معظم الدول المنتجة للنفط بإعادة فتح المفاوضات بشأن عقود النفط القائمة إستنادًا إلى نظرية تغيّر الظروف، قبلت الشركات النفطية الأجنبية بمبدأ الحقّ في المشاركة، مع التزام الدولة المستمرّ في العقود النفطية بمنح الحقوق الحصرية للشركات النفطية. وتعتبر الشراكة من أهمّ المواضيع التي عرفتها التطوّرات الاقتصادية في العالم مؤخّرًا، فلقد ساد مبدأ (العقد شريعة المتعاقدين) في العلاقات القانونية وعقود النفط المبرمة بين الدول المنتجة مع الشركات الأجنبية، بحيث لم تكن الدول المنتجة قادرة على التخلّص من الآثار غير المنصفة للعقود التي أبرمت في ظروف غير متكافئة بين الدول المنتجة والشركات الأجنبية بمشاركة شركات النفط الأجنبية في اتخاذ القرارات بشأن حجم الإنتاج أو إدارة المشروع أو تحديد أسعار النفط، أو رسم السياسة النفطية الدولية مثلًا، ما أدّى إلى أن تشعر الشعوب بأنّ حماية مصالحها وإن لم تكن بصورة كلّية، تكون من خلال المشاركة، فضلًا عن تنميتها وتطويرها، إذ إنَّ الاتفاقيات القديمة المحكومة بالمبدأ المذكور، تعدّ إكراهًا مسلّطًا عليها، لاسيّما وأنَّ هذه العقود قد منحت في ظروف لم تكن لدى البلدان المنتجة القدرات الاقتصادية والفنّية وكذلك القوّة التفاوضية لغرض عدم وقوعها تحت هيمنة الشركات الأجنبية.
وقد اختارت الدولة اللبنانية وجهة تمزج بين نظامي الإمتياز وتقاسم الإنتاج، في حين أنّه كان بإمكانها أن تبرم عقودًا من نوع شراء المباع (Buyback contract)، المعتمدة في إيران، والتي بموجبها يلزم المستثمر الأجنبي في قطاع التنقيب أن يستثمر رأس ماله الخاص وخبراته لتطوير حقول النفط والغاز الطبيعي بعد تطوير الحقول وبدء الإنتاج التجاري ويعود حقّ تشغيل المشروع إلى شركة نفط وطنية ولا يحصل المستثمر الأجنبي على حقوق ملكية للحقول النفطية والغازية ولا تتحمّل الشركة الوطنية أيّ مخاطر للإستكشاف.
كما كان بإمكان الدولة أيضًا أن تبرم عقودًا حديثة في مجال الصناعة النفطية كعقود الخدمة النفطية التي بموجبها تعمل الشركة الأجنبية مقاولًا في خدمة شركة وطنية وتتلقّى أجرًا منها. أضف إلى ذلك، فإنّ الكلّ يشكّك في نزاهة الإتفاقات النفطية اللبنانية ويؤكّد تأثير المحسوبيات عليها في ظلّ الفساد المستشري في كلّ مفصل من مفاصل الدولة، خصوصًا بعدما صرّحت شركة “إني” الإيطالية أنّ المسؤولين اللبنانيين طلبوا منها دفع مبلغ مئة مليون دولار أميركي عمولة لتنفّذ الأعمال وتبدأ أعمال الحفر. واحتلّ لبنان المرتبة 149 عالميًا من أصل 180 دولة في مؤشّر مدركات الفساد للعام 2020.
كذلك فإنّ قانون الموارد البترولية الرقم 132 يكتفي بالتطرّق إلى إمكانية إنشاء شركة وطنية مستقبلًا، دون تحديد دور الدولة في عملية الإنتاج، إضافة إلى الغموض في موضوع نسب الربح والعائدات، حيث يبلغ الحدّ الأدنى 4 بالمئة في لبنان طوال فترة الإنتاج، في حين أنّه يبلغ نسبة 13 بالمئة عالميًا. ناهيك عن عدم تحديد دور الشركة الوطنية التي يمكن استحداثها مستقبلًا، ولا صلاحياتها ولا كيفية تمكينها من أن تكون شريكة فعّالة في عملية الإنتاج.
وصحيح أنّه بتاريخ 2018/9/24 أقرّ اقتراح قانون مكافحة الفساد في عقود النفط والغاز تحت الرقم 84، إلّا أنّ القانون لم يحدّد العقوبات المفروضة على عدم الإمتثال للموجبات، فالمادة 6 على سبيل المثال تحظّر قيام أحد الأشخاص المحدّدين بحسب وظيفتهم بالإستثمار أو تولّي بعض المناصب في الشركات المؤهّلة والشركات صاحبة الحقوق النفطية والمقاولين الثانويين والمتعاقدين الثانويين مع هذه الشركات. وتفرض عليهم التصريح عن هذه الإستثمارات وعن الأسهم التي يملكونها فيها، دون أن تحدّد ماهية العقوبة المفروضة على المخالفين.
أمّا المادة 18 فقد وضعت قيودًا شديدة على حقّ الادعاء، حيث علّقته على إيداع قيمة التأمين المحدّدة بخمسة عشر ضعفًا للحدّ الأدنى للأجور، كما فرضت غرامة على المدّعي إذا تعذّر عليه إثبات وقوع جرائم الفساد، لا تقلّ عن عشرة ملايين ليرة لبنانية ومصادرة مبلغ التأمين.
ولذلك ينبغي علينا ألّا نعلّق آمالًا كبيرة على قطاع النفط والغاز لإنقاذ اقتصادنا المتعثّر، طالما أنّ الفساد ما يزال مستشريًا في لبنان، وطالما أنّنا لم نتوصّل بعد لإبرام عقود نفطية حديثة، ولم نعتمد رقابة فعّالة على هذا القطاع، أو نستحدث شركات وطنية ترفع من الإيرادات المحتملة لعملية الإنتاج.
“محكمة” – الجمعة في 2021/6/18

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!