أزمة الدين العام.. ما الحلّ؟/حسام مرتضى
المحامي حسام مرتضى:
تبيّن للأسف أنّ الأزمة المتعلّقة بعجز المصارف عن إيفاء المودعين أموالهم، ليست ناشئة عن فقدان المودعين للثقة وتهافتهم دفعة واحدة إلى المصارف لسحب إيداعاتهم، بل إنّ عشرات المليارات من الودائع غير موجودة فعلاً لدى المصارف، التي تقول إنّها اكتتبت بقيمتها سندات عبر مصرف لبنان الذي سلّم قيمتها للدولة التي عليها أن تدفع قيمة هذه السندات.
وقد تبلورت وجهة نظر في الحكومة، تستند الى آراء بعض الخبراء، تنادي بإلغاء جزء كبير من تلك السندات وتحميل قيمتها إلى المساهمين في المصارف التي تصبح بطبيعة الحال عاجزة ويصبح جزء من المودعين فيها، أصحاب أسهم في تلك المصارف بقيمة جزء من ودائعهم.
مصرف لبنان والمصارف يعارضون بشدّة هذا الطرح وبالأخصّ مسألة إلغاء جزء من الدين الذي يعتبرونه مخالفاً، لا بل يقضي على النظام الإقتصادي الحرّ وأنّه سيؤدّي إلى إنهاء إمكانية استقطاب أيّة رساميل إلى لبنان في المستقبل وأنّ هذا الطرح سيقضي على معظم المصارف التي تشكّل أداة دافعة للإقتصاد، ويعتبرون أنّ الدولة في حالة اعسار وليست مفلسة ولديها الكثير من الأصول التي يمكن تسييلها وإيفاء ديونها من خلالها.
وهذه هي حقيقة الخلاف الذي يظهر باختلاف الأرقام بين الحكومة ومصرف لبنان بالمفاوضات الحاصلة مع صندوق النقد الدولي.
مافيا الطبقة السياسية بالطبع وتحت شعار الدفاع عن ودائع المودعين، تدفع باتجاه الدفاع عن مصالحها، سواء في الحفاظ على قيمة مساهماتها في المصارف، وكذلك تستطلع إمكانية الإستفادة من مسألة تسييل أملاك الدولة ما يؤمّن فرصاً جديدة لمراكمة ثرواتها، وفي الأمرين همّها الأوّل والأساسي، الحؤول دون تحميلها تبعات أعمالها السابقة عبر ما يعرف باستعادة الأموال المنهوبة.
تجاه ما تقدّم، ألفت الإنتباه إلى عدّة ملاحظات أوّلية هامة تتمثّل بالتالي:
1- إنّ الدولة اللبنانية كانت تتحمّل خلال الأعوام السابقة عبئاً تبلغ قيمته ما بين خمسة مليارات إلى عشرة مليارات دولار سنوياً، خدمةً للدين العام، وبالطبع إنّ هذا العبء الهائل لا يقوى الإقتصاد المنكمش والهشّ على تحمّله، وإنّ رفع هذا العبء أو تخفيضه سيربح الإقتصاد وسيهيىء إمكانية النهوض الإقتصادي من جديد.
2- لقد ثبت أنّ القوّة الإقتصادية للإنتشار هي الرافد الأوّل للإقتصاد اللبناني بالعملات الصعبة وأنّ الاستفادة القصوى من تلك القوّة عبر الحفاظ على مصالحها وعامل الثقة بالإقتصاد الحرّ وسيادة القانون في لبنان سيبقى الأساس لأيّ انطلاقة إقتصادية جديدة.
3- إنّ الحفاظ على النظام الاقتصادي الحرّ وأوجه نجاحاته، ومنها القطاع المصرفي، الذي يشكّل الأداة المحرّكة للإقتصاد هو مسألة جوهرية في أيّ خطّة للخروج من الأزمة.
4- إنّ الإستناد إلى الدعم الإقتصادي الدولي للبنان لا يمكن التعويل عليه جدّياً لأسباب مختلفة منها التغيّرات الإقتصادية العالمية والإنكماش الإقتصادي العالمي فضلاً عن عوامل المصالح السياسية والصراعات الدائرة في المنطقة.
5- إنّ السياسة الإقتصادية التي كانت معتمدة على تمويل سداد الدين وخدمته عبر مزيد من الإقتراض، لا يمكن الإستمرار بها كونها السبب المباشر للإنهيار الإقتصادي الذي نعيشه.
وانطلاقاً من الملاحظات المار ذكرها، ونظراً لكون الدولة اللبنانية هي دولة صاحبة سيادة تمكّنها من اتخاذ تدابير استثنائية كصكّ العملة وفرض الضرائب ومحاسبة الفاسدين واسترداد الأموال المنهوبة، نجد أنّ هناك آليات ووسائل تمكّن الدولة من الخروج من الأزمة وذلك وفقاً لحلّ يضمن فقط ترتيب الأولويات والمسؤوليات،
وإنّنا في هذا الإطار نجد أنّ ملامح الحلّ تكمن في الآتي:
إنشاء صندوق سيادي يخصّص حصراً لإيفاء الدين العام اللبناني على أن تكون إدارة هذا الصندوق مناطة بخبراء اقتصادين على أعلى درجة من الإستقلالية والعلم والنزاهة والمهنية، وأن تكون مهامه التعامل مع الدين العام مفاوضةً وايفاءً وجدولةً، على أن تكون مصادر تمويل هذا الصندوق من الموارد التالية:
1- الأموال المتأتية عن استعادة الأموال المنهوبة، على أن يتمّ بشكل عاجل إطلاق حملة محاسبة شاملة تستند إلى آليات قانونية سريعة واستثنائية، تستهدف كلّ من تولّى أو تعاطى بالشأن العام أو تولّى أو تعاقد أو أدّى خدمة لصالح أيّ مصالح عامة منذ ثلاثين سنة وحتّى تاريخه.
2- حاصل اقتطاع نسبة لا تقلّ عن /50/% من قيمة الفوائد المحقّقة من قبل كلّ من اكتتب في سندات الخزينة أو أيّ سندات دين عامة، وهذا الإقتطاع الذي سيشمل بشكل أساسي المصارف والطبقة السياسية التي استفادت على مدى سنوات من الأرباح الناشئة عن هذا الإستثمار المربح.
3- إقرار قانون بإخضاع الفوائد المصرفية التي يجنيها اللبنانيون نتيجة إيداعات أموالهم في الخارج، على أن تبحث إمكانية أن تشمل الضريبة كافة مداخيل اللبنانيين في الخارج أسوة بما هو معتمد في الكثير من دول العالم، وهذا سيدفع اللبناني باتجاه إعادة إيداع أمواله في المصارف اللبنانية والاستعاضة عن الإستثمار الخارجي بالإستثمار في لبنان.
4- إقرار قانون باستحداث ضريبة تضامن تسدّد لمرّة واحدة وهي تشمل اللبنانين أصحاب الودائع المصرفية الكبيرة التي تزيد قيمتها عن عشرة ملايين دولار وذلك أيّاً كان مكان وجودها، وكذلك أصحاب الثروات الضخمة.
5- الإيرادات الناشئة عن أيّ بيع أو تسييل لأيّ ملك عام أو مخصّصة لأيّ مرفق عام، على أن تكون الخصخصة أو التسييل مرهوناً بتوفّر أفضل الظروف التي تحقّق أعلى مكاسب للدولة.
6- المساعدات والهبات أيّاً كان مصدرها.
إنّ جوهر هذا الإقتراح هو توزيع العبء بشكل عادل بدءاً من تحميل الجهات المسؤولة عنه أو المتسبّبة له بالدرجة الأولى، وصولاً إلى إرساء مفهوم التضامن بين اللبنانيين لتجاوز الأزمة،
علماً أنّ إيجاد حلّ لمشكلة الدين العام سيسمح بإعادة هيكلة الإقتصاد اللبناني على أسس سليمة تبعده عن الإقتصاد الريعي وتجعله قائماً على القطاعات الإنتاجية ما يؤسّس لنمو اقتصادي حقيقي ومستدام.
“محكمة” – الأربعاء في 2020/6/17