أسباب الأزمة المصرفية في لبنان وسُبل الحلّ/محمود عبد المجيد
محمود عبد المجيد:
إن الجذور التاريخية لسوء الإدارة وتفشي الفساد الإداري أدى إلى تفاقم الوضع في القطاع المصرفي اللبناني والذي بدورهِ تسبب في أزمة إقتصادية ومالية في لبنان.
بعد أن كان القطاع المصرفي اللبناني نهجاً يُدرس في كيفية نجاح الأنظمة المصرفية، بات اليوم حالة تُدّرس لناحية كيفية إنهيار القطاع المصرفي والنظام الإقتصادي والمالي لدى الدول، حتى وصف البنك الدولي الأزمة في لبنان بأنها الأكثر سوءاً في التاريخ الحديث.
بتاريخ ١٧ تشرين إندلعت في لبنان إحتجاجات تندد بالوضع الإقتصادي المزري، وبشكل متتابع ومنذ تاريخه إنخفضت قيمة العملة المحلية مقابل العملة الأجنبية. ولعلّ السبب الأبرز لهذا الإنخفاض يعود إلى تراجع القدرة على سداد الديون وتحويل الأموال، مما استتبع إرتفاع سعر المواد الغذائية والمحروقات، كل هذا بسبب سوء إدارة المصارف لديونها مما أفقدها التصنيف الإئتماني الجيد الذي كانت تتمتع بهِ. وإزاء تدهور التصنيف الإئتماني للمصارف واجهت البنوك اللبنانية مشكلة لناحية هجوم المودعين لسحب ودائعهم في الداخل والخارج، خصوصاً رجال أعمال من عرب وأجانب، مما أدى إلى ضعف السيولة بالعملة الأجنبية، وكلما إنخفضت قيمة العملة الأجنبية ينخفض العرض في السوق مما يؤدي إلى إرتفاع سعرها مقابل العملة الوطنية، الأمر الذي أدى إلى إنهيار الثقة في القطاع المصرفي، ودفع بالمصارف إلى فرض قيود على رأس المال وبالتالي الحد من عمليات سحب العملة.
وفي العام ٢٠٢٠، كانت جائحة كورونا بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، إضافةً إلى الإنفجار الذي شهده مرفأ بيروت في آب من نفس العام، الأمر الذي أدى إلى إرتفاع معدلات البطالة وتراجع النمو الاقتصادي وتفاقم الدين العام .
وبما أن المصارف تتأثر حكماً بالظروف الإجتماعية والأمنية والسياسية المحيطة، كانت هذهِ الأحداث كالنعش للقطاع المصرفي اللبناني.
للوهلة الأولى يظن البعض بأن أحداث ١٧ تشرين، وجائحة كورونا وإنفجار المرفأ هي الأسباب التي أدت إلى إنهيار القطاع المصرفي، إلا أن هذهِ الأسباب تعتبر غير مباشرة وذريعة ألقت عليها المصارف اللوم في إنهيارها، إلا أن السبب المباشر لإنهيار القطاع المصرفي في لبنان يعود إلى سوء إدارة حاكم المصرف المركزي للأزمة من جهة والمصارف لنشاطاتها من جهة أخرى.
أي أن الأساس في الإنهيار يعود إلى غياب تنفيذ وتطبيق مبادئ الحوكمة في المصارف ومبادئ الإفصاح والشفافية. وهذهِ المبادئ مفروضة على الشركات المساهمة، وبالتالي على المصارف التي فرض القانون عليها أن تتخذ شكل الشركات المساهمة، وذلك وفقاً لمنطوق المادة ١٢٦ من قانون النقد والتسليف التي تنص على أنهُ “لا يمكن أن يمارس المهنة المصرفية في لبنان إلا مؤسسات منشأة بشكل شركات مغفلة أو مساهمة”.
وبسبب غياب الرقابة الداخلية الفعالة في المصارف، والتي تقوم على مجموعة من القواعد والإجراءات والأساليب التي تسير عليها وتتخذها السلطات النقدية والبنوك المركزية والمصارف بهدف الحفاظ على سلامة المراكز المالية لها توصلاً إلى تكوين جهاز مصرفي سليم، وبالتالي الحفاظ على حقوق المودعين والمستثمرين.
إضافة إلى غياب تطبيق مبادئ الحوكمة والإفصاح والشفافية في المصارف اللبنانية وضعف تطبيق الرقابة المصرفية، فإن النهج الإقتصادي المتبع هو سبب من أسباب إنهيار الإقتصاد اللبناني وبالتالي القطاع المصرفي، فالمصارف في لبنان كرّست الإقتصاد الريعي الذي يقوم على تلقي الودائع من الجمهور مقابل فائدة ثابتة، الأمر الذي أدى إلى مسارعة المواطنين إلى وضع أموالهم على شكل وديعة مقابل ربح مضمون والمتمثل بمعدل الفائدة، مما أدى عملياً إلى غياب المبادرات الفردية والإستثمار في المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وبالتالي ضعف في حركة السوق وزيادة معدلات البطالة، كل هذا لم يكن ليحدث لو أن المصارف في لبنان فعّلت دورها الإقتصادي في تقديم النصيحة لوضع حدّ لهذهِ التصرفات من خلال تفعيل عقود الإئتمان والتي تقوم على فكرة إستثمار الأموال في مشاريع تجارية دون تجميدها على شكل وديعة.
ومن خلال الإطلاع على طبيعة العقود المصرفية، وفي المفاضلة بين عقود التسليف، التسنيد، الإئتمان، الوديعة والليزينغ، نجد أن النشاط الغالب على القطاع المصرفي في لبنان يتمثل بعقود التسليف والوديعة ونجد شبه غياب لعقود التسنيد ، الإئتمان والليزينغ، والتي تقوم على توفير السيولة اللازمة للإستثمار، وبالتالي تحريك السوق وخلق فرص عمل وأثر إيجابي على سعر صرف العملة الوطنية.
تلقي المصارف اللوم في هضم أموال المودعين على الدولة اللبنانية بسبب عجزها عن سداد ديونها الداخلية والخارجية، وبالتالي هي غير قادرة على توفير الأموال للمصارف من أجل ردها إلى المودعين، وبالتالي وتحت ذريعة “إفلاس الدولة” تتستر المصارف عن تصرفها بأموال المودعين وسوء إدارتها، فالمودع تعاقد مع المصرف مباشرةً وليس مع الدولة اللبنانية أو المصرف المركزي.
وممّا لا ريب فيه بأن السبيل الأول والسريع للخروج من المأزق الإقتصادي هو خلق بيئة مصرفية ملائمة يقبل بها المجتمع الدولي، يدفع بالدول المانحة إلى القبول بإعادة هيكلية وجدولة الديون إلا أن الإستدانة الإضافية ليست نعمة إنما تشكل نقمة وعبئاً إضافياً على المصارف نظراً لفوائدها العالية جداً.
كل هذا لن يكون ممكناً إلا من خلال هيكلية إدارية سليمة وتفعيل الإستثمار للأموال في مشاريع تجارية تشكل سفينة نجاة لإعادة إحياء ما تبقى من القطاع المصرفي والإقتصاد اللبناني، من خلال تفعيل مبادئ الحوكمة بحيث تعتبر المصارف المجال الأكبر لتطبيق مبادئ الإدارة الرشيدة وذلك لوجود ترابط متين بين القطاع المصرفي والوضع الاقتصادي ، فسلامة القطاع المصرفي تنعكس على سلامة الاقتصاد.
وفي سياق متصل، أصدرت لجنة بازل تقريراً تحت عنوان ” تحسين ممارسات الحوكمة في المؤسسات المصرفية ” تضمن توصيات مهمة لتعزيز حسن إدارة المصارف يجب الإلتزام بتطبيقها، ومن خلال تفعيل مبادئ الإفصاح والشفافية والرقابة الداخلية، ورقابة مصرف لبنان على نشاط المصارف، وتطبيق إصلاحات إقتصادية واسعة النطاق من خلال تحسين الإدارة المالية وتحسين بيئة الأعمال ومكافحة الفساد، ومن خلال تحسين النظام الضريبي وإعادة هيكلية البنوك التجارية عبر إندماجها وضبط الجرائم المالية من خلال تخفيف حدًّة السرية المصرفية.
وأخيراً يجب على المصارف اللبنانية والمصرف المركزي إيجاد صيغة مالية وخطة جدية وعملية لإعادة أموال المودعين والتحلّي بالمسؤولية الإجتماعية وعدم إلقاء ثقل الأزمة الإقتصادية بشكل كامل على عاتق أموال ومدخرات المودعين.
“محكمة” – الثلاثاء في 2023/10/17