مقالات

ألغاز قانونية وحلولها: القتل الاحتمالي والعدول عن إتمام الشروع فيه(الحلقة الأولى)/هيثم عزو

المحامي الدكتور هيثم عزو:
تزوجت (أ) من (ب) المتزوج أيضاً من (ج) وانتقلت من ثمَّ للعيش معه في ذات المنزل الزوجي الموجودة فيه معهم الخادمة (د).
بعد فترة قصيرة، بدأت الضُرّة (ج) تشعر بالغيرة الشديدة وتتحسّر على ما كانت فيه من دلال وسعادة قبل دخول (أ) على حياة زوجها، فحصلت نتيجة ذلك خلافات متكررة بينَ الزوجتين، وقد وصل الأمر بينهما الى حد الضرب والعنف الجسدي.
ونتيجةً لذلك، قرر الزوج استئجار منزل مستقل لزوجته الاولى (ج) وذلكَ لوضع حد للإشكال اليومي بينها وبين زوجته الثانية (أ) والذي ترك معها الخادمة (د) في المنزل.
استشاطت الزوجة الاولى غَيظاً وغضباً من فعل زوجها وهو ما جعلها تفكر بالانتقام من ضرّتها التي خرّبت معيشتها، فاتصلت بزوجها معلمةً اياه بأنها قررت بعد تفكير تقبُّل الواقع وبأنها ستسعى لبناء علاقة صداقة مع ضرّتها وإعراباً منها عن حسن نيّتها ستقوم غداً صباحاً بإعداد بنفسها وجبة الفطور الى الجميع ودعته الى ارسال لها الخادمة (د) لتنام عندها من أجل مساعدتها صباحاً في إعداد وجبة الطعام.
وبالفعل، وصباح اليوم التالي قامت الزوجة (ج) بإعداد الفطائر، ومن ثمَّ دسّت السم في أكبر فطيرتيّن وطلبت من الخادمة (د) نقلها الى منزل زوجها حيثُ تقيم ضرّتها (أ) وطلبت منها ان تقدِّم هناكَ الفطيرتيّن الكبيرتين لضرّتها، كتعبير منها اليها عن بداية صفحة مودة بينهما، على ما قالته للخادمة.
اثناء الطريق اشتهت الخادمة (د) احدى الفطيرتيّن الكبيرتين، فقامت بالتهام واحدة منهما وحين وصولها الى منزل مخدومها، قامت بوضع الفطيرة الكبيرة الثانية على طبق الزوجة الثانية (ج) والتي قامت بتقاسمها مع زوجها.
في هذه الأثناء تراءى للزوجة الأولى انَّ خطأً ما قد يحدث، وقد يأكل زوجها من احدى الفطيرتيّن المسمومتين، فما كانَ منها إلاَّ ان اتصلت به على رقم هاتفه ولكن دونَ جدوى لكونه كانَ خارج الخدمة.
وهنا اتصلت الزوجة (ج) على الفَور بالاسعاف ودعته للانتقال سريعاً الى منزل زوجها وما ان وصلَ المسعفون الى هناك حتى وجدوا الجميع غائباً عن الوعي، بحيثُ تم نقلهم بصورة طارئة الى العناية المركّزة في المستشفى ولكن شاءَ القدر أن يموت الزوج والخادمة وأن تنجو الزوجة (أ).
هل تُجرَّم (ج) بقتل زوجها والخادمة، بالرغم من كونها لم تقصد في الحقيقة تسميمهما وإنّما قتل ضرّتها فقط، وبدليل محاولة تدارك الأمر بالاتصال بزوجها وايعازها للخادمة بوضع الفطيرتين الكبيرتين (المسمومتين) في طبق ضرّتها فقط؟!
وهل يمكن مساءلتها قانوناً، فيما لو كانت قد أقدمت من تلقاء نفسها بصحوة ضمير على الاتصال بالخادمة قبلَ أكلها الفطيرة والطلب منها رمي الفطيرتيّن الكبيرتيَن، لكونهما مسمومتيّن؟!
انَّ حل هذا اللغز يستوجب البحث في نوع القصد الجرمي في الجريمة الحاصلة لتحديد المسؤولية الجزائية وفي الأثر القانوني على العدول الارادي عن اقتراف الجريمة الحاصلة.

هذا الموضوع يوجد في الحقيقة بشأنهِ اختلاف فقهي واجتهادي وتضارب بين النظريتين الموضوعية التي تركّز على (الفعل الحاصل بحد ذاته)، دون الارتكان (لسلوك شخص الفاعل) وبينَ النظرية الشخصية التي تقوم على العكس.
وغنيٌّ عن البيان أنَّ الجريمة الخائبة أو المستحيلة هي تلك التي تتمخَّض عن اكتمال كافة الأعمال التنفيذية لحصول النتيجة الجرمية ولكن يخيب الأثر بذلك لسبب خارج عن إرادة الفاعل، استحال معه تحقق النتيجة التي كان يتوخاها؛ وهي بهذا المعنى تُعَد أحد أنواع (المحاولة الجرمية التامة أو ما يسمى بالشروع التام للفعل الجرمي) والذي بموجبه يقوم الجاني بكل نشاطه الإجرامي في سبيل بلوغ النتيجة التي يعاقب عليها القانون ومع ذلك تفلت هذه النتيجة من التحقق لسبب خارج عن إرادته، (رغم استخدامه في الواقع والحقيقة الوسيلة الجرمية).
وفي نطاق القضية المطروحة موضوع اللغز القانوني، نشير بأنّهُ إذا كانَ يقتضي التمييز في هذا الصدد بين أثر الاستحالتيّن المادية والقانونية ونتيجتهما القانونية، فإنّهُ مع ذلك يقتضي وجوباً عدم التغافل في التمييز في هذا الشأن بين الاستحالة المطلقة (عدم وضع السم) والاستحالة النسبية (وضع كمية قليلة من السم) وأثرهما القانوني على تحقق قيام الجريمة أو لا.
بدايةً لا بدَّ من التذكير والتنويه بأنهُ لا يكتمل البنيان القانوني للجريمة ولا تترتّب أثارها ما لم تتوافر مجتمعةً أركانها الثلاثة الشرعي والمادي والمعنوي.
وفي هذا الصدد يعبِّر الركن المعنوي للجريمة في الواقع عن الصلة النفسية بين الفاعل والفعل المرتكب والذي يُعَد سبباً لتحقيق النتيجة الجرمية وذلكَ بصرف النظر عن الدوافع والبواعث التي حملت الفاعل على اقتراف الجريمة والتي لا تُعَد قانوناً عنصراً من عناصر التجريم إلا في الأحوال التي عينها القانون حصراً وان يكن من شأنها أن تشدِّد العقوبة أو تخففها بحسب ما اذا كان الباعث شريفاً أو غير شريف.
وغني عن البيان أنَّ الركن المعنوي للجريمة قوامه قانوناً الخطأ أو القصد أو العمد وذلكَ بحسب كيفية تحقق الجريمة، فعلى سبيل المثال في حالة الصدم المؤدي للوفاة يكون الخطأ الناتج عن الإهمال في مراعاة قواعد السلامة المرورية هو الركن المعنوي أو ما يطلق عليه فقهياً تسمية التسبب بالوفاة الناتجة عن قلة الاحتراز، بينما يكون القصد هو الركن المعنوي في حالة حدوث جريمة القتل نتيجة فورة عصب أو ما يطلق عليه فقهياً تسمية القتل بدم حار، في حين يكون العمد هو الركن المعنوي لجريمة القتل في حال حدوث الجريمة عن سبق إصرار وتصوَّر وتخطيط أو ما يطلق عليه فقهياً تسمية القتل بدم بارد وذلكَ لاتخاذ قرار ارتكاب الجريمة والشروع بالتصميم على تنفيذها في حالة نفسية هادئة أو حالة تفكير متروي، ومن الطبيعي أن تتطلب هذه الحالة مدة زمنية كافية قد تطول أو تقصر.
وما يثير عادةً الالتباس في حالات القتل هو طبيعة ونوع القصد الجرمي, ذلكَ أنَّ هذا القصد قد يكون مباشراً (الأصيل) أو غير مباشر (أو الاحتمالي) والفرق بينهما هو أنّه في الأول يفترض فيه توقع الفاعل حدوث النتيجة الجرمية على نحو يقيني كأثر أكيد ولازم لفعله وسلوكه الجرمي الذي ثابرَ بصورة جازمة عليه لتحقيق مراده فيه، بينما في الثاني يفترض توقّع الفاعل حدوث النتيجة الجرمية المرجّحة الوقوع على نحو غير أكيد بحق شخص، ومع ذلك يمضي في تنفيذ فعله، راضياً بتحمل المخاطرة. وعلى ذلكَ فإنّه في القصد المباشر الأساسي تتجه فيه إرادة الجاني على نحوٍ مباشر إلى إحداث النتيجة المتوخاة منه، بينما في القصد غير المباشر الاستطرادي لا تتجه فيه إرادة الجاني الى احداث النتيجة غير المرغوب بها ولكن يتراءئ فيه حدوثها ومع ذلك يرحِّب ويرضى بتحمّل عواقبها في سبيل تحقيق غرضه المباشر من الجريمة (أي من أجل تحقيق النتيجة الأصلية المرغوب إحداث أثارها من فعله الجرمي)؛
وبذلك يقوم القصد المباشر على عنصرين (العلم بالنتيجة الجرمية وإرادة تحقيقها)، بينما يقوم القصد الاحتمالي على عنصرين (توقّع النتيجة الجرمية وقبول المخاطرة بحدوثها).
وفي هذا الصدد، يقتضي التعريج أيضاً على القصد المتعدي والذي يكون في كل مرة تتجاوز فيها الجريمة القصد الذي توافر لدى الجاني حين اقدامه على الفعل، أي في حال انصراف إرادة الجاني الى نتيجة جرمية قاصداً تحقيقها، بيدَ أن النتيجة التي تحققت جاءت أكبر من النتيجة المقصودة أصلاً منه وأشد جسامة، متخطيةً بذلك حدود ما ابتغاه ولو لم يتوقعها ولو لم يردها.
وهذه الجريمة المتعدية القصد تحتل مرتبة وسطى بين الجريمة المقصودة غير المباشرة والجريمة غير المقصودة. وهذه الأخيرة تكون في كل مرة لا يقصد فيها الفاعل إتيان الفعل ولكن دون ان يقصد بتاتاً تحقيق النتيجة الجرمية الحاصلة عن عدم حيطة وحذر، والذي لم يتوقع اطلاقاً حدوثها ولكن كان من واجبه توقّعها أو كان بإمكانه ذلك والحيلولة دون وقوعها أو توقَّع أنه بإمكانه اجتناب حدوثها، متكلاً بذلك على مهاراته التي خذلته (كمن يطلق النار خلال رحلة صيد على طير ولكن أصاب انساناً كان في مرمى ميدان اطلاق النار بطريق الخطأ ونتيجة عدم الاحتراز أثناء تنفيذ الفعل، فأرداه قتيلاً دون قصد ذلك وحصول النتيجة بالتالي بدون اتجاه الإرادة لذلك، فيكون قد قصدَ فعل اطلاق النار دون أن يقصدَ النتيجة الجرمية المتمثّلة بإزهاق روح انسان.
أمَّا في ما خصَّ النتائج القانونية المترتبة على الجريمة، فتختلف شدة العقوبة بشأنها بحسب ما اذا كان القتل قد حصلَ عن خطأ أو قصد أو عمد.
وفي هذا الشأن لم تميّز التشريعات الجزائية بشكلٍ عام في المسؤولية الجنائية في حال كانَ القصد مباشراً أو احتمالياً، فساوت في العقاب بينهما ولكن أعطت أسباباً مخففة في حال كان القصد متعدياً للنتائج المتوخاة، وخفّضت العقوبة كثيراً في حالة الخطأ.
وعلى المستوى التشريعي في لبنان، تنص المادة 190 من قانون العقوبات على أنَّه يكون الخطأ إذا نجم الفعل الضار عن الإهمال أو قلة الاحتراز أو عدم مراعاة الشرائع والأنظمة; بينما نصت المادة 189 منه على أنّهُ تعدّ الجريمة مقصودة وإن تجاوزت النتيجة الجرمية الناشئة عن الفعل أو عدم الفعل قصد الفاعل، إذا كان قد توقع حصولها فقبل بالمخاطرة; بينما نصت المادة 191 منه على أنّهُ تكون الجريمة غير مقصودة سواء لم يتوقع الفاعل نتيجة فعله أو عدم فعله أو عدم فعله المخطئين وكان في استطاعته أو من واجبه أن يتوقعها وسواء توقعها فحسب أن بإمكانه اجتنابها.
وكذلك نصت المادة 206 منه على أنّهُ إذا وقعت الجريمة على غير الشخص المقصود بها، عوقب الفاعل كما لو كان اقترف الفعل بحق من كان يقصد.
ويُلاحظ في هذا الصدد بأنَّ المشرع الوطني ألحق قانوناً القصد الاحتمالي بالقصد المباشر وساوى بينهما في المسؤولية والعقاب، ما دام الفاعل في القصد الاحتمالي قد توقع النتيجة فقبل بالمخاطرة، أي قبلَ بالنتيجة مهما كانت اثارها.
إلا أن المشترع استدرك مسألة عدم رضى الجاني بحصول النتيجة مقدّماً، وعدم اتجاه ارادته إليها بتاتاً، جاعلاً في هذه الحالة الجريمة غير قصدية والتي تختلف عقوبتها بطبيعة الحال عن الجريمة القصدية ومهما كان نوع القصد فيها.
وغني عن البيان بأنَّ القانون تصدّى للحالة التي تتم فيها جميع الأعمال الرامية إلى اقتراف الجريمة الجنائية والتي لم تفضِ إلى مفعول بسبب ظروف لا علاقة لها بإرادة الفاعل وذلكَ في المادة 200 من القانون المشار اليه والتي نصّت على أنَّ: “كل محاولة لارتكاب جناية بدأت بأفعال ترمي مباشرة إلى اقترافها تعتبر كالجناية نفسها إذا لم يحل دون إتمامها سوى ظروف خارجة عن إرادة الفاعل وتاركاً في هذه الحالة للمحكمة إمكانية تخفيض العقوبة لعدم حصول النتيجة الجرمية.
وكذلك تصدّى لمسألة العدول الارادي الاختياري من الجاني عن اقتراف الجريمة الذي بوشرَ بها، فأعفاه من العقاب كلياً ما لم يكن الفعل الذي أقدمَ عليه يشكِّل جريمة بحد ذاته وان لم تتحقق الجريمة وذلكَ بنصّهِ في المادة المشار اليها على أنَّه مَن شرع في فعل ورجع عنه مختاراً، لا يعاقب إلا للأفعال التي اقترفها وكانت تشكل بحد ذاتها جرائم.
وبالعودة الى واقعات القضية المطروحة أعلاه، ينجلي بوضوحٍ منها أن الجانية (ج) قد توفر لديها قصد عمدي بالنسبة لضرتها وقصد احتمالي بالنسبة لزوجها والخادمة وفقَ الشرح المشار اليه أعلاه، فتلاحق بجريمة القتل المقصود بالنسبة لزوجها والخادمة، ذلكَ أنّهُ تراءت لها النتيجة أثناء تنفيذ فعلها الجرمي، بدليل محاولة اتصالها هاتفياً بزوجها، فقبلت مع ذلك بالمخاطرة ولا عبرة للاتصال في هذه الحالة كونه لم يؤدِ قانوناً الى قطع الصلة السببية بين الفعل الجرمي والنتيجة الحاصلة، أي لم يتمخّض عن ذلك الأمر عدم إتمام الجريمة وحصول نتيجتها على أرض الواقع.
أمّا عن ضرتها التي نجت بفعل القدر، فتلاحَق بالشروع في القتل (أي بمحاولة القتل) ذلك أنَّ النتيجة الجرمية التي كانت تتوخاها في هذا الشأن لم تتحقق لظرف قدري خارج عن إرادتها.
أمَّا في حالة استدراكها لفعلها الاجرامي قبل تحقق النتيجة الجرمية لفعلها المقصود عن طريق الطلب من الخادمة رمي الشطيرتين السامتين وعدم تقديمهما للأكل، فلا مساءلة عقابية عليها في هذه الحالة لتوفر التوبة الفاعلة بعدولها الاختياري عن تحقيق النتيجة الجرمية، أي لعلَّة عدم تحقق نتيجة الفعل غير التام والمشروع فيه، وذلكَ لسبب يتعلق بالجانية نفسها وليس لسبب خارج عن ارادتها وبالتالي عدم مساءلتها وعدم عقابها.
ويختلف الأمر اذا كانت قد أقدمت من تلقاء نفسها بعد إتمام الفعل على إعطاء دواء أو ترياق للمجنى عليهما، بحيثُ أدى ذلك لنجاتهما، فتكون قد أحدثت رغم ذلك ضرر جسدي لهما، فهنا تلاحق بجريمة الايذاء الجسدي وليس بمحاولة القتل التي عدَلت عنها بإرادتها الحرة قبل تحقق النتيجة بشأنها وهذه سياسة تشريعية توخّى المشترع من خلال إعدام المساءلة الجزائية أو تخفيفها تشجيع المحاولين على الجرائم الى الرجوع عنها قبل فوات الاوان.
“محكمة” – الأحد في 2023/10/1

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!