ألكَيْس السياسي/عصام كرم
النقيب عصام كرم:
ألكَيْس السياسي…كم ينقصنا في لبنان!الخطاب الحالي من “لاهوت” المسؤولية يستبدّ بالألسٌنيّة السياسية. طبعاً … مع بُعْد الشبه بين مرارة اللسان الراقية التي واكبت عبارة سوييتون Suétoneالروماني والجاحظ العربي وفولتير الفرنسي وبرنار شو الإنكليزي … “فيري بْريتيش”.
اللسان “الفالت”.. والعبارة عامّيَّة.. يوسّع مداه يوم يشعر أنّ المجالس بالأمانة. فيُقال، إذذاك، كلّ شيء حتّى تحريم المحلَّل واستباحة المَصون. عبد الحميد كرامي كان معارضاً حكم بشارة الخوري، وكان، في مِرْياطه، يُطلق لسانه رحراحاً في انتقاد الحكم والحكومة والرئيس و”الشيخ سليم”، وهو يعلم، أو لا يعلم، أنّ من الذين يحكي أمامهم بعضاً من “أصدقاء” القاعد هانئاً في فرن الشبّاك. يومذاك … ما كان تسجيل الكلام ميسوراً. كانت تُكتب التقارير. اليوم، صار التسجيل بالصوت والصورة . تَعَوْلم الإعلام. وصارت مكنونات الصدور منشورة على السطوح. وصار المتضرّر يستكفي بالإعتذار. لأنّ الإعتذار، يقول البابا فرنسيس، يمدّ الجسور. ولأنّ الإعتذار يجعل المخطىء في موقف المُقرّ بذنبه. مع أنّ القويّ وحده يعتذر.
مكنونات الصدور تجلب المتاعب. وليد جنبلاط عن “الصنف العاطل”. ستريدا جعجع عن “البَطل” المجترىء على الزغرتاويين . جبران باسيل عن بلطجة نبيه برّي وعن وجوب تكسير رأسه. ناسٌ في المسؤولية يهرقون مستوى الخطاب العام. مع أنّ لسان الناس في أقفية الناس ليس حكراً على لبنان . كاتبٌ فرنسي… فاتني إسمه … كان يقول: لو عرف كلّ الناس ماذا يقول كلّ الناس عن كلّ الناس، لما عاد أحد يتكلّم مع أحد. هذا إذا لم يكن المتكلّم “المرتاح” مسؤولاً ورئيس الدبلوماسية؟!
لا! لا الكلام الفلْت مقبول. ولا الردّ على الكلام الفَلْت مقبول. والحكي عن “طابور خامس” يذكّر بالحكي عن “عناصر غير منضبطة “. بدليل ما إن تراضى العرّابان حتّى تَلمْلَم “الفلايين”. أنا سجّلت لـ ميشال عون بادرة أخذ المبادرة. لأّن كبير القَوْم، عندي، لا يضمر الحقد. ولأنّ الناس كوّنوا قناعة: أنّ ما يتورّع عنه الرأس يتولاه الأعضاء. قد يكون الوضع غير ذلك أحياناً. لكنّ الذهنية الباطنية استبْقت أن كلام “الشيخ سليم” هو كلام الشيخ بشارة. وأنّ كلام هنري الطرابلسي ونعيم مغبغب وإميل معتوق هو كلام كميل شمعون. وأنّ كلام المكتب الثاني هو كلام فؤاد شهاب. وأنّ كلام طوني فرنجيّة وطانيوس الشْمِرّ هو كلام سليمان فرنجيّة. مثلما كلام جاريد كوشنير هو كلام دونالد ترامب. ومثلما كلام ديك تْشيني هو كلام جورج دبليو بوش. مع أنّ بوش لم يكن عنصرياً. ألعنصري كان تْشيني. الأعضاء “يبقُّون البحصة” بالوكالة عن الرأس.
* * *
بقّ البحصة؟ ما أحد عندنا يبقّ البحصة. ربما للتظاهر بالتحلّي بدفء اللســـــــان؟! ولـ”بقّ البحصة” قصّة. أُسقف ماروني كان يرافقه شمّاس سليط اللسان. فنبّهه الأُسقف. لكنّ لسان الشمّاس كان يسبقه في الكلام. فنصحه المطران بأن يضع بحصة تحت لسانه. ففعل. فاستقام اللسان. وكان الأُسقف يطوف بأبناء الرعية.. أو الأبرشيّة مرّةً في السنة. في طواف صيفي … وما كانت السيّارة متوافرة بعد … صعد الأُسقف والشمّاس إلى قرية في جبل عال. فبارك وصلّى. ونزل إلى السهل. وما إن وصل إلى آخر النزلة حتّى نادته امرأة كان زارها … نادته بلهجة هَلُوْع. فظنّ في الأمر خَطْباً. فعاد يصعد إلى الجبل في عزّ الظهيرة. فوصل والشمّاس والعَرَق يغسلهما. فاستوضح المرأة قلِقاً. فقالت: “يا سيّدنا، نْسيْت قِلّك تِفشَخْ ها لقِرْقة”. فالتفت المطران إلى الشماس يقول: يا شِمّاس، بِقّ البحصة.
لذلك … بَقّ البحصة صعب عليهم في الساحات. في المجالس. لكنّ الشعب الملتفت إلى أزماته وإلى شيئين يرى مسؤوليه سادرِيْن فيهما، هما العجز واللاّمبالاة. ألشعب…هو، سيبقّ البحصة. نُعدِّد؟ من الكبيرة إلى الصغيرة. السلسلة أرادوها حَلاًّ. فكانت مسألة. قانون الإنتخاب كتبوه … ويتلون فعل الندامة في ذهابهم إلى تعديله. الزبالة تجاوزت البرّ إلى البحر. وهنا … أسأل: كيف كانت قصّة الزبالة نائمة قبل حكاية مطمر الناعمة؟ الكهرباء من نَحْس إلى أنحس. ألماء. ألفساد، وقد تَعَوْلم الفساد مع تَعَوْلُم اللامبالاة.
ألشعب سيبقّ البحصة… إلاّ إذا بقّها رئيس الجمهورية مسميّاً ناشراً الأسامي والحقائق على … الأعمدة والأسلاك!
أنا على قناعة بأنّ لكلّ مسألة حَلاًّ. بشرط توافُر الهمّة والإرادة عند الحَلاّل إلى جانب الإبداع والموهبة والنزاهة. فمن اشتهى انتهى. ومن سعى إلى الكسب الحرام في مسعاته إلى الحلول يؤوب بأوّل الأجرَيْن … فينال الكسب المشبوه ويقصّر دون الحلّ المرتجى . كينيدي تلافى حرباً كونية ثالثة في قضيّة الصواريخ إلى كوبا في سنة 1962، لأنّه غلّب العقل على الأعصاب. ألحرب الكونيّة الأُولى كان ممكناً تلافيها.
الإنسان يظلّ صانعاً إذا أراد. قبل التوحيد كان هو الصانع. هو الخالق. المهابهاراتا والرمايانا الهنديتان ملحمتان أوجدتا عالماً. الإلياذة وألأُوديسي جعلتا من هوميروس خالقاً. أستغفر الخالق! ألـ إينييد وضعت فيرجيل في مصاف صانعي الوجود. بعد التوحيد… بعد إبراهيم الخليل … صار الإنسان مصنوعاً. صار مخلوقاً. نزل عن أريكة الصانع الخالق غصباً عنه. ولولا المرض والموت لأعلن الإنسان الحرب على اللّه. مثلما فعل “الجبابرة ” في قصص العهود القديمة.
* * *
الحريّة ليست مسألة. ألحريّة نعمة من اللّه . حرّية الرأي. حريّة المعتقد. حرّية العقيدة. ألريشة حرّة … كَتبت في طِرْس، أو رَسمت في خامة. لكنّ الحرّية يجب أن تكون مسؤولة. أنا أعرف، عندما أقرأ، في أيّ محبرة غطّ الكاتب ريشته. وأعرف، عند سماعي كلّ صوت، مَن يكون الملقّن وماذا يكون رَجْع الصدى. ألحرّية المطلقة؟ بلى! على أن تكون مسؤولة.
* * *
ألتلاقي كان بين المتجافين. والمسائل العالقة حُلّت… ولا علاقة لكلّ هذا بالدستور وبالقانون. فالدستور والقانون … والمحظور… كلّها ضحايا المصالحات السياسية والصفقات. مثلما الحقيقة ضحية الحروب. ومثلما الله ضحية حروب الدِّيْن. أن تقوم حرب باسم اللّه ولمصلحة اللّه؟ أنا قرأت البابا فرنسيس في حوار له مع دومينيك وولتون. قرأته يقول إنّ الإحتراب باسم الله ليس بالشيء العادل. كلّ الديانات تريد السلام . ويوم دعا البابا يوحنا بولس الثاني إلى اجتماع أهل الديانات في مدينة أسّيز بـ إيطاليا في سنة 1968 كان يعرف ما هي رمزيّة ذاك التلاقي . ألقدّيس فرانسوا الأسّيزي في أيّام الصليبيين عرف كيف يكون التعامل مع المسلمين. فحاور زعماءهم مع علمه بأنّ الحرب، الحرب وحدها كانت،هي،عقلية ذاك الزمان!
من هنا، أنّ الكلام على “الحرب العادلة” ليس بالكلام المقبول ما لم تكن الحرب دفاعاً عن النفس. السلام عادل. لأنّ به نربح كلّ شيء. وبالحرب نخسر كلّ شيء، حتّى الحرب العادلة. حرب الإضطرار … ألحرب الدفاعية،وقد تعدّدت التسميات!
عبارات يرتجلها الإنسان ليبرّر طيشه وفياشه وغريزة العظم الأزرق فيه. يتلاقون. ويتعاهدون. ويتباسمون. ويفترقون “واللّي عليه عليه”، كما يقول أهلنا في الشوف. اللّي عليه عليه. ما أحد يتنازل لأحد عن شبر أو عن ورقة توت. لأنّهم أبناء السياسات الصغيرة يفوتهم الإرتفاع إلى السياسات الكبيرة إلاّ مكرَهين. أمام الحديث الفوقيّ الإسرائيلي كان لزاماً أن يتواصلوا. إذذاك … يصير تواصُل الصمت مثل تواصُل الكلام.. شيئاً من الفريضة. وهنا … لا خوف على التحالفات الإستراتيجية.
حلف مار مخايل باقٍ راسخ في حماية مار مخايل وبركة قديس الضاحية وإرادات وطنية لا تهون أمام التهديد الإسرائيلي تواجهه بالحكمة المسؤولة لا تخشى المواجهة ولا تسعى إليها … إرادات لا تهون كذلك أمام التطبيع المختبىء وراء الثقافة والحرّية. وتظلّ ترنو بحذر حازم إلى “النزاهة ” الأميركية . حكيت، مرةً ، عن روبير بْرازيلاك في هذا المجال. وأحكي، اليوم، عن خوليوس وإيتيل روزنبرغ ، العضوين في الحزب الشيوعي الأميركي. أعطيا السوفييت سرّ القنبلة النووية. فأُعدما على الكرسي الكهربائي في 19 حزيران 1953.
* * *
الكَيْس السياسي هو هذا.السياسة الكبيرة. ألتوحُّد في الإختلاف. ألحوار الذي يخسِّر المحاورين ويربّح المجتمع والقيمة والمبدأ.
ولكن … نحن في زمن الإنتخابات. زمن جواز كلّ شيء وتجاوز كلّ شيء. زمن تصفية الحسابات بالعدواة الزرقاء. زمن سقوط المبادىء وامِّحاء المثاليات. ألم يُنتخب بهذه الذهنية دونالد تْرامب؟ رواسب خمسين سنة من زمان باري غولد ووتر المرشّح الرئاسي في سنة 1964. مذذاك استبدّت راديكالية يمينية بالحزب الجمهوري كانت ترجمتها إنتخاب رونالد ريغن في 1980. فأقنع الناس بأنّ الدولة هي المسألة، لا الحلّ! ومثله انتُخب دونالد ترامب، والدولة ضحيّة.هي والمفاهيم.
عشائرية ضدّ الإيديولوجية… والأميركيون عينان. عين على رئيسهم قلقةٌ خَشْيا … وعين على انتخابات نصف الولاية.
يا اللّه ! ما أبعَدَنا، حيثما كان، عن الكَيْس السياسي!.
(نشرت في مجلّة”محكمة” – العدد 27 – آذار 2018 – السنة الثالثة)