أنا أستذكر … والمحامون ينتخبون
بقلم النقيب عصام كرم:
منذ كنت محامياً متدرّجاً ، كنت أُشارك في انتخابات نقابة المحامين من دون أن يكون لي حقّ التصويت.هواية الإنتخابات إنتقلت معي من الجامعة… من كليّة الحقوق. يومذاك، كنا نحن بعض الشبّان نعمل إنتخابات الجامعات مثلما كنا نعمل إنتخابات المدارس الثانوية.وكان ملحم كرم ترأس إتّحاد الطلاّب الجامعيين مثلما ترأس إتّحاد الطلاب الثانويين.وكانت الإنتخابات الطالبية بعيدة تماماً عن الإنتماء الحزبي. أنا لست ضدّ الأحزاب اللبنانية. لكنّ الأحزاب اللبناية بلا إيديولوجيا!؟ مفارقة لبنانية تُضاف إلى مفارقات “يمتاز” بها الوطن الصغير. مع أنّ الـ إيديولوجيا لا تكون إلاّ عندما تستوي في الحسّ المشترك sens commun .
وكان المرشّحون عدداً قليلاً. مع أنّ الطموح في نقابة المحامين … والطمع أحياناً كثير كثير. هكذا في نقابة بيروت. وهكذا في نقابة لبنان الشمالي. هذي نقابتنا. وتلك نقابتنا. ونقيب بيروت نقيبنا. ونقيب طرابلس نقيبنا. ولا جدال!
في خمسينات القرن الماضي كان في انتخابات النقابة نظام البالوتاج. كان على المرشّح الفائز أن يأخذ نصف أصوات الناخبين بزيادة صوت، على الأقلّ. لكنّ الدورة الثانية كانت تجيء بالمرشّحين الأكثر أصواتاً بعد الفائزين. فألغينا البالوتاج.
في نقابتنا لا أستذكر الماضي بما ينسيني وضاءات الحاضر . فالحالة هي هي. هذا الطين من هذا العجين. جاءنا نقباء أثبتوا وجوداً مثلما جاءنا نقباء قضّوا سنتين في التشريفات. النقيب، قبل خمسينات القرن الماضي، كان يأتي إلى مكتبه في النقابة بعدما يتابع قضاياه أمام المحاكم. فيوقّع البريد. ويستقبل الزائرين… إلاّ يوم كان يرأس جلسات محلس النقابة وجلسات لجنة إدارة صندوق التقاعد . أوّل نقيب خصّص الوقت الأوفر لشؤون النقابة كان فيليب سعادة. وكان هَيوباً فيليب سعادة. في مطلع ولايته أُوقِف الزميل الصديق الأُستاذ عصام يوسف يونس. فاتّصل النقيب بالنائب العام: أنا ذاهبٌ من مكتبي إلى بيتي، آملاً فور وصولي إلى البيت أن يكون الزميل عصام يونس عاد إلى بيته. وهكذا كان. فما وصل نقيب المحامين إلى بيته حتّى دقّ جرس التلفون والنائب العام على الخطّ: عصام يونس صار في بيته.
فارتاح النقيب. وارتحنا نحن، وكنا نتابع قضيّة توقيف عصام يونس بالدقائق والثواني.
ألنقيب … يجب أن يكون نصير المحامي إلاّ يوم يُخطىء المحامي فيغطّيه النقيب تجاه الآخر حفظاً لكرامة “الروب” ويعاقبه بما يستحقّ حرصاً على كرامة “الروب”. فالنقابة ليست مغارة. نعمل غارة ونلجأ إليها فتقينا، بغير حقّ، غدرات الزمان.
ألمحامي مسؤول. وعليه واجبات مثلما له حقوق. نحفظ حقوقه ونُلزمه واجباته. وهذا حقٌّ وعدل.
بين النقباء أسامٍ مشرقة. جبرايل نصّار. إدمون كسبار. ميشال عقل. نمر هبّه، وبعض الآخرين.
جبرايل نصّار كان نقيباً ذا وجود وافر.في أيّامه طالب موظّفو النقابة بزيادة أُجورهم. فمانع النقيب.مع أنّ أمين السرّ،وكان فيليب ضرغام، كان مريداً زيادة الأُجور. ويسافر النقيب. فيغتنم أمين السرّ،وهو واحد من ظرفاء العدليّة، ألمناسبة. فيجمع مجلس النقابة. فيقرّر المجلس زيادة الأُجور. ويُنظِّم محضراً يثبت ذلك. ويعود النقيب. ويعلم بما حصل. فيسأل أمين السرّ: كيف اجتمع مجلس النقابة في غيبة النقيب؟ فيجيب:إجتمع المجلس. وقرّر. وكُتب المحضر. فطلب النقيب سجلّ المحاضر ومزّق المحضر وبقيت الأُجور في انتظار يوم أفضل.
وجبرايل نصّار كان محامياً جزائياً يُنظر إليه. وكان إميل لحّود، الأُستاذ الكبير، يحسب له حساباً. فيقول: أنا أُغادر قاعة المحاكمة فور إعلان إرجاء الجلسة …. إلاّ يوم يكون خصمي جبرايل نصّار … فأحرص على أن يغادر القاعة قبلي.
إدمون كسبار كان من أكابر المهنة في المجال المدني التجاري. وكان يدخل قلم المحاكم العليا. فيراهن على أن ملفّات ترافع هو فيها ستربح…وكان ذلك يحصل. ولما هَزَلت كان الشيخ إدمون يذكر هذه القصص ويقول: في الماضي كنا نعرف مصير الدعاوي. أمّا اليوم، فصارت لعبة ياناصيب.
ألقضاء انتُقص في هيبته. والتشكيلات القضائية لا تصنع هيبة القضاء. لأنّ الزؤانة التي تُنقل من طرابلس إلى بيروت لا تصير قمحة. هيبة القضاء تستعاد بأن “يوضع الحَبّ على الطبليّة” فيُعرب القمح عن الزؤان وتصير التشكيلات بما بقي من قمح. وإلاّ … فلا مهابة ولا من يتهيّبون!.
هذا الكلام أقوله دفاعاً عن قمح العدليّة. وهو وفير. لكنّ طغيان السلطة التنفيذية يجعل السلطة القضائية قليلة الفعل في المواضيع الكبرى. مع أنّ القضاء إنّما كان ليقول الحقّ والعدل . Il dit le droit . ما عندنا فقط يتهاوى القضاء. فيصير عندنا قضاة، لا قضاء. في فرنسا كذلك. ألجنرال ديغول ما كان يحترم القضاء لأنّه كان يغلّب حجّة الدولة raison d’état. وكان يوجّه أوامر خطّية إلى القضاة بعدما تكون أخفقت لدى هؤلاء أوامر وزير العدل. وقصة أنطونين بيسّون، النائب العام لدى محكمة التمييز، معروفة تروي الحكاية. أرسل إليه وزير العدل أمراً في قضيّة . فمانع النائب العام لأنّ أمر وزير العدل غير محقّ . فاتصل به الوزير. هذا أمرٌ يهمّ الجنرال. فيجيب النائب العام: ليُرسل إليّ الجنرال أمراً خطيّاً. ففعل ديغول. وظلّ النائب العام على امتناعه. واستقال. وكتب كتاباً عن خرافة العدالة سمّاه Le mythe de la justice . وظنّ بعض القضاة فرانسوا ميتيّران أفضل، قضائياً،من الجنرال. ومن هؤلاء أندري جِيْريسّ،رئيس محكمة جنايات باريس… إلى أن رأى المحامين الإشتراكيين يستطيلون على المحاكم. وأكثرهم إستطالةً كان محامٍ يدعى جان بيللوتيي. فاستقال أندري جيريس يائساً وكتب كتاباً عنونه Seule la vérité blesse ou l’honneur de déplaire. وحدها الحقيقة تجرح. أو شرف التكابر على الإرضاء.
نيكولا ساركوزي في 2007 قال في لقاء عام إنّ القضاة يذكّرونه بحبوب البازيّلا. في 2013 فرانسوا هولاند “الرئيس الطبيعي” قال، في معرض امتداحه مبدأ الفصل بين السلطات، كلاماً في القضاء يقصّ المسمار: مؤسّسة الجبن والضعف والخَوَر.
والحديث يطول. وكنت أقول لـ إدمون كسبار: يا شيخ المشايخ. فيقول: لا. ما أنا. هو إبن عمتي ميشال. أيّ النقيب ميشال خطّار.
ميشال عقل كان يجمع المدني والجزائي. لكنّه كان ألمعياً في المرافعة الجزائية. وكان نقيباً ناجحاً. خافوا من وثبات خُلْق تأتي بها عفوية صادقة. فوهبه الله، طوال ولايته، طول بال ورحابة صدر على جرأة في الوقفة وثبات في القرار.
نمر هبّة سهر عى النقابة سهر الوالد على العشيرة. وكان ظريفاً النقيب هِبّة، وجامعاً.
* * *
“مفهوم” الإنتخابات النقابية تبدّل. قبل الخمسينات كان مركز النقيب تتويجاً لخاتمة مهنية ألِقَة. وكانت مكاتب المحامين في الوسط التجاري في بيروت ليبقى المحامي قريباً من موكّليه ومن قصر العدل الذي سمّاه أُستاذنا الرئيس إميل تيّان “دار العدل”. وكان رئيساً أوّل لمحكمة الإستئناف. وكنا نناديه: حضرة الرئيس. فيقول مصحّحاً: الرئيس الأوّل Monsieur le premier .
بعد الخمسينات تغيّر المفهوم.فصار النقيب العامل bâtonnier en exercice عاملاً حقاً. وصار عليه أن يواظب على الحضور في دار النقابة.
بعد الـ 75 تغيّر نمط الإنتخابات. من قبل كنا ننتخب من نريده نقيباً عضواً مميّزاً قبل سنة من معركة النقيب. فيُفهم أنّ صاحب التأييد المميَّز هو النقيب الآتي. بعد الـ 75 صرنا ننتخب النقيب والأعضاء في اليوم نفسه. فمن رجحت كفّته في العضويّة كان هو النقيب … إلاّ في نَدَرَى.
* * *
والإستذكار طويل. وفي المحامين لمعات ثقافة ومعاشرو كتاب. عبد اللّه لحّود. أنطون قازان. فيصل طباره. جوزيف باسيلا . سليم باسيلا . نجيب جمال الدِّيْن . أمين نخله. أمين تقيّ الدِّين.
ذكريات … وأسامٍ … وزمن يمشي. كأنّه الأمس تاريخ 19 تشرين الثاني 2017 . أنا أستذكر … والمحامون ينتخبون!.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 23 – تشرين الثاني 2017- السنة الثانية) (الصورة من أرشيف اندره فرح).