“أُمّك ثُمّ أمّك ثمّ أمّك” تكفي أن تكون “دستورًا” في “حقّ الحضانة”/عبير خشّاب
عبير خشّاب*:
كانَ يومها عيدُ الأمّ. فجأةً تشقّقت دهشةٌ كالحةُ الألَمِ ومكفهرّةُ الصّوتِ بين أحداقِ ووجوهِ السّيّداتِ الحاضراتِ العربيّاتِ والأجنبيّاتِ لحظةَ أفصَحْتُ بعفوّيةٍ في سياق حديثٍ عرضيّ عن واقعِ حقّ الحضَانةِ وحقوقِ الأمّ والطّفل في لبنان.
هُنّ صديقاتٍ من خلفيّاتٍ وحضاراتٍ ثقاقيّة متعدّدة إجتمعْن يومَها في ضِيافةِ تكريمِ الأمّ في “حضنِ” الديارِ اللبنانيّة. كُنّ قبلَ دقائقٍ من “الإفصاحِ” – غير الفصيحٍ ربّما- مندهشاتٍ حدّ الثّمالةِ بالسّحر الحضاريّ للعراقة اللّبنانية وأنا أُقلّب بينَ كفّيَّ بريقَ أَرزتِي “ماسة” بيروت، وأستفيضُ سردًا بكُلّ خيلاء على ضِفافِ “عَلَمِي” عن تاريخِ بعلبكّ وصور وجبيل.
كنّ قبلَ بُرهَةٍ فقط كالمَسحوراتِ المُنتشِياتِ ذهولًا بإصغائهنّ لِأُغنيةِ “أمّي يا ملاكي” الّتي كانَت تُنشِدُها بِخُشوعِ نشيدِ “كُلّنا للوَطنِ”، أيقونةُ بلادي “سُميّة البعلبكي” التي رصّعَت حينها لوحةً ضوئيّة صَوتيّة عن لبنان فيروز وجبران خليل جبران والأُمّ دفعةً واحدة من الحُبّ. لا أدري كيف تحوّلت هذه “الأناقة” المُبهرة كلّها في لحظاتٍ إلى دهشة نُدوبٍ موجعة إزاء قضيّة حقوق الحضانة والأمّهات في وطني.
حاولْتُ جاهدةً أن أنمّقَ الحديثَ خجلًا، وإذ بي أجدُني أغْرَقُ في براثِنِ التّفْسيرِ اللّبنانيّ “الجِينيّ” المُعقّدِ عن الطّائفيّةِ والقانون والأحوال الشّخصيّة والجندرية الّتي لا تُشبِهُ خُرْمَ إبْرةٍ تلك “الأناقة الفكرية” و”الفنتازيا” الفنّيّة التي كانت قبيل دقائق، فكانَ وقْعُها أشبَهُ بالطّلاسم بين يديّ منجّم يضرب بالرّمال.
باغتتني صديقتي القطريّة “الشّيعيّة” باستنكارِها، مقارنةً ذلك الواقع بقانونِ الأحوالِ الشّخصيّة الحضاريّ في دوحتِها متسائلةً بلهجةٍ إتّهاميّة دفاعيّةٍ و”فُقهيّةٍ” عن كُنْهِ “الإجتهاد”.
إبتَسمَتْ صديقتي “الإكوادورية” من أصولٍ لبنانية “دُرزيّة” تخبِرُنا بفخرٍ تَبرِيرِيّ عن “طائفتها” الّتي طوّرت قانون الحضانة لعُمرِ الخمسة عشر للجنسينِ.
وانتفضَتْ صديقتِي االكاتبة التّونسيّة احتجاجًا خدّر حُنجرتَها خَنقًا وبانَ في عروقِها المُتَورّمة أصْلًا من فَرْطِ ما أبْدَعت سَرْدًا عن “أُبّهِيّةِ” الرّقِيّ اللّبنانيّ في الحُرّياتِ والشّرائع والإنسان.
أمّا السّيّدة الرّوسية “المُسلمة”، فقد ظَنّتْ حقًّا أنّني “أُمازحِهنّ” وبادرت فَورًا بقولِ:”أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم”، حرفيًّا وباللّغة العربيّة الفَصيحةِ و”البوتينيّة” اللّهجة.
أمّا صديقتي الصّحافيّة البريطانيّة، فَلم تعلّق بتاتًا، مُكْتفِيةً بِنظرةِ جُمودِ بلادِ الضّبابِ الّتي عَلقَتْ جليًّا وسطَ بؤبؤِ عينيها.
أوجعتني كثيرًا صديقتي الكينيّة المُثقّفة الّتي أهدتني يومًا تُحفَ مجسّماتٍ فنّيّة خشبيّة لِحيواناتِ غاباتِ كينيا، والّتي ما انفكّت تُغازِلُ وطني بشاعريّةِ قيسٍ لِـ “ليالي” لبنان. تنهّدَتْ ضجيجًا قُرْبَ وجهيَ وهَمسَتْ كالعَزيفِ في سويداءِ قلبي:”ماذا؟ لبنان؟ حتّى قانونُ القبائلِ يا صديقتي يُستساغ من قدسيّة الأمومة بإلهامٍ من هذا الحيوان. يا الله! إنّه قانون الطبيعة! إنّه الله!”
تصلّبتْ لُبنانيّةُ أورِدتي جليدًا من لهبٍ في سرّي، وأنا ألتفِتُ كالغريبةِ عن “الإنسان”، أبحثُ عن ضوءٍ يُطفيءُ ذاكرتي كي لا أتهوّر غضبًا وأسترسلُ في “الإفصاح” عن هويّة “أناقة” قوانين بلادي في دوائر التنفيذ العدليّة التي تَخْتُمُ على بصماتِ القرارات بِـ “سلخِ” المحضونِ عن أمّه وبمؤازرة للقوى الأمنيّة. تظاهرتُ حينها بما يُشبهُ الموتَ، فأغمضتُ عينيّ روحي قسرًا وآثَرْتُ غَيبوبة الصّمت.
في هنيهنةٍ من قدر، أدركْتُ أنّ قُدرةَ الخَيالِ وحدها أوهَنُ من تصوّر “وحشيّة” هذه المشهديّة، لكنّ إدراكِي فاتَه حينها أنّ ما يرفُضُهُ الخيالُ أو يعْجَزُ عنْهُ المنطق أحيانًا، يُدركنا “شخصيّاً” من حيث لا ندري في أبلغِ “حُلّة” وفي عقر الواقع، وبالقانونِ!
ماذا أقولُ لهنّ؟ تلبّستني حينها أضدادُ السّذاجةِ والجَزَعِ والإزدواجيّة. المقارنةُ هنا لم تكن كمينَ الرّبط السّطحيّ بين غربٍ وشرقٍ، إنّما ما لا يحتمِلُ أصلًا فرضيّةَ أيّ مقارنات: إنّها الأمومة والطّفولة! بكلّ مقاييسها البسيطة والمعقّدة، الفطريّة والإلهيّة، البديهيّة والماورائيّة. ولكن كيف أفسّرُ عُقَدَ هيكليّة المقاييس اللّبنانيّة وهي أعقدُ من أن تفسّر؟ وجدْتُنِي أركبُ اللّجّة وحيدةً في “مونولوج” دراميّ وطنيّ يستحضرُ كلّ السّيوف المغمّدة في خاصرةِ “حقوق” المرأة والطّفل من تشريعاتٍ وموبقاتٍ ومقامراتٍ وجنازات. كيف يمكن أن يكون الحبل السّرّيّ المقدّس مادّة للنّقاشِ أصلًا؟ وكيف يعقلُ أن يضحى حقّ المحضون موضع جدلٍ؟ كيف يمكن تكوينَ ملفّاتٍ قضائيّة مهترئةٍ بين غبار الأدراج “الطّائفيّة” تبحثُ عن مخرجٍ كي تُقِرّ طلاقًا من هنا أو”حقّ رؤية” من هناك؟ كيف يجتاحُ ثوبُ دينٍ قانونَ الطّبيعة فيُقَنّنُ “خطفًا” من هنا و”ناشزًا” و”طاعة” من هناك؟
كيف يتمّ تدليس المُصطلحاتِ المُعجميّة وتأطيرِها غصبًا وغصّةً في متنِ نصّ أو قرارٍ “قضائيّ” في حقّ “الإنسان”؟ هل يمكن لمكان “العدلِ” أن يوقف الزّمانَ بِقرارِ بَيْن بَيْن أمّ وطفلٍ وبفعلِ “السّلخِ” الممهورِ بمطرقةٍ تُشظّي الرّوحَ ولا يهتزّ عرش السّماء؟
بالله عليكم، أيّ شيفراتٍ إنسانيّة على هذا الكوكب قد تُشرّعُ تكميمَ أفواهَ الأجنّةِ وكيّ أفئدةِ الملائكةِ وجلدَ الأرواح المبتورة؟!
أستحضِرُ قَلمَ غسّان كنفاني هُنا بوصْفِهِ الوطن بِأنّه ليس شرطًا أن يكون أرضًا كبيرةً، فقد يكون مساحة صغيرة جدًّا حدودها الكتفيْن. بين هذين الكتفين حضنُ وطنٍ وقبلةُ انتماءٍ على جبين الأمّ. إنّ ثقافة الإنتماء للأرضِ فطرةٌ لا تُشبه ولم تتشبّه على مرّ العصور إلّا بقدسيّة الأمومة، بل كما قال درويش “أمّي أوّل الأوطان وآخرُ المنافي”!
لا يمكن لوطنٍ أن يتبرّج بقوانين الحرّيّات وحقوق الإنسان “دستوريًّا”، ثمّ يتبرمج على ترهيبِ الإنسانِ وتعزيز العبوديّة عُرفيًّا وعمليًّا وطائفيًّا!
لا يمكن أن يُسامحَ وطنٌ خيانةَ إيقاع الطّبيعة بين ذرّاتِ ثراهِ الأمّ، ثُمّ يُردّدُ كما برنارد شو “سامحه، فإنّه يعتقد أنّ عادات قبيلته هي قوانين الطّبيعة”!
ستبقى صلاةُ الأمِّ اليوم في عيدها وفي كلّ نبضٍ تُرتّل:
“الحبّ والحقّ حضانتي وحصانتي ووطني ووصيّتي يا ولدي،
بين أمّتي وأمّي وأمومتي، أكرمتني يدُ الله بانتمائي وإنسانيّتي وكينونتي يا ابنتي،
قلبُ الأمّ احتواءٌ لأمانة الله في قرّة الرّوحِ يا فلذة كبدي،
أمومتي فعلُ مقاومةٍ فلا تجزع ولا تجزعي…
يللا تنام… يللا تنام…
أمّي يا ملاكي… في البدء وفي الختام”.
أرقدي يا أمّي يا ملاكي بسلام. شهيدة العدوان والأمومةِ أنتِ جميلتي وقدّيستي وشفيعتي. كلّ عامٍ وأنتِ على قيد الحياةِ في روحي. روحي التي أنجبت روحينِ وكأنّ الله أثلجَ اشتياقي بولادة الملائكةِ في حضني، فأبشري!
إنّها “كارما” الحُبِّ يا أمّي في حضني.
إنّها “كارما” الحقّ يا أمّي في حضني.
إنّها “كرامة” الله في “حقّ الحضانة” يا أمّي.
“أمّي ثمّ أمّي ثمّ أُمّي” … تكفي وحدها قرارًا “مُبرم” التنفيذ، نافذًا على أصله!
“أُمّك ثُمّ أمّك ثمّ أمّك” … تكفي وحدها أن تكون “دستورًا” في حقّ الحضانة.
*حائزة ماجستير في الأدب الانكليزي والإدارة التربوية، ومؤلّفة كتب أكاديمية، ولديها ١٧سنة في التعليم الجامعي والتنسيق في جامعة بيروت العربية والجامعة اللبنانية الدولية.
“محكمة” – السبت في 2021/3/20
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتبادل أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.