“إتهامية بيروت”: الإستجواب حقّ وبدونه التحقيق باطل إلّا إذا توّج بمنع المحاكمة/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
لا يجوز لقاضي التحقيق أن يصدر أيّة مذكّرة توقيف غيابية بحقّ شخص موقوف حالت إجراءات أو ظروف معيّنة خارجة عن إرادة القاضي نفسه أو الضابطة العدلية دون سوقه مرارًا وتكرارًا من مكان توقيفه إلى دائرة التحقيق من أجل استجوابه استنطاقيًا بحضور وكيله القانوني في حال وجوده أو إصراره عليه.
كما أنّه يستحيل على قاضي التحقيق أن يصدر قراره الظنّي بحقّ المدعى عليه نفسه الذي تعذّر سوقه من دون أن يسبقه استجواب تفصيلي بحسب الأصول القانونية المرعية الإجراء ولو عن بُعْد، وإلّا اعتبر تصرّفه في هاتين الحالتين النادرتي الحصول في القضاء العدلي، مخالفًا للقانون ويستلزم الإبطال دون أدنى تردّد.
ومن المعروف أنّ الإستجواب ركن أساسي من معاملات التحقيق الإستنطاقي لا يمكن التخلّي عنه أو إهماله أو صرف النظر عنه، وخصوصًا إذا ما كان المدعى عليه موقوفًا في ملفّ آخر أو قيد الإحتجاز الإداري، فيتوجّب عندئذٍ، على قاضي التحقيق استدعاءه وسوقه أمامه لكي يقف مليًّا وبشكل دقيق ومنطقي وسليم على إفادته بشأن ما هو منسوب إليه بغضّ النظر عمّا إذا كان صحيحًا أم خاطئًا.
فاستجواب المدعى عليه ليس ترفًا يمكن التغاضي عنه، لا بل هو من واجبات قاضي التحقيق، وهو في الوقت نفسه، من حقوق المدعى عليه كإنسان بأن يمثل أمام قاض مدني عدلي بعد إنجاز التحقيق الأوّلي معه لدى الضابطة العدلية المعنية لزيادة الطمأنينة القانونية إلى سلامة التحقيق.
ويكون قاضي التحقيق معذورًا من إجراء الإستجواب السرّي بطبيعة الحال، وختم التحقيقات، إذا كان المدعى عليه المنوي استجوابه متواريًا عن الأنظار في مكان ما فوق الأرض أو تحتها، وعندها يحقّ له مع أنّه قاض ظنّ، والأمر في غاية الدقّة والحذر، إصدار قراره الظنّي، ولكن شريطة أن تتكوّن لديه القناعة الكافية وفقًا للأدلّة المتوافرة لديه بأنّ هذا المدعى عليه لا تربطه أيّة علاقة أو صلة لا من قريب ولا من بعيد، بالجرم المنسوب إليه، ممّا يولّد الثقة الكاملة لديه بمنع المحاكمة عنه حتّى ولو لم يتمّ الإستجواب بالشكل المعتاد.
وهذا ما أشار إليه قانون أصول المحاكمات الجزائية بوضوح في متن الفقرة الثانية من المادة 84 حيث قال بالحرف الواحد:”لا يجوز لقاضي التحقيق أن ينهي التحقيق إلّا إذا استجوب المدعى عليه ما لم يتعذّر عليه ذلك بسبب فراره، أو إذا قدّر أنّ ما تجمّع لديه من أدلّة في الدعوى يكفي لمنع المحاكمة عنه بصرف النظر عن الإستجواب”.
وفي حالة القرار موضوع هذا التعليق، فإنّ قاضي التحقيق لم يتعاط باستهتار مع المدعى عليه، غير أنّ الضابطة العدلية ممثّلة بمكتب مكافحة الجرائم المالية وتبييض الأموال في وحدة الشرطة القضائية في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، لم تتمكّن لأمر خارج على إرادتها، من القيام بعملها لجهة سوق المدعى عليه من مكان توقيفه في ثكنة عسكرية تابعة للجيش اللبناني.
فقد تبيّن أنّ هناك قرارًا صادرًا عن قيادة الجيش اللبناني يحظّر فيه على رجال قوى الأمن الداخلي الدخول إلى الثكنات العسكرية التابعة لها لإتمام عملها بناء على إشارة القضاء المختص، بسوق المدعى عليه الموقوف إلى دائرة التحقيق المعنية ومكتب القاضي المولج بهذا التحقيق.
وإزاء تعذّر السوق المتكرّر لهذا المدعى عليه، وعلى مدى جلسات عديدة ومواعيد زمنية متقاربة إمتدت أكثر من ثلاثة أسابيع، وهو أمر ملفت للنظر، وعدم القدرة على استبدال المثول الفعلي الوجاهي باستجواب إلكتروني عن بُعْد كما حصل مع مدعى عليهم آخرين خلال تفشّي جائحة “كورونا” في طول البلاد وعرضها، وهو ما يلفت النظر أكثر فأكثر، بادر قاضي التحقيق إلى صرف النظر عن إتمام الإستجواب، وأصدر مذكّرة توقيف غيابية مع أنّ المدعى عليه موقوف بناء لإشارة النيابة العامة المالية، وأتبعها بإصدار قرار ظنّي خلص فيه إلى اعتبار فعل المدعى عليه جناية، ولم يمنع المحاكمة عنه، وذلك في مخالفة صريحة للمادة 84 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، ومخالفة واضحة لمضمون العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الأمم المتحدة والموقّع عليه من الدولة اللبنانية في 3 تشرين الثاني من العام 1972، لجهة الحقّ في المثول أمام القضاء والظفر بإجراءات سليمة في التقاضي والإعتراف به كشخص أمام القانون.
وما أتاه قاضي التحقيق من عمل لا يرقى إلى القانون بشيء، بعدم إجراء الإستجواب، وإصدار قرار ظنّي لم يمنع المحاكمة فيه عن المدعى عليه، يكون قد عرّض قراره الظنّي للإبطال أمام الهيئة الإتهامية، مع ما سبقه من إجراءات قانونية معتادة مثل صدور مذكّرة توقيف عن القاضي نفسه، ومطالعة في الأساس عن النيابة العامة المعنية، وهي هنا النيابة العامة المالية.
وهذا ما فعلته الهيئة الإتهامية في بيروت والمؤلّفة من القاضي ماهر شعيتو رئيسًا والقاضيين جوزف بو سليمان وبلال عدنان بدر مستشارين، في قرار تتفرّد “محكمة” بنشره كاملًا كونه يضيء على جوانب قانونية عملانية من حقوق الإنسان يجب أن تلقى التقدير الواجب من القاضي والضابطة العدلية على حدّ سواء.
قرار
إنّ الهيئة الإتهامية في بيروت المؤلّفة من القضاة الرئيس ماهر شعيتو والمستشارين جوزف بو سليمان وبلال عدنان بدر،
لدى التدقيق والمذاكرة،
وبعد الإطلاع على تقرير النيابة العامة المالية رقم 2021/513 تاريخ 2021/5/19، الذي تطلب بموجبه، إتهام المدعى عليه:
• محمّد سليم طلال جلخي، والدته وفاء، تولّد العام 1994، سوري الجنسية، أوقف بإشارة النيابة العامة المالية بتاريخ 2021/2/28، وأوقف غيابيًا بتاريخ 2021/5/4،
بالجناية المنصوص عليها في المادة 443/440 من قانون العقوبات، والظنّ به بالجنحة المنصوص عليها في المادة الثالثة من القانون رقم 2015/44،
وعلى قرار قاضي التحقيق في بيـروت، الظنّي، تاريخ 2021/5/18، رقم 2021/84،
وعلى مطالعة النيابة العامة المالية في الأساس تاريخ 2021/5/6،
وعلى أوراق الملفّ كافةً، وبنتيجة التحقيق، تبيّن الآتي:
أوّلًا: في الوقائع:
حيث يتبيّن من العودة إلى أوراق الملفّ، لا سيّما محضر ضبط التحقيق، أنّ قاضي التحقيق قد حدّد عشر جلسات لاستجواب المدعى عليه في التواريخ التالية، 2021/3/11، و2021/3/18، و2021/3/30، و2021/4/6، و2021/4/8، و2021/4/17، و2021/4/20، و2021/4/27، و2021/4/29، و2021/5/4، وقد تعذّر سوق الموقوف في جميع هذه المواقيت، وفي المرّة الأخيرة دوّن قاضي التحقيق في محضر ضبط التحقيق أنّه تعذّر على رجال مكتب مكافحة الجرائم المالية إحضار المدعى عليه كونه موقوفًا في ثكنة فخر الدين للشرطة العسكرية وقد صدر قرار عن قيادة الجيش بعدم السماح بالدخول إلى ثكناتهم، فقرّر عدم سماعه وإصدار مذكّرة توقيف غيابية بحقّه،
ثالثًا: في القانون:
حيث يتبيّن من أوراق الملفّ،
– أنّ المدعى عليه موقوف منذ تاريخ 2021/2/28،
– أنّ قاضي التحقيق وعلى الرغم من توقيف المدعى عليه، لم يستجوبه، وأصدر قراره الظنّي دون استجوابه، والسبب تعذّر سوقه لعشر جلسات، لكون أنّ قيادة الجيش لا تسمح لرجال مكتب مكافحة الجرائم المالية بالدخول إلى ثكناتهم،
وحيث يقتضي تحديد ما إذا كان بمقدور قاضي التحقيق صرف النظر عن سماع المدعى عليه الموقوف، وإصدار قراره الظنّي دون استجوابه،
وحيث إنّ المشرّع عالج مسألة استجواب المدعى عليه في الفصل الثاني من الباب الرابع من قانون أصول المحاكمات الجزائية، فذكر تفاصيل كيفية حصوله، واعتبره حقًّا من حقوق المدعى عليه، إذ خلاله يحيط قاضي التحقيق المدعى عليه علمًا بالجريمة المسندة إليه ويلخّص له وقائعها ويطلعه على الأدلّة المتوافرة لديه أو على الشبهات القائمة ضدّه فيكون بمقدوره، أيّ المدعى عليه، الدفاع عن نفسه بالطريقة التي يراها مناسبة،(المادة 76)، قبل اتخاذ أيّ إجراء في حقّه،
وحيث إن المشرّع وبالنسبة لأهمّية ودور الإستجواب في حماية حقوق المدعى عليه، لم يجز لقاضي التحقيق إنهاء تحقيقه بدون استجواب المدعى عليه، إلّا في حال تعذّر عليه ذلك بسبب فراره، أو إذا قدّر أنّ ما تجمّع لديه من أدلّة في الدعوى يكفي لمنع المحاكمة عنه بصرف النظر عن الإستجواب (المادة 84)،
وحيث إنّ سببي إمكانية إصدار القرار الظنّي دون استجواب المدعى عليه، المنصوص عليهما في المادة /84/ سالفة الذكر، وهما فرار المدعى عليه واتجاه قاضي التحقيق إلى منع المحاكمة، وردا على سبيل الحصر فلا يجوز تبعًا التوسّع فيهما أو القياس عليهما، ما يعني عدم إمكانية قاضي التحقيق الإستناد إلى أيّ سبب بخلاف السببين المذكورين لعدم استجواب المدعى عليه،
وحيث بالنظر لأهمّيته في صون حقوق المدعى عليه، وفي إتمام التحقيق، ولما أحاطه المشرّع من إجراءات، فإنّ الإستجواب هو معاملة (صيغة) جوهرية يترتّب على إغفالها دون توافر السببين المنصوص عليهما في المادة /84/ المذكورة، الإبطال،
وحيث بالعودة إلى الوقائع، فإنّ قاضي التحقيق قد صرف النظر عن استجواب المدعى عليه بسبب تعذّر سوقه إلى دائرته، كما تعذّر استجوابه عن بُعْد،
وحيث إنّ تعذّر سوق المدعى عليه الموقوف إلى دائرة قاضي التحقيق، ليس سببًا يسمح للأخير بصرف النظر عن استجوابه وتبعًا إصدار القرار الظنّي دون سماعه، فهو ليس أحد السببين المنصوص عليهما في المادة /84/، خاصة وأنّ قاضي التحقيق انتهى إلى اعتبار فعل المدعى عليه جناية، ولم يمنع المحاكمة عنه كما تشترط المادة المذكورة،
وحيث يكون إصدار قاضي التحقيق لقراره الظنّي دون استجواب المدعى عليه، وهو الصيغة الجوهرية الضامنة لحقوق المدعى عليه والتحقيق على حدّ سواء، وعدم توافر أيّ من سببي تبرير عدم استجواب المدعى عليه المنصوص عليهما في المادة /84/ من قانون أصول المحاكمات الجزائية، مخالفًا لصيغة جوهرية تجعله باطلًا بذاته كما جميع إجراءات التحقيق التي تمّت بعد صرف النظر عن استجواب المدعى عليه، لا سيّما مذكّرة التوقيف الغيابية والمطالعة في الأساس،
وحيث يقتضي تبعًا لذلك تقرير إبطال القرار الظنّي، لعدم حصول استجواب المدعى عليه، وإعادة الأوراق إلى قاضي التحقيق الأوّل لمتابعة التحقيق من نقطة استجواب المدعى عليه، وإلّا إحالته إلى قاضي تحقيق آخر،
لذلك
تقرّر الهيئة بالإتفاق:
1. إبطال القرار الظنّي موضوع الدعوى الراهنة الصادر تحت الرقم 2021/84 تاريخ 2021/5/8 عن قاضي التحقيق في بيروت، وجميع الإجراءات موضوع التحقيق التي تمّت بعد صرف النظر عن استجواب المدعى عليه، لا سيّما مذكّرة التوقيف الغيابية والمطالعة في الأساس، للسبب المذكور في المتن، وإعادة الأوراق إلى قاضي التحقيق الأوّل لمتابعة التحقيق من نقطة استجواب المدعى عليه، وإلّا إحالة الملفّ إلى قاضي تحقيق آخر،
2. إيداع الملفّ مرجعه الصالح بواسطة جانب النيابة العامة.
قرارًا صدر في غرفة المذاكرة في بيروت بتاريخ 2021/6/3.
“محكمة” – الجمعة في 2021/6/4
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية ودور النشر والمكتبات منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتبادل أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.