إضاءة على التعديلات الرامية إلى تعزيز حقوق المرأة في النصوص الجزائية اللبنانية/عطاف قمر الدين
الدكتورة عطاف قمر الدين:
لم يعد الحديث عن حقوق المرأة سبيلاً للتظلّم والشكوى… فليس خافياً على أحد أنّنا كنساء، قد ترفّعنا عن التمسّك بموقع الضحية وبتنا نمارس أدوارنا كأمر واقع وبغير منّة من أحد، وبتنا مسؤولات عن أخطائنا أمام ذواتنا لا أمام الرجل، وذلك بعد أن ساعدت النضالات النسائية المرأةَ على فرض نفسها في كافة المجالات وكسر الحواجز التي كانت تحول دون اعتبارها كياناً كاملاً بل إنسانًا من الدرجة الثانية.
وحيث إنّ ثمار الحركات النسوية لم تقتصر على المجال الإجتماعي، بأن أدّت إلى تعطيل مجموعة واسعة من العادات والأعراف البالية التي لطالما روّجت لدونية الأنثى عن موقع الذكر، وإنما كان لها الأثر في المجال القانوني كذلك، تبعاً للعلاقة التفاعلية بين القانون والمجتمع، بحيث يؤثّر الأوّل في الأخير ويتأثّر به… فإنّه من المفيد بالتزامن مع عشية يوم المرأة الذي يحتفل به العالم في الثامن من آذار من كلّ عام*، واحتفاءً بمسيرة النضال النسائي الطويل، أن نضيء على الإنجازات التي تحقّقت في مجال تعزيز حقوق المرأة على صعيد النصوص الجزائية في لبنان، والتي سنعرض لها، ولو باختصار، من الأقدم إلى الأحدث، وفقاً لما يلي:
أوّلاً: إلغاء جرم استخدام وسائل منع الحمل طبقاً للمادتين ٥٣٧ و٥٣٨ عقوبات، بالمادة ٣١ من المرسوم الإشتراعي رقم ١١٢ تاريخ 1983/9/16.
ثانياً: إلغاء أحكام تجريم دعارة القاصرات طبقاً للمادتين ٥٣٥ و ٥٣٦ عقوبات، بالمادة ٥٣ من المرسوم الإشتراعي رقم ١١٩ تاريخ 1983/9/16.
مع العلم أنّه قد أعيد العمل بأحكام المادتين المذكورتين بموجب القانون 2018/81 ولكن وفق أحكام جديدة تتعلّق بتجريم ومعاقبة استغلال القاصرين في المواد الإباحية.
ثالثاً: إلغاء المادة ٥٦٢ عقوبات التي كانت تفيد مرتكب جريمة القتل في حالة زنا زوجته المشهود أو الجماع غير المشروع لإحدى أصوله أو فروعه أو أخته، من عذر مخفّف للعقاب، بالقانون ١٦٢ تاريخ 2011/8/17.
علماً أنّ القاتل كان يستفيد من عذر محلّ من العقاب في هذا الإطار (ما كان يسمّى بـ”جريمة الشرف”) وذلك قبل تعديل عام ١٩٩٩ للمادة المذكورة بحيث تمّ إبدال العذر المخفّف من العذر المحلّ.
مع لفت النظر إلى أنّ جانباً من الإجتهاد ما زال يميل إلى منح الأسباب التخفيفية عن هذا النوع من جرائم القتل، فضلاً عن تطبيق المادة ٢٥٢ عقوبات التي تفيد الفاعل من عذر مخفّف لدى إقدامه على الجريمة بثورة غضب شديد ناتج عن عمل غير محقّ وعلى جانب من الخطورة أتته الضحية، ممّا يعني إعادة إحياء “جريمة الشرف” بصيغة جديدة!
رابعاً: إعتبار إرغام الأنثى على الإشتراك في الدعارة، استغلالاً يندرج ضمن نطاق الإتجار بالأشخاص، بموجب المادة ٥٨٦ مكرّر التي أضيفت إلى قانون العقوبات بالقانون ١٦٤ تاريخ 2011/8/24.
خامساً: تجريم العنف الأسري بموجب القانون 2014/293 الرامي إلى حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري والمعدّل بموجب القانون 2020/204.
ونشير إلى أهمّ ما جاء به القانون المعدِّل وهو ما يتعلّق بأمر الحماية المؤقّت الذي يهدف إلى حماية الضحية وأطفالها من استمرار العنف أو التهديد بتكراره، حيث نصّت المادّة ١٢ الجديدة على أنّ الأطفال الـمشمولين حكماً بأمر الحماية أولئك الذين هم في سنّ الثالثة عشرة وما دون، في حين كان النصّ القديم يحصر مفاعيل الحماية بالأطفال الذين يخضعون لحضانة الضحية بحسب سنّ الحضانة المنصوص عليه في قوانين الأحوال الشخصية، بغضّ النظر عن مراعاة المصلحة الفضلى للطفل.
سادساً: تكريس المساواة في أحكام التجريم والعقاب بين الرجل والمرأة بالنسبة لجريمة الزنا، بتعديل المواد ٤٨٧، ٤٨٨ و ٤٨٩ عقوبات بموجب المادة ٣ من قانون العنف الأسري 2014/293 المعدّلة بالقانون 2020/204، بعد أن كانت هذه المواد تقصّر تجريم زنا الرجل على حالة اتخاذه خليلة جهاراً أو ارتكاب الفعل في المنزل الزوجي. أمّا المرأة فكانت تعاقب بغضّ النظر عن مكان وظروف ارتكاب الجرم وبعقوبة تفوق تلك المكرّسة للرجل (الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين للمرأة، مقابل الحبس من شهر إلى سنة للرجل).
سابعاً: التطرّق إلى العنف والتهديد المندرجين نظرياً تحت خانة الإغتصاب الزوجي، بموجب الفقرة رقم ٧ من المادة ٣ من قانون العنف الأسري المعدّلة بالمادة ٢ من القانون 2020/204.
ولكن في الواقع، إنّ المشرّع اللبناني أورد النصّ وفق الآتي: من أقدم بقصد استيفائه للحقوق الزوجية في الجماع أو بسببه على ضرب زوجه أو إيذائه (…) أو تهديده، عوقب بإحدى العقوبات الـمنصوص عنها في الـمواد ٥٥٤ الى 559 من قانون العقوبات (المتعلّقة بجرم الإيذاء) وتلك الـمنصوص عنها في الـمواد ٥٧٣ إلى ٥٧٨ من قانون العقوبات (المتعلّقة بجرم التهديد).
ومن مضمون النصّ يتبيّن أنّ المشرّع إنّما قصد تجنّب تجريم الإغتصاب الزوجي عبر تعديل المادة ٥٠٣ عقوبات المتعلّقة بتجريم الإغتصاب والتي تستثني الزوج صراحةً من أحكامها، والدليل على ذلك إيراده لعبارة “الحقوق الزوجية” التي تحيل إلى معنى “الواجب”، حيث يُفهم منها أنّ المرأة ملزمة بتنفيذ واجبها ولكنّها امتنعت، ما دفع الرجل إلى تعنيفها استيفاءً لحقوقه! وفي ذلك التفاف واضح، حيث إنّ المطلوب تجريم الإكراه وليس مجرّد الإيذاء، أو التهديد المعاقب أصلاً بموجب المواد المحال إليها في قانون العقوبات.
ثامناً: إلغاء المادة ٥٢٢ عقوبات بموجب القانون 2017/53، التي كانت تنصّ على إيقاف الملاحقة أو وقف تنفيذ العقاب بحقّ مرتكب إحدى جرائم الاعتداء على العرض (الإغتصاب، الفحشاء، الخطف بقصد الزواج أو ارتكاب الفجور، الإغواء والتهتّك) في حال عقد زواج صحيح بينه وبين ضحّيته، ما كان يشجّع على تزويج المعتدى عليها من المعتدي بناءً على اعتبارات عشائرية تبرّر المساس بكرامة المرأة بداعي “الستر” أو “حفظ شرف الأسرة”، ما ينطوي على عنف قانوني يوازي جسامة الإعتداء بدلاً من محو آثاره أو التخفيف من وطأته بمعاقبة الجاني عقاباً يستحقّه.
ولا بدّ من الإشارة في هذا السياق، إلى أنّ المشرّع قد أبقى على مفاعيل المادة ٥٢٢ بالنسبة لجرمي مجامعة القاصر وفض البكارة بعد إغواء فتاة بوعد الزواج (المادة ٥٠٥ و المادة ٥١٨ عقوبات).
وعليه، أبقى المشرّع على خيار عقد الزواج لإباحة الفعل، في الحالتين اللتين يتمّ فيهما الاتصال الجنسي بين راشد وقاصر أو بين قاصرين، برضى طرفيه بمعزل عن أيّ اعتداء في هذا الإطار. وهذا أمر مفهوم، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المفاهيم الشرقية التي ما زالت تبرّر تزويج القاصرة في حالات مماثلة… علماً أنّ قوننة الخيار المذكور قد كرّست تزويج القاصر في القانون المدني لأوّل مرّة، ما يطيح بالجهود المبذولة باتّجاه منع زواج القاصرات قانوناً.
تاسعاً وأخيراً: تجريم التحرّش الجنسي بأيّة وسيلة وقع فيها بما في ذلك الوسائل الإلكترونية، بموجب القانون 2020/205.
وعرّف القانون في الفقرة الأولى من المادة الأولى منه التحرّش الجنسي على أنّه:”أيّ سلوك سيء متكرّر خارج عن المألوف، غير مرغوب فيه من الضحيّة، ذي مدلول جنسي يشكّل انتهاكًا للجسد أو للخصوصية أو للمشاعر يقع على الضحية في أيّ مكان وجدت، عبر أقوال أو إشارات أو تلميحات جنسية أو إباحية(…)”، ويلاحظ أنّ المشرّع قد أورد مصطلحات وألفاظاً عامّة بغير تحديد لما يمكن أن تشتمل عليه من معنى، وهنا نسأل: ما هو معيار “السلوكيات السيّئة والخارجة عن المألوف”؟ إلى أيّة ضوابط أحال المشرّع في هذا الإطار، في الوقت الذي تكمن فيه غاية التجريم بالحفاظ على خصوصية الضحية وأمانها الشخصي واعتبارها وكرامتها؟ من هنا، كان يُحبّذ تلافيًا لأيّ التباس في تطبيق النصّ، أن يكتفى بتعريف التحرّش الجنسي على أنّه “أيّ سلوك ذي مدلول جنسي، غير مرغوب فيه من الضحية، يشكّل انتهاكًا للجسد أو للخصوصية أو للمشاعر(…)”، وعدم إخضاع الجرم إلى معايير مبهمة تحدّ من فعالية التجريم.
ختامًا، لا يسعنا سوى التنويه بما سبق عرضه من إنجازات معتبرة، وإن جاء بعضها منقوصاً… على أن تبقى العبرة للنفوس، لئلاّ تتحوّل النصوص إلى تقنين جامد، من جهة أولى، ومن جهة ثانية لتذليل العقبات بوجه تكريس المساواة بين الجنسين في مختلف القوانين، سيّما الأحوال الشخصية التي تحفّظ لبنان بسببها على المادتين ٩ و ١٦ من إتفاقية سيداو* المتعلّقتين بمنح المرأة نفس حقوق الرجل لجهة عقد الزواج ومفاعيله ومنح الجنسية وحقوق الإرث… سواء على مستوى النظرية أو على مستوى التطبيق.
*يُرجع البعض هذا التاريخ إلى حركة المرأة العاملة في أوائل القرن العشرين في الولايات المتحدة الأميركية حيث شهدت نيويورك في ٨ آذار ١٩٠٨ تظاهرات ضخمة لنساء عاملات في قطاع النسيج والحياكة، للمطالبة بظروف عمل أفضل، والتي أثمرت عن انعقاد أوّل يوم وطني للمرأة الأمريكيّة في ٢٨ شباط ١٩٠٩… أمّا البعض الآخر فيردّه إلى أواخر شهر شباط من عام ١٩١٧ وفق التقويم اليولياني القيصري (الموافق ٨ آذار بحسب التقويم الغريغوري آنذاك والميلادي الساري حالياً)، يوم خرجت المرأة الروسية في تظاهرات انتهت إلى منحها الحقّ في التصويت… في حين زعم آخرون أنّه يعود إلى يوم عقد أوّل مؤتمر للإتحاد النسائي الديمقراطي العالمي في باريس بتاريخ ٨ آذار عام ١٩٤٥…
*CEDAW: Convention on the Elimination of all forms of Discrimination Against Women (1996)
أي: إتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة (١٩٩٦).
“محكمة” – الإثنين في 2022/3/7