مقالات
“إغْتنوا من الوطن الذي جاع”.. في غياب الرئيس سليم الحصّ/أمل فايز حداد
أمل فايز حداد (نقيبة المحامين سابقاً)*:
الرئيس الدكتور سليم الحص،
في مستهلّ كلمتي، أستميحك عذرًا إن أنا أسقطت عند إسمك المهيب لقب “صاحب الدولة”. وأظنّك تقبل اعتذاري: فلأنت من طرحت في أول جلسة عقدها مجلس الوزراء في أول حكومة ترأستها في العام 1976، إلغاء الألقاب لدى ذكر الرؤساء.
وإننا وإياك، أيها الرئيس الحبيب، ننتظر بزوغ ذلك اليوم الذي تغيب فيه ترّهات الألقاب العثمانية من دواويننا الرسمية، وتتلاشى في مخاطباتنا ومراسلاتنا واجتماعاتنا جميعًا تهريجات السخافة والمذلّة التي تذكرنا بعبارة هزئ بها صاحب “الصحائف السّود” وليّ الدين يكن، وهو ابن شقيقة السلطان، من المتشدقين بألقابهم، حيث يقول: “إن لقب “باشا” في هذه البلاد لأشدّ إسكارًا للمرء من زجاجة الويسكي”.
أما بعد،
ففي مناسبة تكريم الرئيس الحص، تطغى هيبة الرجل، ويفتح سجل المآثر، وتطرح أسس الحكم السديد، وتسلّط الأضواء على شابًّ رصين طموحٍ وشيخٍ “لا يزال في عمر الشباب منذ ستين عاماً” ، وقد بدا لي وللكثيرين من جيلي، مثالاً للحاكم العادل وللإمام في الزّهد والعفاف ونصاعة الكف، والعليم في المعارف والسياسة، والضليع في الإدارة والإقتصاد.
في مختلف حالاته، وشتّى أوضاع البلاد والعباد، ظلّ الرئيس الحص متشبّثًا بالصدق ولو أضرّه، متجنّبًا الكذب ولو نفعه، ثائرًا في وجه من جعلوا الرئاسات في أولادهم والأصلاب والأرحام، واعتبروا الدولة شركة خاصة ذات ذرعٍ وضرعٍ، وصيّروا الحكم كسروية وقيصرية، ووضعوا التشريعات لسرقاتهم الكبيرة، وشرّعوا الإدارات والسرايات أمام المحاسيب والأزلام حقولاً يرتع فيها الفساد ويرتعي خيراتها الفاسدون،
ولسان حاله يردّد على الدوام: “من استرعى الذئب فقد ظلم”.
كان سليم الحص، في جلّ ما طرح، مترفّعًا عن كلّ حطّةٍ، منزّهًا عن كلّ شينٍ، زاهدًا في كل مربح ومطمح، متعلّيًا عن كلّ ما هو آني وأناني وظرفي وعنصري، رافضًا، على الدوام، الإقامة في أبراجٍ عاجيّة، مصّرًا على أن يكون مع الناس في مراراتهم والتجاريب يشاركهم في مكاره الزمان.
ولقد أكبرنا عنده ترفّعه عن توسّل الجاهليات، وتعفّفه عن شراء الضمائر وتسخير المال العام وهو الضنين بفلسٍ واحدٍ من خزينة الدولة، وتعلّقه بالقيم والفضائل السامية إيمانًا منه بأن الحق لا يبطله شيء، وبأن الظلم مرتعه وخيمٌ، وبأن حكم الأشرار إلى ساعةٍ وبأن حكم الأبرار يبقى إلى قيام الساعة.
وأكبرنا عند الدكتور الحص جرأته الأدبية ، وكأنه كان من نفسه الكبيرة في جيشٍ ومن كبرياه في سلطان:
فلا مدفع روّعه، ولا تفجير سيّارته به أقعده، ولا تهديد ثناه، ولا إغراء أغواه أو ضلّله، ولا حصار نال من عزيمته، وبدت الدنيا وبهارجها في ناظريه أحقر من ورقةٍ في فم جرادة.
وأكبرنا عنده فضائله من عفوٍ، وحكمةٍ، وزهدٍ، وتواضعٍ، وحلمٍ، وعدلٍ، وطلاقة وجه مع مهابة لا تنال منها فكاهة مرهفة أو دعابة رصينة. ولا نكون مغالين إن أوجزنا القول إنه متحرٍّ للصواب، رفيقٌ بالضعيف، غير محابٍ للقريب ولا جافٍ للغريب، سبّاق للمكرمات، جلاّب خير، رفّع شر، موثّق الحجة، طاهر اليد، واسع العلم، حافل الخاطر بالحكمة، يُحسن مطابقة سبك اللفظ على المعنى.
كما تشهد عليه محاوراته ومحاضراته ومقالاته ومؤلفاته الأربعة عشر، التي تنمّ عن رحابة ثقافية، تتحدث عن عميق معاناته، وتصوّر جميل أحلامه وأعماله، وتثبت أنه من أكبر رؤساء لبنان معرفةً، ومن أعزبهم نتاجًا، ومن أشملهم رُؤى، وتشهد بأن “حذوة الميل إلى الأدب لم تخبُ في نفسه”، على حدّ قوله، ولا على لسان ريشته، وبخاصة عندما يُسرُّ إلينا بلوعة الفراق، وصمت الفقد، وانهمار الدموع.
في الختام،
دعني أناجيك، أيها الدكتور، بما أنت به خليقٌ، وبما يميّزك عن رؤساء كثيرين فأقول:
لك عرشٌ على القلوب، ولهم عروشٌ على الدروب،
أنت بحثت عن الروح في المادة، وهم صيّروا الروح مادةً.
أنت خدمت وطنك، وبفقرك اغتنى، وهم استنزفوا الضروع واغتنوا من الوطن الذي جاع.
فالسلام عليك، أيها الأمير اللبناني الأصيل!
* ألقت النقيبة أمل فايز حدّاد هذا النصّ خلال تكريم الرئيس الدكتور سليم الحصّ في ندوة عقدت في 2012/5/24.
“محكمة” – الأربعاء في 2024/8/28