مقالات

إنفجار المرفأ: الجميع متهم إلى أن تثبت براءته/نقولا ناصيف

نقولا ناصيف*:
إلى أن تجلو حقائق الإنفجار الهائل في مرفأ بيروت، في ما تبقّى من مهلة الأيّام الخمسة، فإنّ هرم المسؤولية إداري – أمني – سياسي. من تحت إلى فوق. حجم الكارثة، ضحايا وخسائر، تجعل الجميع متهماً إلى أن تثبت براءته، لا بريئاً إلى أن يُثبت اتهامه.
كلّ المعلومات التي تجمّعت عن حمولة 2755،5 طناً من نيترات امونيوم – وهو الرقم الدقيق لهذه الكمّية المنفجّرة – منذ لحظة رسوها في مرفأ بيروت في 16 تشرين الثاني 2013، ثمّ إنزالها حمولتها بعد سبعة أشهر في 28 حزيران 2014، إلى لحظة انفجارها في 4 آب 2020، إلتقت على تأكيد عِلم كلّ مَن كان في مرفأ بيروت من إدارات وأجهزة بما وُضع في العنبر 12، وعِلم مَن هم أبعد أيضاً.
عشرات المراسلات تبادلتها الإدارات والأجهزة هذه في ما بينها ومع القضاء – وهو ذو دور رئيسي في الوصول إلى الانفجار وفي كلّ ما ترتّب عليه – من غير أن تفضي إلى حلّ للقنبلة الموقوتة في ذلك العنبر وإخراجها منه.
المراسلات الأخيرة الأقرب إلى الفضيحة والجريمة، بدءاً من القضاء وصولاً إلى الجهات المسؤولة المعنية العاملة على أرض المرفأ، أظهرت الإهتمام بأهون السبل: سدّ فجوة الحائط وصيانة باب العنبر وتأمين الحراسة عليه، والأطنان في الداخل، من دون إيجاد حلّ لإخراجها من البلاد.
ليس خطيراً إدخال نيترات امونيوم إلى البلاد. بل هو مألوف عندما تكون نسبة الآزوت فيها تقلّ عن 11%، ويرمي استيرادها إلى تصنيع محلّي لأسمدة زراعية.
الخطير فعلاً أنّ هذا الكمّ من الأطنان لم يكن مستورداً إلى الداخل، ويحتوي على نسبة عالية من الآزوت هي 34،7% يجعلها تدخل في تصنيع المتفجّرات.
أوّل مَن كشفت خطورة استمرار إبقاء الأطنان في العنبر 12، مراسلة الجيش إلى المديرية العامة للجمارك، ردّاً على مراسلة الأخيرة إيّاه في 27 شباط 2016 بإمكان استخدامه هو هذه الكمّية المتروكة في العنبر ووضعها عنده. كتب إليها الجيش في 7 نيسان 2016 أنّه ليس في حاجة إليها نظراً إلى احتوائها الكمّية العالية من الآزوت (34،7%)، داعياً إيّاها إلى التواصل مع الشركة الوحيدة في لبنان المختصة بصنع المتفجّرات والديناميت لاستخدامها في تفجير الصخور والمقالع (“الشركة اللبنانية للمتفجّرات”)، أو إعادة تصديرها إلى بلد المنشأ. بحسب ما قاله الجيش، الكميّة هائلة وضخمة، وهو لا يصنّع متفجّرات بل يراقب صنعها واستخدامها. لا اصبع ديناميت ينفجر قبل علمه.
بيد أنّ شيئاً من ذلك، إخراجها من البلاد، لم يحدث لدى الجهتين الرسميتين المخوّلتين التعامل مع تلك الحمولة المصادرة وإدخالها في أحد عنابر مرفأ بيروت. كلّ شيء كان عادياً عندما قال طاقم باخرة تحمل علم مولدوفيا إنّ عطلاً أصابها يقتضي تعويمها على البرّ لإصلاحها، وهي تمرّ ترانزيت بلبنان حاملة شحنة نيترات امونيوم من مرفأ جورجيا إلى مرفأ موزامبيق. أوجب التعويم إفراغ شحنة النيترات ووضعها على الرصيف. من ثمّ بدأت المشكلة.
بسبب عدم تسديدها ديوناً مستحقّة لشركتين، أولى بلغت 119 ألفاً و396 دولاراً اميركياً إضافة إلى مبلغ ملحق هو 11 الفاً و940 دولاراً، وثانية بلغت 23 ألف يورو، أمر قاضي الأمور المستعجلة نديم زوين بالحجز على الباخرة وطاقمها، ومنع إبحارها رغم إصلاحها، من ثمّ قرّر تخزين الحمولة الضخمة في مستودع خاص بحراسة الجمارك اللبنانية. أمّا طاقمها، فلم يُخلَ سبيله بقرار من القاضي زوين إلاّ في الأوّل من أيلول 2014، فقصدوا بلادهم بعدما استمرّوا في الأشهر المنصرمة محتجزين داخل باخرتهم، المحتجزة بدورها.
بمرور الوقت باعوا وقودها كي يتزوّدوا مؤناً. ظلّت الباخرة راسية حتّى 18 شباط 2018 عندما غرقت داخل حرم المرفأ.
منذ عام 2016 استمرّ تواتر المراسلات بين دائرة المانيفست والمديرية العامة للجمارك والقاضي زوين بغية بتّ مصير الأطنان المخزّنة في العنبر 12 بلا طائل، إلى أن اكتشف أنّ الباب رقم 9 للعنبر مخلوع، وثمّة فجوة في الحائط الجنوبي، فيما لا حراسة على العنبر. تلك كانت أولى أيّام الوصول إلى انفجار القنبلة النووية الصغيرة الموقوتة، الراقدة في مرفأ بيروت.
في المرفأ خمسة أجهزة، أربعة أمنية هي الأمن العام (ختم سمات دخول ومراقبة الخروج) ومديرية المخابرات (مراقبة دخول/ خروج مواد مهرّبة أو محظّرة بما فيها المتفجّرات) والجمارك (البضائع الداخلة/ الخارجة وتحصيل رسومها) وأمن الدولة (اتخذّت مقرّاً لها فيه منذ عام 2018) وإدارة مدنية هي الهيئة الموقّتة لإدارة مرفأ بيروت واستثماره (مالكة الأرصفة والعنابر والرافعات والآليات). لكلّ من هذه اختصاصها وصلاحيات ليس للأخرى التدخّل فيها. بذلك حُصرت المسؤولية المباشرة بالجمارك وهيئة المرفأ. لم يتدخّل الجيش للمرّة الأولى – وهو غير ذي صلاحية – سوى في 10 تشرين الأوّل 2015 عندما كتب إلى قيادته آمر مركز المرفأ في مديرية المخابرات يذكّر بالمواد الخطيرة المخزّنة لسنتين خلتا.
تحرّكت القيادة وطلبت الكشف على الأطنان من خلال خبيرة عيّنها قاضي الأمور المستعجلة، فأبرز تحليل المختبر احتواءها نسبة خطرة من الآزوت (34،7%)، فراسل الجمارك الجهة المعنية بالأطنان المحتجزة. ثمّ كانت مراسلة 7 نيسان 2016. عندما كانت الجمارك تُسأل عن مصيرها، تجيب أنّها لا تتلقّى أجوبة من قاضي الأمور المستعجلة عن مراسلاتها. عند هذه النقطة ضاعت الطاسة: القضاء يقول إنّه يردّ، والجمارك تنفي. إمّا القضاء لا يردّ أو مراسلات الردّ اختفت. اللهم إلاّ إذا كان الطرفان معنيين بالاخفاء ما دام لا مراسلات كافية موثّقة.
أمّا الحقيقة الثابتة، فهي أنّ القنبلة الموقوتة منذ عام 2013 لا تزال داخل العنبر 12 كأنّها تنتظر ساعتها.
في 27 كانون الثاني 2020، طلبت المديرية العامة لأمن الدولة، رغم انقضاء قرابة سنتين على تمركزها في المرفأ، مراجعة القضاء في شأن الأطنان من غير التحقّق من معرفتها بها قبل ذلك الوقت. بيد أنّ المراجعة تأخّرت أربعة أشهر ويوم واحد، إلى 18 أيّار. حينذاك أجاب مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس بعدم اختصاصه نظراً إلى صدور قرار عن قاضي الأمور المستعجلة في وقت سابق قضى بتخزين نيترات امونيوم في العنبر 12.
بعد عشرة أيّام، 18 أيّار 2020، أجاب المدعي العام التمييزي غسّان عويدات بعد مراجعته بالتواصل مع الهيئة الموقّتة في المرفأ التي أجاب المعنيون فيها أنّها مخزّنة بقرار قضائي، ولا تخرج من العنبر سوى بقرار معاكس. إنتهى الأمر بتوجيه كتاب إلى الهيئة الموقّتة لادارة مرفأ بيروت واستثماره، يقضي بتأمين حراسة للعنبر 12 وتعيين رئيس مستودع وصيانة الأبواب ومعالجة فجوة الحائط وإقفال الأبواب بإحكام.
إختارت الهيئة الموقّتة أهون سبل إقفال العنبر بتلحيم الأبواب، ما يفترض أنّها شرارة إحراق العاصمة وتدميرها.
كلّ ما حصل حتّى هذا الوقت، أرسل به أمن الدولة تقارير إلى قصر بعبدا والسرايا، ما يعني أنّ رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة حسان دياب على علم بالقنبلة الموقوتة، من غير أن تتحرّك السلطات السياسية لتدارك الكارثة الآتية طوال الأشهر المنصرمة. بذلك تتدرّج المسؤولية المباشرة من تحت إلى فوق، بدءاً بالجمارك والهيئة الموقّتة والقضاء صعوداً إلى فوق، كي يمسي الجميع مسؤولين مباشرين.
أمّا التحقيق، فينتظر هو الآخر أوان تسييسه رغم الإجراءات الأخيرة. وقد يُعثر على خطّ أحمر فوق بعض الرؤوس، ما دام بين المشتبه بمسؤوليتهم من ينتمون إلى التيّارات التي تضع نفسها فوق الشبهة. فيها مَن في السلطة، وفيها مَن يزعم أنّه في المعارضة.
أمّا أطنان القنبلة الموقوتة التي لم يُذكَر منها سوى أبواب العنبر 12، فلبثت إلى أن حان موعد انفجارها بنصف بيروت.
*المصدر: جريدة الأخبار(يبدو أنّه التبس على كاتب المقال نقولا ناصيف اسم قاضي الأمور المستعجلة فذكر اسم القاضي نديم زوين بينما الصحيح هو اسم القاضي جاد معلوف، واقتصر دور زوين في الملفّ المتعلّق بالسفينة على تعيين خبيرة فاقتضى التصويب والتوضيح).
“محكمة” – السبت في 2020/8/8

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!