إنفجار المرفأ وارتداداته القضائية/رالف الرياشي
القاضي رالف الرياشي*:
1 ـ لم يقتصر انفجار أو (تفجير) مرفأ بيروت في 4 آب 2020 على الاضرار بالبشر والحجر، بل امتدت آثاره المأسوية لتهديد البنية الاساسية للدولة على الصعيد السياسي والتشريعي والاجرائي والقضائي والاجتماعي والخدماتي والصحي وسوى ذلك. انها رؤية مروّعة Apocalyptique)) لم يعهد لبنان مثلها من قبل.
2 ـ ان هذا البحث لا يتناول كل الجوانب الكارثية التي نتجت عن هذا الانفجار، بل يقتصر على اخطرها واكثرها تهديداً، وهي ما اصاب القضاء اللبناني من شظايا هذا الحدث المأسوي، الذي لا يزال لبنان يترنح بسبب ارتداداته. يبقى الامل ببعض الإيجابية إن أعدنا للقانون مكانته، حكماً وقاضياً وملهماً، ممتنعين عن مخالفته او تفسيره اعتباطاً، كي لا نجعل منه مجرد وجهة نظر تتبدل بتبدل مصالحنا الشخصية، فنكون بذلك قد قضينا عليه كقاعدة عامة مجردة، موضوعية وملزمة، موجّهة لسلوك الفرد والمجتمع.
3 ـ يُطرح الكثير من الاسئلة القانونية المتعلقة بانفجار مرفأ بيروت وبتداعياته، نستعرض في ما يأتي بعضا منها، ساعين للجواب عليها وفقا لما يفرضه النص والمنطق القانوني.
السؤال الاول: هل كانت ثمة ضرورة لإحالة قضية انفجار مرفأ بيروت على المجلس العدلي؟
4 ـ ان المجلس العدلي هو محكمة خاصة واستثنائية، أنشأها القرار الرقم 1905 تاريخ 12/أيار/1923، الصادر عن حاكم لبنان الكبير الجنرال ترابو (Albert Trabaud). اما صلاحياته الحالية فهي محددة بموجب المادة 356 من قانون اصول المحاكمات الجزائية (أ.م.ج.) رقم 328 تاريخ 7/آب/2001، ومن اهمها الجرائم الواقعة على امن الدولة الداخلي والخارجي. ان احالة القضايا المتعلقة بهذه الجرائم على المجلس العدلي هي امر جوازي، يعود تقديره للسلطة السياسية وتحديداً لمجلس الوزراء (المادة 357 أ.م.ج). ان الهدف من احالة الدعوى على المجلس العدلي هو توخي السرعة في تقرير خاتمة قضائية لبعض الجرائم الخطيرة.
5 ـ من المؤسف الملاحظة ان احالة انفجار مرفأ بيروت على المجلس العدلي لم تحقق غايتها لجهة الاسراع في بت هذه القضية، والسبب لا يعود الى القضاة المتولّين لها، بل الى تدخلات وممارسات اجرائية تعسفية نتيجة ارتباط القضية بمعطيات يقال بأنها سياسية. لا بد من التذكير بان المجلس العدلي، كونه محكمة استثنائية، فلا تخضع احكامه، وفقاً للمادة 366 أ.م.ج. لأي طريق من طرق المراجعة العادية او الاستثنائية، مما يجعل الاجراءات لدى هذا المجلس مخالفة لقواعد “المحاكمة العادلة”. من هنا نرى ضرورة لإلغاء المجلس العدلي، كما حصل في فرنسا في الثمانينات، في عهد وزير العدل Robert Badinter، حين الغيت معظم المحاكم الاستثنائية ومنها المجلس العدلي، او اقله تعديل الاصول لدى هذا المجلس باخضاع احكامه للمراجعة امام مرجع قضائي يعلوه.
السؤال الثاني: هل يجب ان يخضع المحقق العدلي لاجراءات الرد والتنحي ونقل الدعوى كسواه من قضاة التحقيق؟
6 ـ يرى البعض ان المحقق العدلي لا يخضع لاجراءات الرد والتنحي ولا لنقل الدعوى للارتياب المشروع اسوة بقضاة التحقيق الآخرين لأن المحقق العدلي، بحسب هذا الرأي، لا يتبع لأي دائرة تحقيق ولا لمحكمة استئناف كما هي الحال بالنسبة لقضاة التحقيق الآخرين، فضلاً عن ان قانون اصول المحاكمات الجزائية عندما اشار في المادة 357 منه الى امكانية رد وتنحية قضاة المجلس العدلي لم يذكر المحقق العدلي من بينهم مما يجعله خارجاً عن اي طلب رد أو تنحٍّ. اننا لا نرى صوابية في هذا الرأي للاسباب الآتية:
7 ـ من جهة اولى، ان موجب التنحي وحق الرد ونقل الدعوى للارتياب المشروع جميعها امور ترتبط بموجب التجرد (Impartialite) وهو من اسس “المحاكمة العادلة” والذي يوجب على القاضي اعطاء القرار دون اي رأي مسبق او انحياز لفريق دون آخر. ان هذا الموجب مقرر بمعظم القوانين الدولية والوطنية ومن ذلك المادة 14 الفقرة (1) من ميثاق نيويورك الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية، كما هو مقرر ايضاً في شرعة الحقوق الاساسية للاتحاد الاوروبي كالاتفاقية الاوروبية للحفاظ على حقوق الانسان والحريات الاساسية، والشرعة الاوروبية لنظام القضاة (1998)، ومبادئ بنغالور( Bengalore ) بشأن المناقبية القضائية (المادة 2.5) المتبناة من الامم المتحدة، وهذه المبادئ تنص جميعها على وجوب تنحي القاضي او رده في اي اجراءات لا يمكنه ان يحافظ فيها على موجب التجرد، باستثناء الحالة التي يتعذر معها قيام محكمة بديلة للفصل في القضية في حال قبول الرد او التنحي.
ان موجب التجرد مكرس ايضاً في التشريعات الوطنية كالدستور والقوانين، فالمادة 20 من الدستور اللبناني تقر للمتقاضين ضمانات قضائية ملزمة وللقضاة كامل الاستقلالية في اجراء وظائفهم، وكلها امور لا تتوافرعند غياب موجب التجرد الذي يرتبط عضويا به موجب التنحي وحق الرد.
8 ـ تبعاً لما تقدم يقتضي اعتبار ان موجب التجرد والتنحي وحق الرد هي جميعها من القواعد العامة الاساسية الواجب اعتمادها وتطبيقها، ولو لم تنص عليها صراحة القوانين الوضعية بحيث يطبق الرد والتنحي ونقل الدعوى للارتياب المشروع على جميع القضاة اياً كانت فئتهم او صلاحيتهم، على ان تفسّر كل القوانين المتعلقة بهذا الشأن بما يتوافق وهذه النتيجة.
9 ـ من جهة ثانية، ان الرأي القائل بعدم خضوع المحقق العدلي للرد يتجاهل المادة 363 أ.م.ج.، وهي تنص صراحة على ان المحقق العدلي يطبق الاصول المقررة امام قاضي التحقيق، والمقصود بذلك، ليس فقط الاصول التي يعتمدها قاضي التحقيق في اجراءاته، بل ايضاً جميع الاصول المطبقة عليه والتي يخضع لها، ومنها ما جاء في المادة 52 أ.م.ج. من انه يحق لقاضي التحقيق عرض تنحّيه، كما يحق لكل من اطراف النزاع طلب رده.
10 ـ من جهة ثالثة، يُفهم من سياق النصوص القانونية، ان قضاة الحكم المؤلف منهم المجلس العدلي يخضعون لحالات الرد والتنحي (المادة 357 من قانون اصول المحاكمات الجزائية تاريخ 7/آب/2001 والتي لم تكن موجودة في القانون السابق). كذلك يخضع للرد والتنحي اعضاء النيابة العامة لدى المجلس العدلي عملاً بنص المادة 128 أ.م.م. . يستفاد من ذلك ان جميع القضاة لدى المجلس العدلي سواء كانوا قضاة حكم او قضاة نيابة عامة يخضعون للرد والتنحي، الامر الذي يفرض تفسير النصوص القانونية المرعية بوجوب خضوع المحقق العدلي لهذه الاجراءات ايضا، تبعاً لوحدة الوضع القانوني لجميع قضاة المجلس العدلي.
11 ـ يقتضي التنبه الى انه لا يمكن للمحقق العدلي ان يرفض التحقيق في الدعوى المحالة عليه ما لم يتبع اصول الرد والتنحي المطبقة على قضاة التحقيق الآخرين والمنصوص عليها في المادة 366 أ.م.ج. معطوفة على المادة 152 أ.م.ج.، وإلا اعتُبر ممتنعاً عن احقاق الحق (Deni de justice) مما يرتب عليه مسؤولية مسلكية وقانونية.
السؤال الثالث: من هو المرجع صاحب الاختصاص النوعي للبت بطلب الرد او تنحي المحقق العدلي؟
12 ـ تبعاً لما سبق بيانه من وجوب اخضاع المحقق العدلي للرد والتنحي اسوة بجميع القضاة، تُطرح هنا مسألة تحديد المرجع الصالح للبت بذلك.
13 ـ اعتبرت محكمة الاستئناف المدنية في بيروت بتاريخ 3/تشرين الاول/2021 (1)، ان النظر في طلب رد المحقق العدلي يخرج عن اختصاصها النوعي مستندة بذلك الى نص المادة 123 أ.م.م. والمادتين 51 و52أ.م.ج.، اما محكمة التمييز المدنية الغرفة الخامسة فقضت بقرارها تاريخ 11/تشرين الاول/2021 ان المحقق العدلي “المطلوب رده” ليس من عداد قضاة محكمة التمييز ولا تابعاً للنيابة العامة التمييزية، وبالتالي فان محكمة التمييز لا تكون قد وضعت يدها بصورة قانونية على طلب الرد (2)، وقد ذهبت في الاتجاه نفسه الغرفة الاولى لمحكمة التمييز بقرارها تاريخ 2021/10/14 فاعتبرت ان المحقق العدلي ليس من قضاة محكمة التمييز معلنة عدم اختصاصها للبت بطلب رده (3).
14 ـ نتيجة الخلاف السلبي بشأن الاختصاص بين محكمة الاستئناف بموجب قرارها تاريخ 2021/10/3، والغرفة الاولى لمحكمة التمييز بموجب قرارها تاريخ 2021/10/14، قضت الهيئة العامة لمحكمة التمييز بموجب قرارها رقم 38 تاريخ 2021/11/25 (4)، ان طلب تنحي وردّ المحقق العدلي جائز ويعود البت به لمحكمة التمييز، لان هذا الاخير هو بمثابة قضاة المحكمة العليا اسوة باعضاء المجلس العدلي، وذلك سنداً للمادة 123 أ.م.م.
15 ـ اضافة الى هذه الاجتهادات، اعتبر البعض انه يعود لوزير العدل بالتوافق مع مجلس القضاء الاعلى امر البت بطلب رد المحقق العدلي وتنحيه واستبداله، وذلك تبعاً لقاعدة “موازاة الصيغ”، اذ ان تعيين المحقق العدلي يتم بموجب قرار من وزير العدل بعد موافقة مجلس القضاء الاعلى، كما اعتبرت آراء اخرى، ومنها النيابة العامة التمييزية، ان المجلس العدلي هو صاحب الاختصاص بهذا الشأن.
16 ـ نرى ان معظم الحلول المعروضة آنفاً لا تتوافق واحكام القانون، وهي تتعارض مع اكثر من قاعدة من قواعد اصول المحاكمات.
وبالفعل؛
ان تفسير القانون تحكمه قواعد اهمها عدم جواز تفسير نصوصه الواضحة، فليس من موجب لتفسير النص الصريح. من هذه القواعد ايضا عدم جواز اعتبار النصوص القانونية مبهمة في حين انها ليست كذلك، توصلاً فقط لاعطاء هذه النصوص مفهوماً مغايراً لما هي عليه صراحةً واحلال نية المفسّر مكان نية المشرّع.
17 ـ في الواقع ان ايجاد الحل لمسألة المرجع الصالح للبت بطلب رد او عرض تنحي المحقق العدلي لا يرتبط بتحديد ما اذا كان هذا الاخير هو من عداد قضاة محكمة الاستئناف او من عداد قضاة محكمة التمييز، ذلك ان المادة 363 أ.م.ج. واضحة اذ تعتبر ان المحقق العدلي، وبمعزل عن فئته، يخضع للاصول التي يخضع لها قاضي التحقيق، ومن هذه الاصول ما تنص عليه المادة 52 أ.م.ج. من ان رد وتنحي قضاة التحقيق يخضع للقواعد الواردة في قانون أصول المحاكمات المدنية، ومنها ما يولي محكمة الإستئناف شأن بت هذا الامر، باعتبار ان قضاة التحقيق يتبعون لمحكمة الإستئناف وفقاً للمادة 23 من قانون القضاء العدلي.
يُبنى على ما تقدم، ان بت طلب رد وتنحي المحقق العدلي هو من اختصاص محكمة الاستئناف اسوةً بقضاة التحقيق الآخرين دون اي مرجع آخر.
ولكن؛
18 ـ بما ان صلاحية المحقق العدلي تشمل جميع الاراضي اللبنانية، تبقى المسألة في تحديد ايّ من محاكم الاستئناف هي المرجع المكاني الصالح للبت بطلب رده وتنحيه. ان الجواب على ذلك هو في المادة 113أ.م.م. معطوفة على المادة 6 منه وهي تقضي صراحة بأن الاختصاص المكاني الالزامي لمحكمة الاستئناف ينحصر بالأحكام الصادرة عن المحاكم والمراجع القضائية الكائنة في منطقتها، بمعنى ان هذه المادة تأخذ بعين الاعتبار كمعيار لفصل التنازع المكاني بين محاكم الاستئناف، ليس نطاق اختصاصها، بل المنطقة اي الحيّز الجغرافي الذي يكون المرجع القضائي مصدر الحكم متواجداً فيه. تطبيقاً لذلك فان صلاحية المحقق العدلي وإنْ كانت شاملة لجميع الاراضي اللبنانية فهو يكون موجوداً ويمارس عمله بصورة عامة ضمن محافظة بيروت، فتكون بذلك محكمة استئناف بيروت صالحة قانوناً للبت بطلبات رده او تنحيه.
19 ـ لا بد من ان نضيف ان المجلس العدلي لا يمكن ان يكون مرجعاً صالحاً للبت بطلبات الرد او التنحي المتعلقة بالمحقق العدلي، اذ يخشى في مثل هذه الحال ان يعمد المجلس العدلي في اطار بحثه في طلب الرد والتنحي الى التطرق الى مواقف قانونية مسبقة مرتبطة بموضوع الدعوى دون ان يكون قد وضع يده عليها بعد. اما بالنسبة لوزير العدل ومجلس القضاء الاعلى فلا يمكن ان يكونا من اصحاب الاختصاص للبت في رد او تنحي المحقق العدلي، لان هذه المسألة كونها قضائية لا يعود التقرير بشأنها اليهما باعتبارهما من المراجع الادارية التي لا يمكنها التدخل في اي عمل قضائي، تبعاً لمبدأ استقلالية السلطة القضائية ومبدأ فصل السلطات.
السؤال الرابع: ما هي مفاعيل طلب الرد او التنحي بالنسبة للمحقق العدلي؟
20 – يترتب على طلب الرد توقف المحقق العدلي عن متابعة النظر في القضية الى حين الفصل بهذا الطلب، اسوة بما هي الحال عليه لجميع قضاة التحقيق (المواد 363 و52 فقرتها الثانية أ.م.ج. و125 أ.م.م.)
لا يؤلف شغوراً في الوظيفة توقف المحقق العدلي عن متابعة الدعوى لحين البت بطلب الرد او التنحي. ان الشغور يتحقق فقط عند انشاء وظيفة جديدة قبل ان يعيّن موظف فيها وإلا عندما يترك الموظف عمله بصورة دائمة او موقتة، فالترك في هذه الحالة الاخيرة هو المعيار الاساسي لتحقق الشغور، مثلاً حالة المرض، السفر، النقل، الوضع بالتصرف …الخ، ان مفهوم “الترك” لا ينطبق على وضع المحقق العدلي المتوقف عن عمله بانتظار البت بطلب رده او تنحيه، فلا يمكن في هذه الفترة ان يُعيّن او يُنتدب قاضٍ آخر مكانه لعدم شغور مركزه.
السؤال الخامس: ماذا لو تجاوز المحقق العدلي القانون فقرر الاستمرار في متابعة الدعوى قبل البت بطلب رده او تنحيه؟
21 – ان متابعة المحقق العدلي القضية في هذه الحالة تؤلف مخالفة صريحة للمادة 125 أ.م.م. وتعرّض الاجراءات والتحقيقات التي تمّت في هذا الظرف للبطلان.
ذهب البعض الى اعتبار المجلس العدلي مرجعاً تسلسلياً للطعن بقرارات المحقق العدلي عند مخالفته للقانون، الا ان الامر ليس كذلك، فالمجلس العدلي هو مرجع للحكم في موضوع الدعوى والاحالة اليه لا تدخل في مفهوم الطعون المحددة في المادة 630 أ.م.م. وهي الاعتراض والاستئناف واعتراض الغير واعادة المحاكمة وطلب النقض، فالاحالة اليه تقتصر على تمكينه من وضع يده على الدعوى للبت بموضوعها كما يفعل قرار الاتهام الصادر عن الهيئة الاتهامية الذي يحيل الدعوى الى محكمة الجنايات. من هنا يجب التنبه الى خطر متابعة المحقق العدلي لأعمال التحقيق قبل البت بطلب رده او تنحيه، فالامر يعرّض الاجراءات التي قام بها والقرار الاتهامي الصادر عنه في هذه الحال للإبطال، عندما يضع المجلس العدلي يده على الدعوى، إذ يمكن ان يثار امامه دفعٌ شكلي بمخالفة المحقق العدلي للمادة 125 أ.م.م. وقد ينتج عن ذلك اعتبار المجلس العدلي القرار الصادر عن المحقق والتحقيقات المجراة منه جميعها باطلة، مما يعيد الدعوى الى المربع الاول على صعيد التحقيق ويستدعي اجراء تحقيقات جديدة واصدار قرار اتهامي جديد عن محقق عدلي آخر.
السؤال السادس: هل من صلاحية للنيابة العامة لدى المجلس العدلي بتخلية سبيل المدعى عليهم بعد احالة الدعوى الى المحقق العدلي؟
22 – ان قاضي التحقيق يضع يده على الدعوى بصورة عينية وموضوعية وليس بصورة شخصية. اي انه يتناول الجرم المدعى به كشفاً لفاعليه، فإن اهتدى الى الفاعل استدعاه واستجوبه بصفة مدعى عليه، ولو لم تكن النيابة العامة قد تناولته في ادعائها. اما بالنسبة لتخلية السبيل، فطالما ان الدعوى هي تحت يد قاضي التحقيق فيعود له وحده، وتحت رقابة الهيئة الاتهامية، البت بتخلية السبيل او عدمها، ويقتصر دور النيابة العامة هنا فقط على ابداء الرأي بهذا الصدد رفضاً او قبولاً بالأمر.
23 – يرى البعض ان للنيابة العامة حق تقرير اخلاء السبيل في غياب اي قرار بهذا الشأن عن قاضي التحقيق مستندين بذلك الى المادة 8 الفقرة 4 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، والتي تنص على انه “لكل شخص حُرم من حريته بالتوقيف او الاعتقال حق الرجوع الى محكمة لكي تفصل هذه المحكمة دون ابطاء في قانونية اعتقاله، وتأمر بالافراج عنه اذا كان الاعتقال غير قانوني”.
ان ما جاء في هذه المادة لا يولي برأينا صلاحية للنيابة العامة لتقرير تخلية سبيل المدعى عليهم المحالين امام قاضي التحقيق. جلّ ما في الامر ان المادة المذكورة توجب على كل دولة منضمّة للاتفاقية، ايجاد محكمة يكون اختصاصها الفصل بطلبات اخلاء السبيل منعاً للتوقيف الاعتباطي. ان القانون اللبناني تقيّد بأحكام هذه المادة فجعل قاضي التحقيق المرجع الصالح للبت بمسائل التوقيف والاعتقال (المادة 114 أ.م.ج.).
24 – ان توقف قاضي التحقيق عن متابعة النظر في الدعوى الى حين بت طلب رده او تنحيه لا يجعله مسؤولاً عن التأخر في بت طلب اخلاء السبيل، طالما ان المرجع الناظر بدعوى الرد لم يقرر سلباً او ايجاباً قبول طلب رده.
في الخلاصة؛
تخلص هذه الدراسة الى الآتي:
ـ ان المحقق العدلي يخضع لاجراءات الرد والتنحي ونقل الدعوى للارتياب المشروع كسواه من القضاة (تراجَع الفقرات من 6 الى 16).
ـ ان محكمة الاستئناف في بيروت هي صاحبة الاختصاص النوعي للبت بطلب الرد وعرض التنحي للمحقق العدلي (تراجَع الفقرات من 12 الى 19).
ـ ان طلب الرد والتنحي يوجب على المحقق العدلي التوقف عن السير في الدعوى الى حين الفصل بالطلب (تراجَع الفقرة 20).
ـ ان تجاوز المحقق العدلي، عند وجود طلب رد او تنحٍّ، لموجب وقف السير بالدعوى، يعرّض جميع الاجراءات المخالفة لهذا المنع كما القرار الاتهامي الصادر عنه للبطلان. يعود للمجلس العدلي بصفته قضاء حكم وليس قضاء مراجعة تقرير هذا البطلان، مما يترتب عليه استعادة التحقيق من اوله واصدار قرار اتهامي آخر من قِبل محقق عدلي جديد (تراجَع الفقرة 20).
ـ ليس للنيابة العامة بعد احالة الدعوى الى المحقق العدلي ان تقرر اخلاء سبيل المدعى عليهم الموقوفين من قِبل قاضي التحقيق. ان هذا الحق يعود وحده للمحقق العدلي الذي يضع يده على الدعوى (تُراجع الفقرة 32 و24).
ـ ان المجلس العدلي بسبب غياب طرق المراجعة لديه بالنسبة للقرارات والاحكام الصادرة يجعل الاجراءات امامه مخالفة لقواعد المحاكمة العادلة، وبالتالي آن الاوان لالغاء المجلس العدلي كمحكمة استثنائية (تراجَع الفقرة 4 و5).
ـ ان تطبيق القانون ليس وجهة نظر، والحكم ليس مجرد محضر ضبط بل هو نتيجة قراءة ومنطق وتحليل وتعقب وتعليل وجميعها موجبات على القاضي ان يتقيد بها كي لا يأتي الحكم متعثراً، فالقاضي يبقى الفعل ولن يكون ابداً ردة الفعل.
*رئيس غرفة لدى محكمة التمييز شرفاً.
المراجع:
(1) قرار محكمة استئناف بيروت؛ الغرفة 12 رقم 557 ورقم 558 تاريخ 2021/10/3، المنشور في مؤلف د.سمير عاليه، المجلس العدلي ص.86 و87.
(2) قرار محكمة التمييز المدنية؛ الغرفة الخامسة؛ رقم 86، تاريخ 2021/10/11، المنشور في المرجع المبين اعلاه ص. 89.
(3) د.سمير عاليه، المجلس العدلي ص. 91 وما يليها.
(4) قرار الهيئة العامة لمحكمة التمييز، رقم 38، تاريخ 2021/11/25 المنشور في المؤلف المبين اعلاه ص. 95 وما يليها.
ملاحظة: إنّ هذا البحث القانوني الهام منشور في صحيفة “النهار” في عددها الصادر اليوم، وقد اتصلت إدارة “محكمة” بالقاضي رالف الرياشي واستأذنته لإعادة نشره على موقعها الإلكتروني فرحّب ووافق ولم يمانع على الإطلاق.
“محكمة” – الجمعة في 2023/2/17