مقالات

“اقفلوا الأبواب بوجه كلّ كذّاب”!/جمال الحلو

القاضي م جمال الحلو:
هناك مثل يتداوله الكثيرون ومفاده:أن تصل متأخّرًا خيرٌ من أن لا تصل أبدًا، ويُقال بالمعنى ذاته: “أن تأتي متأخّرًا خيرٌ من أن لا تأتي أبدًا”.
يُحكى أنّ الإنجليز هم أصحاب هذا المثل، وبعيدًا عن المالك الحصريّ للمثل، فهو من أكثر الأقوال المختلف عليها، حيث ينظر الناس إلى رمزيّة التأخير وكنه معناه من زوايا مختلفة قد تتعارض أحيانًا، فإذا قلت لأحدهم وقد تأخّرت عليه أكثر ممّا ينبغي: المهمّ أنّني أتيت فهذا أفضل من أن لا آتي، فقد يجد لك عذرًا عملًا بمقولة الغائب عذره معه، وقد يمتعض بحجّة أنّ الوقت ثمين جدًّا، وأيّ تأخير قد يتأتّى عنه ضرر ما، وذلك وفق معيار أنّ لكل وقت ظروفه ومستلزماته.
ولن نغوص في غياهب التفسيرات، إذ الغاية من عرض هذا المثل في مقالنا يتعلّق بما حدث أخيرًا من توقيف حاكم المصرف المركزيّ السابق رياض سلامة.
كما أنّنا لن نتكلّم عن الجرائم المسندة والتحقيقات الجارية، فمثل هذا الأمر من صميم عمل القضاء ومن غير المسموح أصولًا التحدّث في قضايا عالقة أمام القضاء، إلى حين صدور قرارت نهائيّة في هذا الشأن.
قد يقول البعض إنّ القضاء قد تأخّر لاتّخاذ هذه الخطوة، ولكن جوابنا عليهم أنّنا الآن أمام خطوة يُبنى عليها لما بعد في أكثر من ملفّ.
وعلينا إزاء ذلك أن ننأى بأنفسنا عن المداخلات السياسيّة حتّى في العناوين الخاوية والمدائح الطاوية.
فمن واقع الخبرة المعرفيّة المتخصّصة، وبحكم معايشة الكثير من القضاة على مدى أكثر من ثلث قرن، أتكلّم على واقع القضاء اليوم في ظلّ الأزمة التي ألمّت بوطننا الحبيب لبنان على المستويات والصعد كلّها مرورًا بانفجار بيروت الكارثيّ الذي ألقى بثقله على حياة المواطنين الأبرياء وممتلكاتهم. وبعد أن أخذت الأزمة الماليّة والاقتصاديّة جنى العمر، وبعد أن أرخت كورونا بظلالها الوبائيّة على الوضع ككلّ، إزاء كلّ ما تمّ سرده تأتي السياسة لتقوّض عمل القضاء في محاولة حثيثة لخلط أوراق التحقيق بما يخدم فئة من الساسة على حساب فئة أخرى.
ومن موقع ممارستي القضاء الجزائيّ بشكل خاصّ أقول :
في لبنان الكثير من القضاة الشرفاء، والقليل ممّن جعلوا من وظيفتهم القضائيّة منصّة لإرضاء بعض ولاة الأمر السياسيّين، فرضوا أن يكونوا مع الخوالف على حساب المناقبيّة والكرامة وعزّة النّفس.
فإلى هؤلاء القلّة المنحرفة من القضاة أقول استقيلوا قبل أن تُقالوا وقبل أن تطالكم يد السلطة القضائيّة المتمثّلة بمجلس القضاء الأعلى الذي يضمّ الغالبيّة من القضاة الشرفاء وعلى رأسهم حضرة الأخ والزميل والصديق الصدوق الرئيس سهيل عبّود.
إنّ القضاة الشرفاء مذ تولّيهم مهامهم يعملون بصمت لخدمة العدالة وتحسين مستوى القضاء العادل والمعطاء.
وإليهم، وهم كُثُر، أقول:اقفلوا أبوابكم بوجه الساسة والسياسيّين، والمارقين والكذّابين وأعطوهم الصمّاء من سمعكم، ما دام التدخّل يتمحور في صميم عملكم القضائيّ، وافتحوا عقولكم وقلوبكم إلى ما يخدم مصلحة الوطن والمواطن في تحقيق العدالة السامية والعدل القويم. فلا تجعلوا من القضاء سلّمًا يتمشّقه اللاهث في تحقيق المصالح، ولا تضعوا كلمتكم العليا تحت مقصلة السياسة.
والصدق في أنّ العدل أساس الملك.
والحقّ في مقولة: “لعن الله السياسة ما دخلت أمرًا إلّا أفسدته”…
فالقاضي والخطر، وجهان لعملة واحدة”!
قد يثير هذا الكلام المعنون بالخطر بعض البلبلة، ولكن إذا تعمّقنا في الوجه الحقيقيّ للقاضي تلمّسنا حقيقة الخطر الداهم الذي إن لم نتداركه فلن تُجدي كلمة (لو)،”ولات ساعة مندم”.
الوضع كارثيّ جدًّا، ولا زال البعض يتنطّح في الصباح والمساء بأسطوانة جوفاء مطلقًا صوته ليصل إلى عنان السماء قائلًا: أين القضاء؟
سأجيبك أيّها الشاكي وما بك داء، القضاء على شفا جُرف هار، إن لم نستلحقه أو نستدركه فلن تفيد كلّ الصرخات المرسلة في صدى وادي الذئاب، حيث الحرمان يأخذ حتّى سرير الأمان إلى مكان واعر تقف عنده قدرات القاضي الفكريّة والجسديّة عاجزة عن الاستمرار في هذا المدار المضني والمنهك لقواه حتّى الصمت المطبق.
تصوّروا أيّها السادة أنّ رواتب القضاة في الدرجات العُليا لا تلامس الستّمئة دولار، أمّا الرواتب في الدرجات الدنيا فإنّها لا تصل إلى الأربعمئة، والمطلوب منهم السهر ليلًا، والقيام نهارًا، للقضاء بين الناس على ضوء شمعة إن وُجدت، أو اشتراك الكهرباء إن توفّر.
وما ينطبق على القاضي العامل في حياته اليوميّة، ينطبق على المتقاعد الذي أفنى شبابه في خدمة العدالة ليتقاعد على أبواب الموت المحتّم القادم مع دياجير الظلم والظلمات.
أيّها السادة، صندوق تعاضد القضاة في خطر محدق ولا تمويل يُذكر، ولا تزال موارده “مفروضة على الدولار الرسميّ”، وبدأت تتآكل مع الارتفاع المتزايد لسعره. وإن لم ننتبه جيّدًا للمخاطر المحدقة فلن ينفع بعدها الويل والثبور.
قد يقول البعض إنّ الوضع كارثيّ على الجميع بدون استثناء. أجيب صحيح، ولكن من سيفصل في قضايا الناس والجرائم التي ترتكب بحقّ الإنسانيّة؟ أليس القضاء هو الفيصل والحكم؟ فإذا سقط هيكل العدالة، سيسقط الجميع في وادٍ سحيق، ولا أحد سيفيق عندها من غيبوبة القهر والحرمان.
إنّها صرخة من قاضٍ عانى خدمةً للقضاء العادل، فهل من يجيب؟ لنتجنّب النحيب الآتي من خوف المستقبل القريب المنذر بخراب لا يبقي ولا يذر.
وهل من يستمع إلى نداء العدالة، فيلبّي النداء قبيل وقوع المحظور في المدى المنظور؟
العدل أساس الملك، والحفاظ على رجال العدالة الضمانة الأساسيّة للنّهوض بدولة القانون.
وأختم لأقول نعم لاستقلاليّة القضاء كسلطة مستقلّة في جميع أمورها.
وألف نعم لمجلس القضاء الأعلى بعد تشكيله، بأن يضرب بيد العدالة كلّ من تسوّل له نفسه نشر الفوضى والعبث بمقدرات بلد بأكمله، وذلك عن طريق توجيهاته الحثيثة لحسن سير القضاء، وبلورة رؤيته الثاقبة في حسن انتقاء القضاة الشرفاء.
“محكمة” – الأحد في 2025/1/26

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!