الإحتكار في لبنان: جريمة حرب دون مكافحة أو عقاب رادع/رامي عيتاني
المحامي رامي محمّد خير عيتاني:
في ظلّ ما شهده لبنان مؤخّرًا من تجاوزات غير مسبوقة منذ تاريخ تأسيسه حتّى يومنا هذا من جرائم إخفاء السلع الحياتية الأساس للمواطن سواء أكانت أدوية أو وقودًا أو غذاء، وفي ظلّ تنامي ظاهرة الإحتكار والمضاربة على بعض السلع المدعومة، والنقص في كمّياتها، نتيجة احتراف منظومة الفساد القائمة على النهش والسرقة والتزوير واللعب بلقمة عيش المواطن الفقير، وغياب كلّي لأيّ محاولات ردع من قبل الدولة المشغولة بمناكفات ساستها الأقوياء، ظهر جليًا تعبيرًا نسمعه كلّ يوم عند اقتحام مستوع هذا، أو صيدلية ذاك، أو محطّة ذاك وذاك وذاك..
هذا وتعتبر جرائم الإحتكار من الجرائم الإقتصادية التي يعاقب عليها القانون في العالم حيث تخالف السياسة الإقتصادية للدول، غير أنّ هناك محاولات حثيثة من المجتمع الدولي للتغلّب عليها وللحدّ منها ومن سيطرة المحتكرين على مقدّرات الدول والشعوب، تبعًا لما للمال من سلطان.
ويقصد بالإحتكار في اللغة الإقتصادية (monopoly) بأنّها الحالة التي يكون السوق فيها عبارة عن شركة واحدة فقط تؤمّن منتوجًا أو خدمة إلى جميع المستهلكين. بمعنى آخر، هذه الشركة تكون مسيطرة على كامل السوق، ولهذا تسمّى الشركة حينها بالمحتكرة. أمّا السوق فيسمّى محتكرًا، والشركة محتكرة، والحالة هي عبارة عن احتكار، وفي هذه الحالة تستطيع الشركة أن تفرض الأسعار كيفما تشاء لأنّه لا يوجد شركات أخرى لمنافستها في هذا السوق.
أمّا في القانون، فيقصد به كلّ عمل من شأنه سوء استغلال المركز الاقتصادي للحدّ من المنافسة المشروعة بهدف جني أرباح خيالية، وبصورة مخالفة للمبادئ الأساسية التي يقوم عليها السوق بالإستناد إلى قاعدة العرض والطلب، كما ويمكن تعريفه بأنّه حبس الشيء والإمتناع عن بيعه رغم شدّة حاجة الناس إليه، حتّى يرتفع سعره أو ينقطع عن السوق، وذلك لغرض اقتصادي أو سياسي أو غيره.
والإحتكار قد يكون في القطاع الخاص، عندما تحدّد الشركة نفسها سعر المبيع حسب الطلب، وفي نفس الوقت تستطيع تعديله حسب كمّية الإنتاج.
كما قد يكون الإحتكار في القطاع العام، عندما تحدّد الحكومة الأسعار تبعًا لمعايير خاصة، كما لو عمدت إلى خفض الأسعار لتأمين المنتوج للمستهلكين الذين لا يستطيعون شراء المنتوج بأسعار مرتفعة.
وقد يكون الإحتكار محلّيًا، كأن تكون الشركة المحتكرة موجودة في محيط خاص بحيث تبعد عنها باقي الشركات جغرافيًا، ممّا يخوّلها تلقائيًا احتكار العرض والطلب في هذا المكان.
وقد يكون الإحتكار أجنبيًا، مثل احتكار بيع الأسلحة والتنقيب عن النفط وتسويقه وغيره.
وفي القانون اللبناني، حدّد المشترع اللبناني الإحتكار في المادة 41 من المرسوم الإشتراعي رقم37 تاريخ 1983/9/9 (المتعلّق بحيازة السلع والمواد والحاصلات والإتجار بها)، فنصّت على أنّه يعتبر احتكارًا:
1- كلّ اتفاق أو تكتّل يرمي للحدّ من المنافسة في انتاج السلع والمواد والحاصلات أو مشتراها أو استيرادها أو تصريفها، ويكون من شأنه تسهيل ارتفاع أسعارها ارتفاعًا مصطنعًا أو الحيلولة دون خفض هذه الأسعار.
2- كلّ اتفاق أو تكتّل يتناول الخدمات بغية الحدّ من المنافسة في تأديتها ويكون من شأنه تسهيل ارتفاع بدلاتها بصورة مصطنعة أو الحيلولة دون خفض هذه البدلات.
3- كلّ عمل يرمي إلى تجميع المواد أو السلع أو الحاصلات أو اخفائها بقصد رفع قيمتها، أو غلق مكاتب أو مستودعات لأسباب غير مشروعة بغية اجتناء ربح، لا يكون نتيجة طبيعية لقاعدة العرض والطلب.
وبذلك، يتبيّن أنّ المشترع اللبناني منع كلّ عمل من شأنه الحدّ من المنافسة بهدف رفع الأسعار أو البدلات أو منع خفضها بغية اجتناء أرباح بصورة غير طبيعية وغير مشروعة.
إلّا أنّ قاعدة حظر الإحتكار لم تأت مطلقة، بل إنّ المشترع اللبناني أجاز في حالات معيّنة إحتكار بعض السلع والمواد لأسباب لها علاقة بالمصلحة العامة، إلّا أنّه منع منح أيّ احتكار إلّا بموجب قانون يصدر عن مجلس النوّاب، فنصّت المادة 98 من الدستور اللبناني على أنّه “لا يجوز منح أيّ التزام أو امتياز لاستغلال مورد من موارد ثروة البلاد الطبيعية أو مصلحة ذات منفعة عامة أو أيّ احتكار إلّا بموجب قانون وإلى زمن محدود”.
ويعرف هذا النوع بـ”الإحتكار القانوني”، لأنّه يستند في وجوده إلى نصوص قانونية تمنح المحتكر حقّ الإنفراد في شراء بضاعة معيّنة أو إنتاج سلعة محدّدة أو تقديم خدمة، ويحظّر على أيّ شخص منافسة الممنوح حقّ الإحتكار القانوني في الموضوع الذي يتناوله ذلك الإحتكار.
وخير مثال على ذلك، احتكار إدارة الريجي في لبنان شراء وصناعة وبيع التبغ بموجب القرار رقم 61 ل.ر. تاريخ 1953/1/30، وكذلك انفراد مؤسّسة كهرباء لبنان بإنتاج ونقل وتوزيع الطاقة الكهربائية في جميع الأراضي اللبنانية بموجب المرسوم رقم 87861 تاريخ 1964/7/10. وتجدر الإشارة إلى إلغاء احتكار الملح في جميع الأراضي اللبنانية وإطلاق حرّية استخراجه واستيراده من الخارج ونقله وبيعه بموجب قانون موازنة العام 1952 تاريخ 1952/2/5.
هذا وتتعدّد الآثار السلبية للإحتكار، وأهمّها الحدّ من المنافسة المشروعة، والسيطرة على النشاطات التجارية، والتحكّم بالأسعار عبر رفعها أو منع خفضها، والحيلولة دون الإفادة من مزايا الإختراعات والإكتشافات الحديثة، إلّا إذا كانت تصبّ في مصلحة المحتكر، وعدم استغلال كافة الموارد الطبيعية والإنتاجية بقصد التحكم بقاعدة العرض والطلب، وسوء توزيع الثروة والدخل، فمن الممكن أن نجد فقرًا مدقعًا مقابل ثراء فاحش. كما قد يؤدّي الإحتكار إلى الحؤول دون تبوء أصحاب الكفاءات مجالات العمل نتيجة سيطرة المحتكرين على هذه الأسواق، وقد يصل الأمر إلى درجة التحكّم بالشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الدول وفي العالم بأسره.
والسؤال الأهمّ في هذا السياق حول إجراءات مكافحة الإحتكار في القانون اللبناني، وكيفية ضبط المؤسّسات المحتكرة ، والآليات القانونية المتبعة ، وعن مدى صلاحية هذا القانون كي يشكّل رادعًا حقيقيًا من أجل مواجهة المحتكرين وحربهم ومواجهة حربهم القاتلة، أو ضرورة تعديله؟
نشير هنا إلى أنّ المشترع اللبناني قد أنشأ دائرة مختصة بمكافحة الغلاء والإحتكار بموجب المرسوم رقم 3251 تاريخ 1242/11/18، وقد كانت مرتبطة في ذلك الوقت بوزارة التموين، وعهد إلى رئيسها بموجب المرسوم الإشتراعي رقم 1943/73 مهمّات البحث والتحرّي والتحقيق في جرائم الإحتكار، مع إعطائه حقّ الأمر بإقفال المحلّ الذي وقعت فيه الجريمة.
إلّا أنّه بعد صدور المرسوم الإشتراعي رقم 37 تاريخ 1983/9/9، أعطت المادة 71 وما يليها منه مهمّة ضبط جرائم الإحتكار وتنظيم محاضر الضبط إلى موظّفي مصلحة حماية المستهلك وأفراد الضابطة العدلية المكلّفين رسميًا القيام بهذا النوع من العمل.
ويمارس هؤلاء الموظّفون الصلاحيات المعطاة لهم في جميع المؤسّسات والمحلّات التجارية والمستودعات التي تخزّن فيها مواد وحاصلات وسلع وفي مؤسّسات الخدمات المسعّرة، ويشترط لممارسة الوظيفة في الأماكن الأخرى التي يشتبه بوجود بضائع وحاصلات وسلع فيها، الحصول على موافقة خطّية مسبقة من النيابة العامة المختصة، وفي مطلق الأحوال يحقّ لهؤلاء الموظّفين الإستعانة بقوى الأمن الداخلي كلّما دعت الضرورة.
ويحقّ لموظّفي مصلحة حماية المستهلك، المكلّفين رسميًا، مطالبة أصحاب العلاقة بتقديم جميع الوثائق والمستندات التي تثبت صحّة المعلومات المدلى بها، وتضبط المخالفة بموجب محاضر ضبط وفقًا لنموذج معيّن يحدّد بقرار من وزارة الاقتصاد والتجارة في ما يعود لمراقبي مصلحة حماية المستهلك. وتُحال محاضر الضبط إلى النيابة العامة الاستئنافية ذات الصلاحية، من قبل رئيس المصلحة بواسطة رئيس مصلحة الإقتصاد والتجارة في المحافظات بعد التأكّد من استيفائها الشروط القانونية مع كافة المستندات والإفادات والمعلومات الضرورية المتعلّقة بها، أو ترفع للمدير في ضوء التدقيق والتحقيق الإضافي عندما ترتئي رئاسة المصلحة حفظ المحضر لتقترن بقرار المدير العام.
وتنظر في الجرائم المحاكم الإستئنافية المختصة في المحافظة التي وقعت فيها الجريمة، وتطبّق بشأنها أصول المحاكمات الموجزة المتعلّقة بالجرائم المشهودة، وتكون أحكامها غير قابلة للمراجعة إلّا لتصحيح الخطأ المادي، وفي مطلق الأحوال لا يجوز الحكم بأقلّ من الحدّ الأدنى للغرامة، ويمكن إثبات الجريمة بجميع الطرق القانونية.
أمّا عن عقوبة جرائم الإحتكار، فقد حدّدت المادة 43 من المرسوم الإشتراعي رقم 83/73 عقوبة جرائم الإحتكار بالغرامة من عشرة ملايين إلى مئة مليون ليرة، وبالسجن من عشرة أيّام إلى ثلاثة أشهر، أو بإحـدى هاتين العقوبتـين، وعنـد التكرار تضاعف العقوبة.
وكلّ ممانعة للموظّفين المكلّفين بتنفيذ أحكام هذا المرسوم الاشتراعي أثناء قيامهم بوظائفهم، يعاقب عليها بغرامة من مليونين إلى عشرين مليون ليرة، وبالسجن من سبعة أيّام إلى ثلاثة أشهر أو بإحدى هاتين العقوبتين، وإذا رافق الممانعة الإهانة أو التهديد أو الإعتداء، تضاعف العقوبة.
وكـلّ من يخفي الوثائق والمسـتندات التي يحـقّ لموظّـفي مصلحـة حمـاية المستهلك الإطلاع عليها، أو يرفض تقديمها، يعاقب بغرامة من مليونين إلى عشرين مليون ليرة، وبالسجن من ثلاثة أيّام إلى شهر، أو بإحدى هاتين العقوبتين. وكلّ تذرّع بعدم وجود الدفاتر التجـارية الإلزاميـة أو الفواتيـر يشكّل سببًا لتشديد العقوبة،
وكلّ إخلال بتعهّد يعطى لوزارة الاقتصاد والتجارة، في مجال تسهيل الأعمال التجارية، يعاقب عليه بغرامة من مليون إلى عشرة ملايين ليرة، وبالسجن من ثلاثة أيّام إلى شهر، أو بإحدى هاتين العقوبتين، وعند التكرار تضاعف العقوبة، وتحجز المواد والسلع والحاصلات التي هي من نوع وصنف البضاعة التي ارتكبت بها المخالفة في أيّ مكان وجدت، ويمكن الحكم بمصادرة الكمّية المحجوزة كلّيًا أو جزئيًا حسب الحالة، ويوضع على المحجوزات خاتم رسمي، وتودع أمانة لدى المخالف أو لدى شخص ثالث على ذمّة بتّ المخالفة، إلّا أنّه إذا كانت الكمّية المحجوزة ضرورية للتموين أو قابلة للتلف السريع، فيقتضي بيعها بمعرفة مصلحة حماية المستهلك، التي تحفظ الثمن حسب الأصول القانونية على ذمّة بتّ المخالفة، وإذا تكرّرت المخالفة خلال السنة الواحدة يمكن، بالإضافة إلى العقوبات المنصوص عليها في هذا المرسوم الإشتراعي، الحكم بإغلاق المركز التجاري الذي ارتكبت فيه المخالفة، ويمنع مزاولة المهنة خلال مدّة تتراوح بين ثلاثة أيّام وشهر، ويعتبر بمثابة المخالف الأصلي كلّ من تدخّل أو اشترك في ارتكاب الجريمة، أو حرّض عليها، أو أخفى المعلومات المتعلّقة بها.
ويؤخّذ من قيمة الغرامات التي استوفيت فعلًا ومن محصول الصادرات المحكوم بها، مبلغ لا يتجاوز 52% من مجموعها، ويرصد لمكافأة الموظّفين الذين ينظّمون محاضر الضبط والذين يتولّون إكمالها ومتابعتها حتّى صدور الأحكام. ويحدّد وزير الإقتصاد والتجارة، بناء على اقتراح المدير العام للوزارة، نسبة المبلغ الذي يقتـضي اقتطاعه وطريقة توزيعه.
وتجدر الإشارة إلى أنّ كلّ عمل من أعمال الإحتكار المبيّنة في المادة 41 المذكورة سابقًا، يعتبر باطلًا حكْمًا، بالنسبة إلى المتعاقدين أو المتكتّلين، سواء أكان هذا العمل ظاهرًا أم مستترًا، ولا يجوز لهم التذرّع بهذا البطلان تجاه الغير للتنصّل من مسؤولياتهم.
للأسف، في كلّ أزمة يظهر أثرياء جدد يستغلّون الوضع إمّا بالتحيّل على القانون أو باستغلال الثغرات القانونية والظرفية الإجتماعية وضعف الرقابة على بعض القطاعات الحيوية الأساس، وقد مثّلت المحاولات الأخيرة للثورة على الفساد بعد ثورة ١٧ تشرين 2019 مفصلًا لخروج حيتان الإحتكار من جحورهم وظهور بارونات توزيع السلع وسعيها لضرب المواطن اللبناني الفقير من خاصرته الضعيفة، توازيًا مع تمكين المافيات المصرفية وعملاء العملة من نهش ذلك المواطن في جانبه الأقوى بسرقة جنى عمره.
وللأسف أيضًا، فإنّ ارتفاع حالات التجاوزات والإحتكار هو انعكاس حتمي لوجود منظومة فساد كاملة تغطّي المحتكرين وأربابهم وأولياء نعمهم من كبار الكارتيلات والمافيات، وهي مجموعات واجب تفكيكها والقضاء عليها من جذورها لا التركيز على صغار التجّار والموزّعين فقط وتضييع البوصلة في البحث عن الأقل فسادًا.
لذلك، فإنّ أوّل خطوة يجب على الدولة القيام بها لإيقاف المحتكرين عند حدّهم هي تنقيح القانون المتعلّق بإعادة تنظيم المنافسة والأسعار، وتعديل العقوبات البسيطة المفروضة عليهم ، بحيث تصبح ملاءمة أكثر مع حجم هذه الجريمة، ووجوب اعتبارهم مجرمي حرب، والتعامل معهم وفق هذا الأساس، وإلّا اعتبرت الدولة شريكًا أساسيًا مع هذه المافيات والعياذ بالله.
“محكمة” – الخميس في 2021/9/9