الإضراب في القطاع العام بين الإباحة والتحريم/عصام اسماعيل
عصام نعمة إسماعيل:
كثرت في السنوات الأخيرة حالات الإضراب الجماعي للعاملين في القطاع العام بصورة أصبح اللجوء إلى الإضراب الخيار الأوّل، وفي حالاتٍ كثيرة لا يكون للإضراب من جدوى أو نتيجة، وقد نجم عن هذا الإضراب تعطيل المرافق العامة التي يفترض أن لا تتوقّف أبداً حيث يحكمها مبدأ دستوري هو مبدأ استمرارية المرافق العامة، ويوازيه مبدأ حماية المصالح العامة للمواطنين، ومبدأ حسن تقديم المرفق للخدمة التي يؤدّيها.
ولم يقتصر أثر الإضرابات المتكرّرة على حسن سير المرافق العامة التي يرفض الاجتهاد الإداري والدستوري على السواء تعطيلها (م.د. قرار رقم 1999/1 تاريخ 1999/11/23 الصادر بمراجعة إبطال القانون رقم 127 تاريخ 1999/10/25 م.د. القرار رقم 2014/7 تاريخ 2014/11/28 بشأن الطعن بقانون تمديد ولاية مجلس النواب. م.ش. قرار رقم :2014/349-2015 تاريخ 2015/2/23 طانيوس يونس ورفاقه/ الدولة) إلاّ أنّ التمادي في ظاهرة الإضراب قد وضع النظام العام برمّته في خطر، وهذا ما استدعى تحرّكاً لرئيس الحكومة الذي منحه الدستور (المادة 64) إعطاء التوجيهات لحسن سير العمل في الإدارات العامة، فذّكرنا بموجب المذكّرة رقم 14 تاريخ 2019/5/6 بنصٍّ كاد يضيّعه النسيان وعدم التطبيق، وهو نصّ المادة 15 من نظام الموظّفين الذي وبالرغم من قدمه إذ يعود لتاريخ 1959/6/12 إلاّ أنّه نصّ جرى استنساخه في كافة أنظمة موظّفي ومستخدمي المؤسّسات العامة والبلديات (آخرها نظام الأجراء في بلدية مدينة النبطية لعام 2012). وبوجود النصّ الصريح الذي يتكرّر في كافة أنظمة المؤسّسات العامة والبلديات والإدارات العامة، فلا يمكن تجاهله أو القول بإلغائه ضمنياً تطبيقاً للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، بخاصةٍ وأن قانون العقوبات اللبناني يجرّم الإضراب بنصّه عفي المادة 340 على أنه :”يستحق التجريد المدني الموظفون الذين يربطهم بالدولة عقد عام اذا اقدموا متفقين على وقف اعمالهم او اتفقوا على وقفها او على تقديم استقالتهم في احوال يتعرقل معها سير احدى المصالح العامة.
وما يعزّز هذا التفسير أنّه في الدول التي أقرّت الحقّ في الإضراب في دساتيرها (فرنسا ومصر على سبيل المثال: فإنّها اشترطت صدور قانون ينظّم حالات الإضراب ومفاعيله القانونية). بل ويستقرّ الفقه والاجتهاد على أنّ الإضراب وإنْ كان عملاً مشروعاً بذاته إلاّ أنّه يتعيّن ألاّ يترتّب على ممارسة هذا الحقّ تعطيل مرافق الدولة بما يلحق الضرر بمصلحة جهة العمل الإدارية، وأنّ على الدولة تنظيم حقّ الإضراب السلمي بما يتفق مع حكم الدستور(حكم مجلس الدولة المصري الصادر بجلسة 17 يونيو 2017، فى الطعن رقم 27047 لسنة 61 قضائية).
وفي فرنسا قضى المجلس الدستوري الفرنسي أنّ الغاية المتوخّاة من قبل السلطة المؤسّسة (دستور 1946) هي جعل حقّ الإضراب بمصاف المبادئ ذات القيمة الدستورية مع خضوعه لضوابط يمكن للمشترع أن يرسمها بهدف تحقيق التوالف الضروري ما بين حقّ الدفاع عن المصالح المهنية والحفظا على المصلحة العامة (C.C. no 79-105 DC, 25/7/1979 ذكره د. أمين صليبا في كتابه دور القضاء الدستوري في إرساء دولة القانون – المؤسسة الحديثة للكتاب طرابلس 2002 ص348).
وفي لبنان لا يوجد نصّ في الدستور على الحقّ في الإضراب، بل يوجد هذا النصّ في الاتفاقيات الدولية التي انضمّ إليها لبنان لا سيّما العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي أقرّ الحقّ في الإضراب شرط استعماله وفقاً لقوانين البلد المعني، وكذلك الاتفاقية العربية لحقوق الإنسان التي أقرّت أيضاً الحقّ في الإضراب ولكن في الحدود التي ينصّ عليها التشريع النافذ.
إلاّ أنّ كلا المادتين لا يُستوحى منهما الإجازة المطلقة بالإضراب، بل هي إجازة معلّقة على صدور النصوص التشريعية المنظّمة للحقّ في الإضراب، ولهذا فإذا كان هذا النصّ نافذاً (أي نصّ الاتفاقية الدولية المجيزة للإضراب) إلاّ أنّه بذات الوقت معلّق التنفيذ إلى حين صدور التشريعات التطبيقية (وهي ليست المرّة الأولى التي يعلّق فيها تطبيق نصّ على صدور الأنظمة التطبيقية – م.ش. قرار رقم 2010/705 -2011 تاريخ 24 أيار 2011 بدعوى شركة غلوبال كوم داتا سرفيسز ش.م.ل./ الهيئة المنظّمة للاتصالات). لذا وإلى حين صدور نظام الإضراب بموجب قانون، يلغي بدوره الحظر الوارد في المادة 14 من نظام الموظّفين وفي أنظمة المؤسّسات العامة والبلديات، فإنّه يبقى للمبادئ المرتبطة باستمرارية المرافق العامة الأولوية في التطبيق.
يضاف إلى ذلك أنّ الإضراب بما يعنيه التوقّف عن العمل، فإنّه لا يجوز احتساب أيّام الإضراب على أنّها أيّام العمل الفعلية بحيث يقتضي أن لا يتقاضى المضرب عنها رواتبه وتعويضاته (مجلس الخدمة المدنية الرأي رقم 966 تاريخ 2000/5/9)، وكذلك لا تحتسب أيّام الإضراب أيّام عمل فعلية لغاية تحديد سنوات الخدمته وبيان مدى استحقاق العامل تعويض نهاية الخدمة أو تعويض الصرف أو المحسومات التقاعدية.
ومن هذه المنطلقات، فإنّ مذكّرة رئيس الحكومة المكتفية بتذكير الموظّفين بواجباتهم هي فعلياً كانت محلّ حثّ على إعادة التفكير في مشروعية الإضراب، تاركة لهيئات الرقابة ممارسة دورها في هذا المجال.
“محكمة” – الأربعاء في 2019/5/8