التحكيم في لبنان حاجة أم ضرورة؟/صابرين الموسوي
المحامية صابرين الموسوي:
يعتبر قانون التحكيم من أهم الوسائل البديلة لتسوية النزاعات خارج النظام القضائي للدولة، فالتحكيم هو عملية رضائية يتفق فيها الأطراف على إحالة النزاعات التي نشأت أو ستنشأ بينهم الى هيئة للفصل فيها من قبل شخص واحد أو أكثر (المحكمون أو هيئة التحكيم) وصولاً لإصدار قرار التحكيم. ويعتبر قرار التحكيم ملزمًا لكلا الطرفين وقابلاً للتنفيذ في المحاكم، ما لم تنص جميع الأطراف على أن عملية التحكيم والقرار غير ملزمين.
وقد أخذ نظام التحكيم مكانة مهمة في أغلب الدول المتطورة التي جعلت منه الوسيلة المفضلة لتسوية النزاعات في مجال العلاقات التجارية الدولية. كونه يتميز بالمرونة الإجرائية، وبالسرعة في فض المنازعة، وسرية المداولات بين أطراف النزاع وهيئة التحكيم، وكذلك حرية الأطراف لاختيار الأشخاص الذين سيقومون بالفصل في النزاع.
وبفضل اتفاقية الاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها “اتفاقية نيويورك” 1958، أصبحت أحكام التحكيم واجبة التنفيذ في أكثر من ١٧٠ دولة حول العالم. ولبنان لم يبق بعيداً عن هذا التطور، بل دخل نظام التحكيم في ساحة المنافسة ممتلكاً نصوصاً تشريعية واضحة وصريحة نظمها المشترع اللبناني في المواد 762 إلى 821 من قانون أصول المحاكمات ّ المدنية، وكان لبنان من أولى الدول التي ميزت في نصوصها بين تحكيم داخلي وتحكيم دولي. كما وقد وقّع على العديد من الاتفاقيات العربية والإقليمية والدولية الخاصة بالتحكيم.
قضاء الدولة وقضاء التحكيم
التحكيم هو النظام الذي بموجبه يمكن الفصل في النزاعات بعيداً عن قضاء الدولة، وبالرغم من وجوده قبل قضاء الدولة، فهو الأداة التي توصل النزاع إلى حل قانوني بصورة اختيارية بالسرعة والدقة اللازمتين أمام هيئات التحكيم المختلفة التي أصبحت أكثر دقة وتنوعاً نظراً للتطور العالمي وانفتاح الدول أكثر فأكثر. فالتحكيم قضـاء خاص يقـوم بأداء وظيفته بشكل لا يختلـف عن وظيفـة الـقضاء، إلاّ أن التحكيم يختلف عنه كونه ينبع من اتفاق الخصوم، في حين أن قضاء الدولة هو سلطة عامة تتولى الدولة تنظيمها لإرساء العدالة والاستقرار والأمن في البلاد فيستمد القاضي سلطته من هذه الدولة، والقرار الذي يصدره المحكّم بعد ذلك لا يختلف في جوهره عن الحكم الصادر عن قضاء الدولة.
وعلى الرغم من أن التحكيم يعتبر بديلاً لحل النزاعات بين الأطراف، فإنّه غير مستقل بشكل تام عن قضاء الدولة لأن اتّفاق الفرقاء على حل نزاعاتهم عن طريق التحكيم ونزع الاختصاص من المحاكم العادّية، لا يعني أبداً أّنه لا دور للقاضي الوطني في عملية التحكيم. وفي ظل هذه الحقيقة يتدّخل قضاء الدولة من أجل المعاونة فقط.
أهمية التحكيم
للتحكيم أهمية كبيرة في الحياة الاقتصادية بين الشركات الاستثمارية والأفراد. وباعتباره الوسيلة الأفضل لحل المنازعات بالطرق السلمية بات التحكيم يشكل مطلباً من المطالب الأساسية للتجارة العالمية والاستثمار الأجنبي بشكل خاص، حيث يخشى المستثمر الأجنبي من القوانين المحلية ومن بطء إجراءات التقاضي المحلية، فيمكنه اشتراط القانون واجب التطبيق في حالة حدوث منازعة سواء كان القانون المحلي أو الأجنبي. تأتى أهمية أخرى للتحكيم تتمثل في كونه يساعد بشكل أساسي في انتعاش الحياة التجارية وتشجيع المستثمر على الدخول في استثمارات كبيرة وفى علاقات تجارية واسعة دون الخوف من إطالة أمد التقاضي.
كما تظهر أهمية التحكيم كوسيلةٍ فعّالة لحلّ النزاعات الناجمة عن العقود بشكلٍ عام، وعقود الإنشاءات بشكلٍ خاص، فالتحكيم يضمن للأطراف الراغبين بحل نزاعٍ معين عدداً من المزايا التي لا تتوفر في القضاء، لذلك يعتبر التحكيم كأحد السبل لحل نزاعات عقود الإنشاءات. وهذا النظام يسمح للأطراف بتحديد الإجراءات واجبة التطبيق على النزاع والقانون واجب التطبيق على الموضوع. كما أنه يجوز للأطراف بعد بدء العملية التحكيمية حسم منازعتهم عن طريق التسوية الودية والاتفاق على صدور حكم بالتسوية. كما يجوز للأطراف اللجوء لأي وسيلة اخرى من الوسائل البديلة لتسوية المنازعات خلال إجراءات التحكيم، ثم العودة إلى التحكيم في حالة عدم التوصل الي تسوية.
إضافةً إلى ذلك يتميز التحكيم بكونه القضاء الأكثر مرونة، والموفّر للوقت والجهد والمال. حيث تهدف إجراءات التحكيم إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الدِّقَّة والكفاءة، وصولاً لإصدار قرار نهائي مُلزم وقابل للتنفيذ. ونتيجة لذلك، فإن الهدف الرئيسي وراء اللجوء إلى التحكيم هو تفادي الإجراءات القضائية المطولة. حيث أنه من الصعب تنفيذ أحكام قضائية أجنبية في حالة عدم وجود إما معاهدات ثنائية أو معاهدات متعددة الأطراف مناسبة، ولكن هذا لا يحدث في مجال التحكيم، حيث تلزم اتفاقية نيويورك دول الأطراف الموقعين عليها بالاعتراف بأحكام التحكيم الصادرة في الدول الأخرى الموقعة على الاتفاقية وتنفيذ تلك الأحكام. وعلى المستوى العربي، تتيح اتفاقية الرياض الاعتراف بأحكام التحكيم وتنفيذها بسلاسة في الدول الأعضاء للجامعة العربية.
التحكيم الإلكتروني
ايضاً، يتسم التحكيم بخصائص ومميزات جعلته يكتسب ثقة أطراف النزاع ويحل محل القضاء في حسم الكثير من المنازعات التجارية، ومع التطور الهائل في الجوانب التقنية والالكترونية. ومع تزايد نزاعات التجارة الإلكترونية ازداد اللجوء للتحكيم الإلكتروني لتسوية تلك المنازعات والفصل فيها عبر شبكات الاتصال دون الحاجة إلى الانتقال أو وجود أطراف العملية في مكان واحد.
والتحكيم الإلكتروني لا يختلف في جوهره عن التحكيم التقليدي، فكلاهما وسيلة من الوسائل البديلة لفض النزاعات، إذ يعتمد لفض نزاع معين بدلاً من اللجوء إلى القضاء باعتباره الوسيلة المعتادة لفض النزاعات، وسواء أكان التحكيم إلكترونياً ام تقليدياً، فهو طريق خاص لفض النزاع قوامه إرادة الأطراف، فلا يتم إلا إذا اتفق الطرفان على اتخاذه وسيلة لحل نزاعهم، أما سلطة المحكم في حسم النزاع، فهي تستمد بناء على ذلك من هذا الاتفاق، كما تتحدد صلاحيته بحدود ما تفوضه إرادة الأطراف للنظر فيه، حيث يعتبر جوهر التحكيم الإلكتروني استغلال شبكة الإنترنت في حل المنازعات المتولدة عن التصرفات القانونية التي ابرمت عن طريقها، بما يتلاءم وطبيعة وخصوصيات هذه التصرفات.
وفي الوقت الحالي تُصرّ معظم شركات الاستثمار على تضمين العقد “شرط تحكيم” يكون هذا الأخير هو الوسيلة الوحيدة لحسم أي خلاف قد ينشأ بين أطراف العقد، وبالتالي أصبح التحكيم حافزاً كبيراً لتشجيع الاستثمار الأجنبي، وعادة ما تلجأ هذه الشركات إلى شرط التحكيم لإبعاد علاقاتها الاقتصادية عن رقابة وإشراف المحاكم الوطنية.
لهذا، فإنّ وجود نظام للتحكيم في دولة معينة يكفل المزايا المذكورة أعلاه، يعدّ عاملاً من عوامل جذب الاستثمار والشركات الأجنبية إلى اقليمها كونه يوفر لهذه الشركات ضمانات من الصعب الاستحصال عليها إذا انطبقت على معاملاتها قواعد التقاضي أمام المحاكم العادية، الأمر الذي جعل من التحكيم الخيار الأمثل للدول وللشركات الكبرى لحل وتسوية منازعاتها التجارية.
وبالرغم مما يوفره التحكيم من مزايا عديدة، إلّا أنّ له عيوباً اثبت التطبيق العملي وجودها منها ضعف الثقافة التحكيمية لدى بعض العاملين في مجال التحكيم. وبالرغم من وجود هذه العيوب فإنّ مميّزات التحكيم تغلب على عيوبه.
وأمام هذا الواقع، بات التحكيم بلا منازع من أهم وسائل العصر القادم وهو لم يعد مجرد وسيلة مقترحة لحل المنازعات وحسب، وإنّما أصبح اليوم ضرورة اقتصادية لا غنى عنها، لا بل ومن الحوافز لرجال الأعمال والاستثمار الأجنبي، وعاملاً مميزاً من عوامل التنمية الاقتصادية. ولعل أول ما يجب العمل عليه لتفعيل التحكيم في لبنان هو تفعيل البيئة الثقافية في البلد ونشر ثقافة التحكيم كوسيلة لتسوية المنازعات الى جانب القضاء.
المراجع:
1- آباريان (علاء)، الوسائل البديلة لحل النزاعات (دارسة مقارنة)، منشورات الحلبي الحقوقية، 2012.
2- حداد (حمزة)، التحكيم كوسيلة بديلة لتسوية المنازعات التجارية الدولية، ورقة عمل مقدمة لندوة محامو المستقبل المنعقدة في عمان.
3- شقير (محمد)، مؤتمر المركز اللبناني للتحكيم والوساطة “خطوة إلى الأمام”.
4- تقرير لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي الدورة الخامسة والأربعون (٢٥ حزيران – ٦ تموز ٢٠١٢).
5- إبراهيم (خالد ممدوح،) التحكيم الإلكتروني في عقود التجارة الدولية: إبرام العقد الإلكترونيـة، دراسة مقارنة، دار الفكر الجامعي، مصر، 2008.
6- اتفاقية عمان العربية للتحكيم التجاري في ضوء المبادىء الأساسية للتحكيم الدولي، دراسة، العدل 1988، الدراسات.
7- التحكيم الالكتروني كآلية لحل منازعات عقود التجارة، د.شيماء شمس الدين عبد الغفار (المجلة العلمية للبحوث الإدارية والمحاسبية والاقتصادية والقانونية).
8- التحكيم الإلكتروني أحدث النزاعات وأحدث طرق الحل، محمد احمد حته، مقال منشور بموقع http://kenanaonline.com/users/hetta11/posts/81160.
9- قانون أصول المحاكمات اللبناني.
10- قانون التجارة اللبناني.
11- اتفاقية نيويورك 1958، (الاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها).
12- شرانق (اليسار)، واقع ومستقبل التحكيم في لبنان، مذكرة لنيل شهادة الماجستير، الجامعة اللبنانية، الفرع الأول 2018.
“محكمة” – السبت في 2024/9/14