التعويضات للطفلة طنوس عادلة أم خيالية: ماذا فعلت يا طارق البيطار؟/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
للمرّة الأولى في تاريخ القضاء اللبناني يصدر حكم بفرض إلزامات مالية ضخمة بحقّ مستشفيين وطبيبين معنيين في قضيّة خطأ طبّي أدّى إلى بتر أطراف الطفلة ايلا طنوس التي كتب عليها أن تعيش حياتها منذ الصغر وإلى أن يشاء ربّ العالمين من العمر، بعكس سواها من بني البشر، مع ما في ذلك من انعكاسات سلبية وأضرار معنوية على نفسيتها لا يمكن تصوّرها بأن تكون من نوع السهل الممتنع مهما صادفت من ابتسامات وورود وحنان وتشجيع على طريق الدراسة واللعب والعمل والزواج، ومهما قيل من كلام إنشائي لا يروي ظمأ ولا يشبع نهمًا.
ولم يسبق للقضاء اللبناني بمختلف درجاته أن قضى بتعويضات بلغت عشرة مليارات ليرة لبنانية بينها تسعة للطفلة نفسها ومليار لوالديها يوزّع مناصفة بينهما، ومبلغ مالي شهري على شكل راتب يوازي أربعة أضعاف الحدّ الأدنى للأجور مدى الحياة، وهذا أقلّ اعتبار إزاء العذابات والآلام التي مرّت بها هذه الطفلة، وربّما عجزت المسكّنات عن إسكاتها وطمأنتها، فلذا هو تعويض لا يوازي المشقّة.
فما صدر من أحكام قضائية في المرحلة السابقة لحكم طنوس، رمت على سبيل المثال، إلى إلزام بتعويض بين ثلاثماية مليون ليرة لبنانية(حكم في بيروت عام 2018)، وأربعماية وخمسين مليون ليرة(حكم ثان في جديدة المتن عام 2018)، وخمسماية وخمسين مليون ليرة(حكم في الجنوب عام 2019)، وهي مهما حملت من معطيات ودوافع ومسوّغات تبقى أقلّ بكثير من أيّ مبلغ مالي يمكن أن يُحكم به للمتضرّر نتيجة الإهمال والتقصير والتقاعس عن القيام بالواجب الإنساني والوصول إلى مصاف رسالة الطبّ.
وما ان صدر الحكم بقضيّة طنوس يوم الأربعاء الواقع فيه 5 أيّار 2021 عن محكمة استئناف الجنح في بيروت والمؤلّفة من القاضي طارق البيطار رئيسًا منتدبًا والقاضيتين غريس طايع وكارلا شواح مستشارتين، حتّى ظهرت مواقف متفاوتة بين مؤيّد ومعارض لقيمة التعويضات المالية المحكوم بها، فمنهم من وجدها مناسبة لتُعين هذه الطفلة على إكمال حياتها بشرف وعزّة وكرامة من دون أن تحتاج أحدًا على وجه الأرض، ومنهم من لمس مبالغة وتضخيمًا وغلوًا فيها وخصوصًا الفئة المستهدفة بالحكم، أيّ كلّ من مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت ومستشفى سيّدة المعونات في جبيل والطبيبين عصام. م. ورنا.ش. ومن خلفهم كلّ الجسم الطبّي بمستشفياته ومراكزه الصحيّة وأطبائه والممرّضين.
صرخة
ولا يختلف عاقلان على أنّ هذا الحكم هو صرخة مدوّية لتنظيم الجسم الطبّي كرسالة إنسانية تحتذى قبل أن تكون غايتها تحقيق ربح وفير، لأنّ حياة الناس ليست ألعوبة بيد هذا الطبيب أو ذاك، ومن غير المسموح التعاطي مع الناس بلغة تجارية، إذ لم يعد جائزًا أن تبقى الأخطاء الطبّية بمنأى عن الملاحقة القضائية الجدّية من أجل التخفيف منها وليس القضاء عليها باعتبار أنّ الطبيب إنسان معرّض لارتكاب خطأ ما في عمله، وليست غاية أيّ حكم قضائي قطع عنق الطبيب أو قطع أرزاق المستشفى، بل استئصال الخطأ قبل حدوثه عن طريق التفكير مليًا في كيفية مقاربة أيّ ملفّ طبي أو أيّة عملية جراحية، لأنّ أرواح الناس ليست ألعوبة بيد هذا وذاك، ولا يحقّ لأحد على وجه الكرة الأرضية تسهيل قتلها أو التسبّب بتشويهها وإلحاق الأذى المعنوي والجسدي بها.
لا
وما بعد هذا الحكم ليس كما قبله، إذ لم يعد مسموحًا أن يترك الطبيب مريضه بعد إجراء عملية جراحية دقيقة له ويسافر إلى خارج لبنان بداعي المشاركة في مؤتمر علمي مع جولة سياحية لا غنى عنها”ما دام جينا وجينا” كما تسوّل النفس الأمّارة بالسوء، تاركًا أمر متابعة المريض لطبيب آخر قد يكون في بعض الأحيان طالبًا في سنة دراسية معيّنة، أو متخصّصًا في مجال طبّي آخر،
إهمال قاتل
ولم يعد مقبولًا أن يصل مريض في حالة طارئة ليلًا إلى المستشفى لإحساسه بأوجاع داخلية تستدعي إجراء صورة بتقنية الرنين المغناطيسي IRM بسرعة فائقة، ويصادف أن تكون هذه الآلة معطّلة ولا يمكن استخدامها وبالتالي الإمتناع عن تشخيص حالة المريض الذي ينقل إلى غرفة داخلية ويعطى مسكّنات لتخفيف الآلام وإخفاء تعطّل الآلة عن ذويه بدلًا من إسعافه وإيصاله إلى مستشفى آخر، وكلّ ذلك من أجل الإستفادة ماليًا.
وبعد مرور إثنتي عشرة ساعة وحالة المريض تسوء لا يتحرّك ضمير الأطباء إلّا بعدما أيقنوا أنّه انتهى صحّيًا ولم يعد من أمل في شفائه فيتملّصون من دورهم الإنساني ويتحوّلون في هذه اللحظة إلى مجرمين. وبالفعل ينقل المريض إلى مستشفى آخر قريب يبعد عن الأوّل مسافة عشر دقائق، وخلال إجراء الإسعافات الأوّلية له لمعرفة حالته يلفظ أنفاسه الأخيرة. شاب في الثانية والخمسين من عمره ومهندس متخصّص في النفط وخرّيج جامعة لويزيانا في الولايات المتحدة الأميركية يموت بسبب استهتار المستشفى والأطباء وجشعهم. تجمّع الدم المنساب من ثقب في القلب داخل الجسد حتّى امتلأ وشلّ أعضاء أخرى لا بل عطّلها وقتلها تدريجيًا حتى فقدت قدرتها على العمل. هذه الحادثة ليست من الخيال، هي بنت الواقع، وقد حصلت مع عمّي شخصيًا في نيسان العام 2006.
الطبيب التاجر
ولم يعد مسموحًا أن يجعل الطبيب من مهنته تجارة، فلا يرى في المريض إلّا مالًا، وإذا ما عرضت عليه سيّدة يدها لشعورها بوجع في المفاصل بين الكفّ والذراع نتيجة قيامها بتنظيف السجّاد، حدّد فجأة العلاج بإجراء عملية جراحية من دون أن يطلب صورة. يا له من طبيب ثاقب النظر يستطيع بعينيه أن يرى ما في تحت جلد الإنسان من وجع. هي حاسة خاصة لا يقربها إلّا الطبيب المهمل الذي باع ضميره لحفنة من الليرات. ويعمد هذا المسمّى طبيبًا إلى تحديد موعد لإجراء العملية لئلاّ يفقد المريض.
لم يقتنع زوج السيّدة بهذا التوصيف والتشخيص غير المقنع. إستلّ هاتفه الخليوي واتصل بمعالج فيزيائي تربطه به صداقة طويلة وشرح له الحالة. هذا المعالج يطلب صورة بينما الطبيب المختصّ يتغاضى. ويا للهول تظهر الصورة عدم الحاجة إلى عملية جراحية في مكان خطر من اليد قد يصيبها بشلل ما، وأنّ كلّ ما في الأمر هو الحاجة إلى جلسة تليين الشدّ العصبي لمدّة ربع ساعة مع توصية بالراحة ليومين.
الطبيب الإنسان
ولم يعد مقبولًا ألّا يرى الطبيب في المريض إلّا خزنة دولارات. فيطلب من المريض المحتاج إلى عملية جراحية على نفقة وزارة الصحّة العامة، أن يدفع له مائتي دولار أميركي “أجرة يده” زيادة على أتعابه من دون توضيح سبب هذا الجشع، ويبادر من تلقاء نفسه إلى الإتصال وحجز موعد لهذه العملية. يا لهذه المروءة وهذه الشهامة وهذا النبل. ولا يكتفي بل يطلب خمسين دولارًا أجرة “كشفية” استغرقت ثلاث دقائق في نظرة واحدة على مكان الوجع. لكنّ المريض المتيقّن من حالته الصحيّة نتيجة مراجعة طبيبين آخرين قبل الطبيب الجرّاح، رفض أن يسلّم نفسه لهذا التاجر بهيئة طبيب، وقصد طبيبًا آخر تعامل معه بطريقة إنسانية راقية، لم يطلب قرشًا واحدًا زيادة على أتعابه، مع أنّه أكثر شهرة من الأوّل، ويبزّه خبرة ومعرفة ومراسًا.
إزاء هذا السرد لثلاث حوادث حقيقية ومعاشة وليست من صنع الخيال، وإمكانية حصول خطأ طبّي ما في أيّة لحظة جرّاء الإستهتار والتقصير وقلّة الإدراك وعدم القدرة على التشخيص، فإنّ التعويضات التي أقرّها القاضي طارق البيطار والقاضيتان غريس طايع وكارلا شواح للطفلة طنوس تعتبر زهيدة وقليلة، فالمهمّ هو الإنسان وهذا ما حاول البيطار أن يفعله ونجح على أقلّ تقدير.
فالعشرة مليارات ليرة تساوي بلغة العملة الصعبة في زمن انهيار القدرة الشرائية لليرة اللبنانية والإرتفاع الجنوني للأخضر الأميركي نحو 770 ألف دولار أميركي، فيما مصاريف علاج وعملية تركيب أطراف لن تقلّ عن 600 ألف دولار أميركي، وإذا ما اختزلنا التعويض المعطى للوالدين ومجموعه مليار ليرة لبنانية فيبقى مع ايلا طنوس أقلّ من مائة ألف دولار أميركي وهو رقم بخس مهما تمّ احتساب سعر صرف الدولار الأميركي.
كثيرًا ما نصادف أخطاء طبّية هنا وهناك، وكثيرًا ما كان الأطباء والمستشفيات ينجحون في البقاء بعيدًا عن المحاسبة والعقوبة القاسية والصارمة بفعل التدخّلات والوساطات والمسايرات والتسهيلات ورفض التعامل بالشدّة معهم باسم القانون والعدالة الحقّة، لذلك جاء الحكم بقضيّة طنوس ليؤكّد وجوب مكافحة الخطأ قبل حصوله، والسعي إلى عدم الوقوع في مصيدة أيّ خلل طبّي قد يطيح إنسانًا بقتله مرّتين، والمرّة الثانية أصعب لأنّها تحصل باسم الإنسان.
ليس المهمّ الإقتصاص من الأطباء عبر قطع رقابهم وأرزاقهم، وليست الغاية تحقيق هذا الأمر، إنّما الهدف الأسمى ضرورة إبلاغهم وإعلامهم بأنّ الإهمال والتقصير المفضيين إلى أيّ خطأ طبّي، بسيطًا كان أم قاتلًا، يجب أن يزول من مفكّرة الوجود، لا بل يجب أن يتوقّف التفكير به.
صحيح أنّ الأطباء ليسوا آلهة وليسوا قدّيسين ومعصومين، وهم معرّضون لاقتراف خطأ ما، لكنّ الخطأ المؤدّي إلى الموت ولو بقي المرء على قيد الحياة كحالة ايلا طنوس يجب ألّا يرد في الحسبان على الإطلاق.
لقد قلب القاضي البيطار المقاييس رأسًا على عقب، لا بل يمكن القول إنّه أصدر حكمًا إنقلابيًا غير متوقّع بهذه التعويضات الممتازة. ترك مع مستشارتيه طايع وشواح للقلب أن يشعر بمعاناة طفلة ظُلمت عن سابق إهمال وتقصير، ولميزان العقل أن يحدّد قيمة التعويض مع أنّ الضرر كبير ولا يضاهى، والقاعدة تقول بوجوب التساوي بين التعويض والعطل والضرر، لذا لم يعد مسموحًا بعد اليوم الإفلات من العقاب المادي وهو أقلّ واجب يمكن التعويض به على من خسر جزءًا كبيرًا لا يعوّض من العمر والحياة.
“محكمة” – الثلاثاء في 2021/5/11