التمييز والعنف في القوانين وتأثيرهما على مكانة ودور المرأة في المجتمع/عطاف قمر الدين
الدكتورة عطاف علي قمر الدين*:
إن مناقشة موضوع حقوق المرأة لا تعدّ وجاهةً في المجتمع أو ترفًا في الكلام، فعلى الرغم من تحقيق مطالب عديدة وهامّة في مجال منح المرأة لحقوقها، ما زالت الأخيرة تعاني من عنف وتمييز على أكثر من صعيد، والأخطر أن مظاهر هذا التمييز مكرّسة في القانون، ليضاف “العنف القانوني” إلى مختلف أشكال العنف الممارس ضدّها لا لشيء إلا لكونها ولدت أنثى في مجتمعات ما زالت تتحفّظ تجاه الاعتراف بالحقوق الإنسانية للمرأة والكفّ عن اعتبارها مواطنًا من الدرجة الثانية!
من هذا المنطلق، تظهر أهمية تسليط الضوء على ضرورة تطوير بعض القوانين الموجودة بما يتلاءم مع التزامات لبنان الدولية لجهة حقوق المرأة أولاً، وبما يراعي متطلبات مبدأ المساواة بين المواطنين المكرّس في المادة السابعة من الدستور اللبناني ثانياً.
وقبل الدخول في تفصيل عنوان هذه المداخلة، نشير إلى أننا سنعمد إلى تقسيم مختلف محاورها على أساس المسائل أو المواضيع التي ما زالت تعاني المرأة من عنف أو تمييز بشأنها، بما يخدم عرض مختلف القوانين المتداخلة التي ترعى كل مسألة أو كل موضوع على حدة، وذلك وفق ما يلي:
أوّلاً: بالنسبة للعنف الجنسي:
وأقلّه جسامةً التحرّش وأشدّه جسامةً الاغتصاب.
اعتبرت منظمة الصحة العالمية في تقريرها العالمي حول العنف والصحة لعام ٢٠٠٢، أن التعليقات والتحرّشات الجنسية أو أية أفعال مشبوهة ضد الحياة الجنسية للشخص تقع بصورة غير مرغوب فيها، هي أحد أشكال العنف الجنسي. وقد بقي التشريع اللبناني خاليًا من أي نصّ صريح يجرّم التحرّش الجنسي حتى عام ٢٠٢٠ حين أقرّ أخيرًا القانون رقم ٢٠٥ الرامي إلى تجريم التحرّش الجنسي وتأهيل ضحاياه، وفي الوقت الذي يسجّل للمشرّع أنه جرّم في القانون كافة أشكال التحرّش أي التحرّش اللفظي والجسدي وأيضاً التحرّش الالكتروني الذي يعدّ ظاهرة خطيرة في أيامنا هذه في ظل انتشار شبكات التواصل الاجتماعي التي تسهل على المتحرّش ارتكاب الفعل لغياب المخاطر المرتبطة بمسرح الجريمة المادي وعدم تطلّب المقابلة الفعلية بينه وبين الضحية، إلا أنه يؤخذ عليه، أي على المشرّع، الاستعانة بمصطلحات عامّة وغامضة في تعريف التحرّش على أنّه ” كل سلوك سيء متكرّر خارج عن المألوف، غير مرغوب فيه من الضحية، ذي مدلول جنسي يشكّل انتهاكاً للجسد أو للخصوصية أو للمشاعر يقع على الضحية في أي مكان وجدت، عبر أقوال أو أفعال أو إشارات أو إيحاءات أو تلميحات جنسية أو إباحية(…)”، وهنا نسأل على أي أساس يعتبر السلوك سيئًا وخارجًا عن المألوف؟ ولماذا يشترط التكرار لقيام الجرم قانوناً؟ ألم يكن يكفي تعريف التحرّش على أنه: كل سلوك غير مرغوب فيه من الضحية، ذي دلالة جنسية، يشكّل انتهاكاً للجسد أو للخصوصية أو للمشاعر… ؟ بدل إخضاع التجريم لمعايير مبهمة تحدّ من فعالية القانون؟
أمّا بالنسبة لجريمة الاغتصاب، فقد عاقب المشرّع اللبناني عليها بموجب المادتين ٥٠٣ و ٥٠٤ من قانون العقوبات. ومن مطالعة هاتين المادتين نجد أنه تم استثناء الزوجة من أحكام جريمة الاغتصاب بمعنى أن الاغتصاب كجريمة جزائية لا تقع من الرجل ضد زوجته، فلا مجال للقول بتجريم القانون اللبناني للاغتصاب الزوجي. وإن كانت المادة ٣ من قانون العنف الأسري 2014/293 المعدّل بالقانون 2020/204 قد نصّت على تجريم الضرب والايذاء والتهديد الحاصل أثناء أو بسبب الجماع على حدّ تعبير المشرّع، إلا أن المادة المذكورة قد جاءت بصيغة تؤكد الالتفاف على مطلب تجريم الاغتصاب الزوجي إذ نقرأ فيها أنه”من أقدم بقصد استيفاء حقوقه الزوجية في الجِماع أو بسببه على ضرب زوجه أو إيذائه عوقب(…)”، وهذا النص يحيل إلى النصوص التي تعاقب على جرم الايذاء في قانون العقوبات وليس إلى النصوص التي تعاقب على الاغتصاب، كما أنه لا يجرّم الإكراه الذي يقوم عليه جرم الاغتصاب بل على العكس من ذلك نجد أنه كرّس في القانون المدني مفهوم “الحقوق الزوجية في الجماع” التي تحيل إلى مفهوم الواجب الزوجي وكأن المرأة بعدم تجاوبها مع رغبة زوجها تكون قد امتنعت عن أداء واجبها ما دفع الأخير إلى ضربها وإيذائها! وهذا ما يصوّر عقد الزواج على أنه عقد ملكية لجسد المرأة الأمر الذي ييتعد كل البعد عن معاني الزواج التي تقوم على التراضي والشراكة والحبّ المتبادل!
بالمقابل، لا بدّ من التنويه بخطوة تشريعية إيجابية قد جاءت نتيجة ضغط كبير من الجمعيات المعنية بحقوق المرأة، وتمثلت بالقانون 2017/53 الذي ألغى المادة ٥٢٢ من قانون العقوبات اللبناني التي كانت تفيد مرتكب الاغتصاب وغيره من جرائم الاعتداء على العرض في حال عقد زواج صحيح بين المجرم وضحيته، من الاعفاء من الملاحقة الجزائية أو العقوبة الجزائية على حسب الأحوال. وطبعاً هذا النص كان نموذجًا للعنف القانوني بوجه المرأة حيث كان يراعي التمسك باعتبارات الستر أو حفظ شرف الأسرة وغيرها من المفاهيم البالية الجائرة، ما يحمل تشجيعًا على الجرم من ناحية، ومساسًا بكرامة المرأة وحقها في سلامة جسدها وحريتها الجنسية من ناحية أخرى، وذلك بدلاً من العمل على العناية بالصحة النفسية للضحية بعيداً عن الجاني والتخفيف من وطأة هذا الاعتداء عليها.
ثانيًا: بالنسبة للعنف الأسري:
لقد خاضت الجمعيات الناشطة في مجال حقوق المرأة مساراً طويلًا من النضال قبل الوصول إلى خطوة إقرار قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري رقم ٢٩٣ لسنة ٢٠١٤ والمعدّل كما سبق وذكرنا بالقانون 2020/204، وهنا يطرح التساؤل حول سبب تعديل قانون لم يكن عمره قد تجاوز بضع سنوات في تاريخ تعديله، والجواب يكمن في الثغرات العديدة التي اعترت مضمون القانون كما أقرّ في صيغته الأولى، وذلك لأكثر من جهة، أبرزها الآتي:
من جهة أولى، لم تكن المادة الأولى من القانون قد شملت العنف الأسري الممارس من قبل الزوج على طليقته وهو الأمر الشائع للأسف، فنجد أن المادة عينها المعدّلة أصبحت تعرّف العنف الأسري على أنّه ما يقع أثناء الحياة الزوجية أو بسببها، ويفهم من ذلك أن العنف يكون خاضعًا لأحكام القانون المذكور ولو وقع بعد انحلال الرابطة الزوجية.
من جهة ثانية، كانت المادة الأولى المشار إليها قد نصّت على العنف النفسي والاقتصادي من بين أشكال العنف الأسري إلى جانب القتل أو الايذاء الجسدي والجنسي، ولكن النصّ كان شكليًا لا تترتب عليه أية مفاعيل جزائية، ما يعيق معاقبة مرتكب العنف الأسري المعنوي أو الاقتصادي تطبيقًا لمبدأ الشرعية الجزائية الدستوري الذي يقضي بأن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنصّ، لذلك نجد أن المادة ٣ المعدّلة قد استحدثت نبذة ثامنة فيها أضافت بموجبها المادة ٥٠٣ مكرّر١ إلى قانون العقوبات اللبناني بحيث تعاقب صراحةً من مارس عنفًا داخل الأسرة ألحق ضررًا معنويًا أو اقتصاديًا أو أدى إلى حرمان أفرادها من احتياجاتهم الأساسية.
ومن جهة ثالثة، كان التدبير المسمى قانوناً بـأمر الحماية من العنف الأسري الرامي إلى حماية ضحية العنف وأطفالها، مقتصرًا على الأطفال الذين هم في سن الحضانة القانونية وفق أحكام قوانين الأحوال الشخصية، لذلك نجد أن المادة ١٢ المعدّلة أصبحت تنصّ في فقرتها الأخيرة على أنه “يقصد بالأطفال المشمولين حكماً بأمر الحماية أولئك الذين هم في سنّ الثالثة عشرة وما دون” وهذا تعديل منطقي جدًا لأن أحكام الحضانة لا تثار إلا عند وقوع الطلاق بين الزوجين أصلاً، كما أنه لا يجوز الاستمرار في تغليب مصلحة الحفاظ على صلاحية قوانين الأحوال الشخصية في مجال الشؤون الأسرية بشكل عام، على مصلحة حماية الطفل من العنف الأسري. وإن كان يحبّذ الاكتفاء بالنصّ على شمول أمر الحماية لأطفال الضحية على أن يخضع تحديد سن الطفل للقواعد القانونية العامة حيث يعتبر طفلًا كل حدث لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره.
ثالثًا: بالنسبة للقتل الواقع على النساء:
يأبى مسلسل جرائم القتل ضد النساء في لبنان وخاصةً الواقع من الزوج ضد زوجته، إلا أن يرسخ العلاقة غير المتكافئة بين الرجل والمرأة في إطار المؤسسة الزوجية بحيث تكون للرجل امتيازات غير مشروعة على حساب المرأة ولو على حساب أسمى الحقوق الإنسانية على الإطلاق أي الحق في الحياة. والجدير بالذكر أننا نتطرّق إلى القتل المرتكب من قبل الزوج في هذه النبذة لأن له خصوصية معينة ناتجة عن ربطه بمفاهيم الشرف، فنحن نعلم أن المشرع اللبناني كان قد تسامح مع القاتل بداعي “الشرف” معتبراً أن الزعم بارتكاب الضحية لما ينافي مفاهيمه، ينفي عن القاتل تجرّده من المشاعر الإنسانية والتنكر للروابط الأسرية ويجعله بطلاً بالمفهوم الذكوري الشرقي التقليدي، وقد تُرجم ذلك في المادة ٥٦٢ من قانون العقوبات اللبناني التي كانت تفيد من العذر المحل من العقاب من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنى المشهود أو في حالة الجماع غير المشروع فأقدم على قتل أحدهما بغير عمد.
وعليه كان المشرع قد شجع على الاجرام بصريح العبارة وفسح السبيل أمام اختلاق ” الأعذار ” التي تحفز على الاقتصاص من المرأة بواسطة القتل بداعي ” الشرف “!
وبقي الحال على ما ذكر حتى العام ١٩٩٩ حين أثمرت الجهود النسوية في تعديل المادة ٥٦٢ بموجب القانون رقم ٧ تاريخ 1999/2/20 بالاستعاضة عن العذر المحل بالعذر المخفف من العقاب، وفق الشروط عينها المنصوص عليها فيها، إلى أن ألغيت المادة تمامًا من قانون العقوبات اللبناني بموجب القانون رقم ١٦٢ تاريخ 2011/8/17.
بالتالي، لم يعد هناك أي نص في التشريع الجزائي اللبناني يفيد بأي شكل من أشكال التساهل في المعاملة العقابية تجاه المجرم الذي يتمسك بمقتضيات الشرف المزعومة، لكي يقتل أنثى من أفراد عائلته!
ولكن على أرض الواقع ماذا حصل ؟ الحقيقة أن الواقع التشريعي السالف عرضه لم يترجم في اطار الواقع القضائي حيث بقيت للقضاء السلطة الاستنسابية في تقدير مدى توافر عناصر المادة ٢٥٢ من قانون العقوبات اللبناني في عملية قياس على شروط حالة “جريمة الشرف”، وهي التي تنص على ما حرفيته الآتي: “يستفيد من العذر المخفف فاعل الجريمة الذي أقدم عليها بثورة غضب شديد ناتج عن عمل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجنى عليه”، هذا فضلاً عن منح الأسباب التخفيفية مراعاةً للحالة النفسية التي يوجد فيها الجاني لدى توافر شروط حالة “جريمة الشرف”.
وكان في ذلك التفاف واضح على إلغاء المادة ٥٦٢ المذكورة سابقًا، لصالح الحفاظ على الرواسب الذهنية الذكورية التي تدعم الحفاظ على ” الشرف ” ولو بالقتل! وما يؤكد على ما نقول، هو الأثر الذي تركه هذا التوجه القضائي في النفوس لجهة تذرع بعض الرجال بتوافر ” الدافع الشريف” المنصوص عليه في المادة ١٩٣ من قانون العقوبات، في بعض حالات القتل، التماسًا لرأفة المحكمة وتعاطفها مع المجرم حتى في ظل غياب ما يبررّه كمجرد ممارسة السلطة الذكورية على المرأة والتحكم بخياراتها أو التعرض للرفض أو الصدّ من قبلها في إطار العلاقة الزوجية أو طلبها الانفصال أو ما شابه ذلك من الأمور التي تُدخل دافع القتل في عداد الأسباب الشخصية البحتة والانتقام الشخصي من الضحية، لا في عداد الأسباب الموضوعية المجردة من كل باعث أناني واعتبار شخصي ومنفعة ذاتية بما يستدعي إفادة المجرم من مفاعيل ” الدافع الشريف”.
أمام هذا الواقع، كان لازمًا تدخل المشرع من جديد كي يحسم القول بانقضاء مرحلة المعاملة العقابية المخففة تجاه القاتل الذي يتذرع بدافع الشرف، واستبدالها بمعاملة عقابية مشددة تتناسب مع جسامة الفعل الجرمي من جهة أولى، ومن جهة ثانية مع جهود مكافحة العنف الأسري ضد المرأة على وجه العموم. وبالفعل، جاء نصّ الفقرة الرابعة من المادة ٣ من قانون العنف الاسري 2014/293 المعدّل، ليقرر إضافة فقرة جديدة على نص المادة ٥٤٧ من قانون العقوبات بحيث تصبح كالآتي:
” من قتل إنسانًا فصداً عوقب بالأشغال الشاقة من خمس عشرة سنة الى عشرين سنة.تكون العقوبة من عشرين سنة الى خمسة وعشرين سنة اذا ارتكب فعل القتل أحد الزوجين ضد الآخر “.
إذا، إن القتل الواقع من الزوج على زوجته يعتبر قتلاً مشددًا طبقًا لأحكام المادة ٥٤٧ المعدّلة بموجب قانون العنف الأسري وفق ما سبق تبيانه، وذلك بمعزل عن طبيعة الدافع الذي لا يعتد القانون به طبقًا للقواعد العامة وبمعزل عن التذرع بمفاهيم بالية كتلك التي طالما أمنت الحماية القانونية للقتلة ظلمًا وبهتانًا!
رابعًا: بالنسبة لتزويج القاصرات:
يمنع صغر السن القاصر بشكل عام من تولّي مسؤوليات معيّنة كقيادة السيارة وممارسة حق الاقتراع… كما تكون التبعة القانونية منتفية أو منقوصة بالنسبة للأفعال التي يرتكبها القاصر وتشكّل انتهاكًا لقاعدة قانونية ما… ولكن بالمقابل، عندما يتعلّق الأمر بالزواج وما يترتّب عليه من مسؤوليات عديدة، تختلف نظرة المشرّع إلى القاصر بحيث يعتبرها أهلًا لذلك بحسب قوانين الأحوال الشخصية!
وهنا لا بدّ من التوقّف عند محطة تشريعية هامة:
قبل العام ٢٠١٧، كان في التشريع اللبناني، تحديدًا قانون العقوبات، مادة (المادة٥٢٢) تنصّ على إيقاف الملاحقة أو وقف تنفيذ العقاب بحق مرتكب إحدى جرائم الاعتداء على العرض في حال عقد زواج صحيح بين المجرم وبين ضحيّته، كما سبق وذكرنا في هذه المداخلة، وتم بموجب القانون 2017/53 إلغاء المادة المذكورة، ولكن هذا الإلغاء لم يأت على إطلاقه حيث أبقى المشرّع على مفاعيل المادة ٥٢٢ بالنسبة لجرمي مجامعة القاصر التي أتمّت الخامسة عشرة ولم تتم الثامنة عشرة وفض البكارة بعد إغواء فتاة بوعد الزواج ( المنصوص عليهما في المادتين ٥٠٥ و ٥١٨ من قانون العقوبات)، ماذا يعني ذلك؟
يعني أن المشرّع أجاز خيار عقد الزواج لإباحة فعلي مجامعة القاصر وإغوائها بالزواج، حيث يتم الاتصال الجنسي بين المجرم والضحية برضى الطرفين بمعزل عن أي اعتداء في هذا المجال، علمًا أن المبدأ هو معاقبة مجامعة القاصر لمجرد وقوع الجماع مع قاصر بغض النظر عن أي اعتبار آخر. وهذا التعديل خطير جداً، لماذا؟ لأنه يكرّس تزويج القاصرات في القانون المدني (أي ليس فقط في القوانين الدينية الناظمة للأحوال الشخصية) ما يطيح بالجهود المبذولة باتجاه منع تزويج القاصرات قانونًا! ومن غير المتنازع عليه أن الزواج المبكر يزيد من احتمال تعرّض القاصر للعنف الأسري والاغتصاب الزوجي وفي أغلب الحالات يلغي أية فرصة للتحصيل العلمي الكافي وبناء مستقبل جيد ويضع الفتاة في موقع الدون والتابع في إطار علاقة غير متكافئة.
خامسًا: بالنسبة للتمييز في مجال العمل:
نصّت المادة ٢٦ من قانون العمل اللبناني المعدّلة بالقانون 2000/207، على حظر التفرقة بسبب الجنس في ما خصّ نوع العمل، الأجر، الترقية والترفيع، التوظيف… وعلى الرغم من إيجابية وجود هذا النص إلا أن الذهنية التمييزية والأحكام المسبقة حول تفاوت القدرات والمهارات بين الجنسين، ما زالت تؤثر على أوضاع المرأة في سوق العمل. فبحسب موقع مجلة “المفكرة القانونية”، في مقال نشر في تموز 2019، لريان قاننجي ونزار حريري، ان لبنان يعاني من فجوة فاضحة في الدخل بين الجنسين وفقاً لمؤشر التفاوت بين الجنسين الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، إذ يحتلّ المرتبة 135 عالمياً في هذا الصدد ويعتبر أداؤه سيئاً مقارنة بالدول العربية المجاورة على الرغم من أن التحصيل العلمي للإناث ومشاركتهن في القوى العاملة في لبنان هي أعلى نسبياً. وقد بيّنت الاحصاءات الواردة في المقال المذكور أن المرأة الحاصلة على دبلوم جامعي تنال دخلاً يقل بنسبة 35.55% عن دخل الرجل، كما تحصل النساء اللواتي تقلّ خبرتهنّ عن 5 سنوات على أجور أقل بنسبة 10% من أجور الرجال الذين يملكون الخبرة نفسها، وتتزايد هذه الهوة مع زيادة سنوات الخبرة، فالمرأة التي تتراوح خبرتها بين 5 و10 سنوات تحصل على راتب أقل بنسبة 18.81% من راتب الرجل! وتزيد هذه الفجوة لتبلغ نسبة 23.96% بين رواتب الرجال والنساء ذوي الخبرة التي تزيد على عشر سنوات!
هذا علماً أن الفجوة في الأجور تبلغ أعلى مستوياتها بين العاملين في المهن الفكرية ونسبتها 38.5%، وأدناها بين عاملي وعاملات المكاتب حيث تبلغ النسبة 22.37%. أما بين موظفي الخدمة ومندوبي المبيعات، فيصل الفارق في الراتب بين الرجل والمرأة إلى ما نسبته 23.23%. وأخيراً، يتقاضى العمال الرجال ما نسبته 27.83% أكثر من العاملات النساء.
وأمام هذه الأرقام، تبدو أهمية وجود آلية قانونية واضحة لتأمين رقابة تضمن تحقيق الأجور المتساوية فعيلاً وعدم الاكتفاء بالنص على المساواة نظريًا.
وفي سياق متصل، وبالعودة الى قانون العمل اللبناني، نجد أن المشرّع قد دمج في هذا القانون الأحكام الخاصة بالنساء مع تلك المتعلقة بالقاصرين (م ٢١ حتى ٣٠ ضمنًا تحت عنوان “في استخدام الأولاد والنساء”!) ومن البديهي المطالبة بفصل الأحكام المشار إليها عن بعضها البعض لكون الوضع الحالي يوحي بأن المرأة تخضع لمعاملة قانونية خاصة كما الأولاد وهو ما يجافي الحقيقة التي تفيد بإخضاع المرأة لمعاملة تشريعية ملائمة في ما يتعلق بمسائل الحمل والإنجاب والأمومة ليس إلا.
أما النقطة الأخيرة التي يهمنا التطرق إليها في هذا الصدد، تتعلق بالتحرش الجنسي في أماكن العمل، وهو ما لحظه المشرع في قانون تجريم التحرش الجنسي 2020/205 حيث قررت المادة ٢ منه تشديد عقوبة التحرش في الحالات التالية:
– إذا كانت الجريمة حاصلة في إطار رابطة التبعية أو علاقة العمل.
– إذا كان المتحرش موظفًا بمفهوم قانون العقوبات، وتعسّف باستعمال السلطة التي يتمتع بها بحكم مهامه أو بمعرض القيام بوظيفته أو بسببها.
– وإذا كان الجاني ممن له سلطة مادية أو معنوية أو وظيفية أو تعليمية على المجني عليه. وفي هذه الحالة لا تتوقف الملاحقة على شكوى المتضرر.
وفي جميع الحالات، لا تستوجب الملاحقة الاستحصال على أي إذن مسبق، سنداً للمادة ٣ من القانون، حيث لا حصانة إدارية لمرتكب التحرش الجنسي.
والجدير بالذكر في السياق عينه، أن المادة ٤ من قانون تجريم التحرش الجنسي قد حظرت تحت طائلة العقوبة الجزائية، كل تمييز أو مساس بالحقوق المكرّسة قانوناً تتعرّض له الضحية التي رفضت الخضوع لأفعال التحرش، لا سيما لجهة الأجر أو الترقية أو النقل أو تجديد عقد العمل أو فرض عقوبات تأديبية بحقّها. وهذا النص جاء واقعًا في محله الصحيح لأن الواقع يحفل بالتجاوزات، حيث تتعرض المرأة لدى عدم التجاوب مع المتحرّش، إلى صرف تعسفي، الحرمان من الوصول إلى مراكز صنع القرار والمساس بالحق في الأجر المتساوي… وغيرها من الممارسات التمييزية.
سادسًا: بالنسبة للتمييز في موضوع الجنسية:
كما نعلم، يتحفظ لبنان على المادة ٩ من إتفاقية “سيداو” أو اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والتي تنصّ على أن تمنح الدول الأطراف المرأة حقًا مساويًا لحق الرجل في ما يتعلق بجنسية أطفالهما. وانسجامًا مع هذا التحفظ، يحصر المشرّع اللبناني رابط الدم بالأب فقط، فلا يجوز للمرأة منح جنسيتها اللبنانية لأطفالها ولا لزوجها الأجنبي بحسب القرار الناظم لموضوع الجنسية رقم ١٥ لسنة ١٩٢٥ الصادر عن المفوض السامي آنذاك والمعدّل بالقانون تاريخ 1960/1/11، مع الإشارة إلى استثناء حصري واحد اعتد بشأنه المشرع بحق الدم من جهة الأم في منح الجنسية اللبنانية للولد غير الشرعي وذلك متى كانت الأم اللبنانية هي الأسبق في الاعتراف بالبنوّة بحسب المادة ٢ من القرار السالف الذكر.
سابعًا وأخيرًا: بالنسبة للتمييز في مجال المشاركة السياسية:
يحتل لبنان المرتبة ١٨٣ من أصل ١٨٧ دولة في العالم من حيث مشاركة المرأة في البرلمانات، وبحسب البيانات المفتوحة للاتحاد البرلماني الدولي حتى كانون الثاني ٢٠٢١، احتل لبنان المركز ١٥ من أصل ١٧ دولة عربية بتمثيل برلماني نسائي نسبته ٤,٦٩٪ فقط. هذا علماً أن لبنان كان أول دولة عربية تمنح المرأة حق الاقتراع والترشح في العام ١٩٥٣، ولكنه اليوم في أدنى التصنيفات من هذه الناحية، حيث يشير تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لعام ٢٠٢٠ في هذا الشأن، إلى أننا بحاجة إلى مئة عام لتحقيق التكافؤ بين الجنسين إذا ما أكملنا بالوتيرة الحالية، فمن أصل ١٥٦ دولة، احتل لبنان المرتبة ١٣٢ من حيث الفجوة بين الجنسين في الاقتصاد، الصحة، التعليم والمشاركة السياسية!
من الناحية القانونية، نشير باختصار إلى أمر معلوم هو إهمال البرلمان اللبناني أمر التصديق على أي مشروع او اقتراح قانون يلزم اللوائح الانتخابية بضمّ ٣٠٪ من النساء بين أعضائها (او ما يعرف بالكوتا النسائية)، حيث تراوح عدد النساء في البرلمانات المتعاقبة في لبنان، بين نائبة واحدة و ٦ نائبات في البرلمان المنتخب سنة ٢٠١٨، في حين يضم البرلمان الحالي ٨ نائبات وهو العدد الأعلى حتى تاريخه.
ولا يختلف الأمر على مستوى الحكومات، حيث بيّنت أرقام برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في لبنان أنه من أصل ٧٧ حكومة شكلت منذ عام ١٩٤٣ حتى ٢٠٢١، تسع حكومات منها فقط تضمنت وزراء من النساء تراوح عددهن بين وزيرة واحدة وست وزيرات.
وهذه الأرقام تؤكد تضييق الآفاق أمام المرأة اللبنانية لجهة عدم وصولها إلى مراكز صنع القرار والمناصب التي تليق بطاقاتها الفكرية والثقافية والعلمية بما ينعكس فائدةً على المجتمع الذي تمثل المرأة نصفه بالحدّ الأدنى.
ختامًا، في تعقيب مختصر على ما سبق وتقدّم عرضه في هذه المداخلة، نودّ أن نؤكّد على أن التركيز على دور القوانين في حلّ مشكلات العنف والتمييز ضد المرأة، إنما هو مطلب مشروع بامتياز استكمالًا لمسيرة تنزيه التشريع من الأحكام المجحفة بحق المرأة، فالتشريع هو الضامن الأساسي لأي حقّ وهو ما يساهم في تغيير أية ذهنية تمييزية بقوّة القانون، وهو ليس مجرد انعكاس لما كان في المجتمع ولكنه قادرٌ بصفته الآمرة على تكريس ما يجب أن يكون.
• قدّمت الأستاذة الجامعية الدكتورة عطاف قمر الدين هذه المداخلة ضمن ورشة عمل بعنوان: “عدالة النوع الاجتماعي وحقوق المرأة” نظّمها الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان وجمعية مساواة وردة بطرس- صور، يوم السبت الواقع في ١٥ تموز ٢٠٢٣.
“محكمة” – الإثنين في 2023/8/28