الجانب القانوني والأخلاقي لحقّ التظاهر
بقلم المحامي باسم حمد*:
أراد عيسى أن يعبّر عن رأيه ومعتقده فحاربوه وأرادوا صلبه، فجعله الله سيّداً ورفعه إلى السماء.
وأراد محمدٌ أن يعلن للكون رسالتَه فرجموه وضربوه واتهموه بالسحر والتمرّد، فجعله الله نبيّ الرحمة ، وذكرُه خالدٌ في الأرض والسماء.
وكلُّ من أراد أن ينطق بكلمة، له حقّ إلهي قبل حقّ البشر، أوليس في البدء كان الكلمة؟ أوليس أوّلُ آيةٍ في القرآن هي إقرأ ؟ كلماتُ وعباراتٌ لكلّ قضيّة، إنْ منعناها سالت كالسيل الجارف، وإنْ حفظناها كانت عوناً لنا جميعاً
إنّها حريّةُ التعبير يا سادة، وفي حضرة السيادة لا مكان للعبودية هنا لا في الكلام ولا في الأفعال.
من أجل الإنسان، إجتمعت في العام 1948 اللجنة التي ستصيغ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان برئاسة السيّدة الأميركية الأولى روزفلت، ونتج عنها مسودّة من أربعمائة صفحة، ثمّ تمّ تكليف الفرنسي كاسان لوضع مسودّة مختصرة شرط أن يستنير برأي مفكّر محدّد، وكان هذا المفكر هو المقرّر للجنة حقوق الإنسان، وكان أصغر أعضاء اللجنة سنّاً، لكنّه بفلسفته وحكمته وإيمانه بقدسية الإنسان، كتب ديباجةَ الإعلان العالمي منفرداً، وانطبعت الوثيقة بأفكاره، وكان هذا المفكّر مُصرّاً على المادة 18 التي تنصّ على حرّيّة التفكير والضمير والدين، وعلى المادة 20 التي تنصّ على حرّيّة الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية، فكان فعلاً حارساً أميناً لحقوق الإنسان والحرّيات حتّى أنّه عند التصويت على هذا الإعلان لم ينطق صوت واحد بكلمة لا،
هذا المفكّر هو اللبناني شارل مالك.
إذاً، لبنان هو من الآباء المؤسّسين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومن المدافعين بقوّة عن حرّية إبداء الرأي وملزم به. فحقّ التظاهر كشكل من أشكال حرّية الرأي هو حقٌ دستوري منصوص عنه في مقدّمة الدستور التي أكّدت احترام الحرّيات العامة، وفي المادة 13 منه التي تكفل حرّية إبداء الرأي قولاً وكتابة، وهو ما يتطابق مع مواد الإعلان العالمي لجهة أنّ لكلّ شخصٍ حقّاً في حرّية الفكر والوجدان والدين والتعبير وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقّيها ونقلها إلى الآخرين بأيّة وسيلة.
أيضاً، صادق لبنان على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، لذلك يعترف النظام القانوني اللبناني بالحقّ في التظاهر السلمي، فهو حقٌ مكفول سنداً للمادة 21 من العهد الدولي الأوّل، ومعترف به في كافة المواثيق الدولية باعتباره دلالةً على احترام حقوق الإنسان في التعبير عن نفسه، وتعهّد لبنان وفقاً للعهد الدولي الثاني باحترام الحرّية التي لا غنى عنها لسائر البشر،
وكذلك الميثاق العربي لحقوق الإنسان والذي اعتمد في العام 2004 بمناسبة القمّة السادسة عشرة لجامعة الدول العربية الذي جاء ليؤكّد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وقد وقّعه لبنان في العام 2006، وصادق عليه في العام 2011،
وقد نصّت المادة الرابعة والعشرون منه على حقّ التجمّع السلمي والتظاهر للمواطنين، وحقّهم في ممارسة أيّ نشاط سياسي سلمي.
لذلك، فإنّ لبنان ملزمٌ دولياً وعربياً وداخلياً بحماية الحقّ في التجمّع السلمي.
وقد صدر عن وزير الداخلية القرار رقم ١٠٢٤ في العام ٢٠٠٦ الذي اعتبر أنّ حقّ التظاهر للتعبير عن الرأي في القضايا الإجتماعية والسياسية والثقافية والمهنية والإقتصادية هو مظهر من مظاهر الديمقراطية، ولا يحدّ من هذا الحقّ إلاّ احترام حقوق وواجبات الغير والتقيّد بالقوانين والأنظمة النافذة.
إذاً، الحرّية مكفولة، لكنّها تقف عند حدودِ حرّيةِ وحقوقِ الآخرين، خاصة لجهة الحفاظ على الممتلكات الخاصة والعامة، والسلامة، والصحّة، والآداب العامة.
كي يكون التظاهرُ قانونياً يجب ووفقاً للقرار ١٠٢٤، تقديم علم وخبر قبل تنظيم أيّ تظاهرة بثلاثة أيّام على الأقلّ ويجب أن يتضمّن هذا العلم الآتي ذكرها:
1- سبب الدعوة للتظاهر، وإسم الجهة المنظّمة وصفتها وشعارات التظاهر وأسماء المنظّمين، على أن يكونوا لبنانيين لا يقلّ عددهم عن ثلاثة .
2- نقطة انطلاق التظاهر ومسارها وساعة الإنطلاق والانتهاء.
3- تعهّد خطّي من مقدّمي الطلب بتحمّل المسؤولية عن أيّ ضرر قد تسبّبه التظاهرة للأشخاص والممتلكات الخاصة والعامة.
ويمكن للمحافظ لأسباب أمنية أن يعدّل مكان التجمّع أو يحصرها في شوارع معيّنة، أو يقلّل من الوقت المخصّص لها، ويتم تسمية لجنة ارتباط بين المتظاهرين والقوى الأمنية الموجودة على الأرض مهمّتها التنسيق لمنع حصول أيّ خلل أمني أثناء التظاهرة، أو أعمال شغب قد تحصل.
ويطلع وزير الداخلية والبلديات قبل التظاهرة بـ ٢٤ ساعة على الأقلّ، على اقتراحات المحافظ الخطّية والمبنية على مقترحات من قيادة الشرطة، وعند الاقتضاء، يدعو الوزير مجلس الأمن المركزي للإجتماع ودراسة الوضع.
إذاً، التظاهر حقٌ للمواطنين، وعلى الدولة حمايته وحمايتهم، فلا يجوز استعمال القوّة المفرطة في مواجهة التظاهرات، بل يجب على القوى الأمنية مواكبتها، وتأمين الحماية لها، وحماية حقوق المتظاهرين ، واحترام أجسادهم ومعنوياتهم وحرّياتهم.
هذا بالمبدأ، لكن هناك بعض الموانع وبعض القيود، فالموظّف العام يُمنع عليه التظاهر، أو الإضراب عن وظيفته تحت طائلة ملاحقته تأديبياً وقضائياً وصرفه من الوظيفة، إذ كيف يعقل لمن هو مؤتمن على مرفق عام مسخّر لخدمة الناس أن يمتنع عن القيام بواجباته تحت مسمّى الإضراب، أو التظاهر!.
وكذلك الأمر بالنسبة للنقابات، ووفقاً لقانون العمل، فحقُّ التظاهر مكرّس قانوناً شرط أن لا يكون له صبغة سياسية وهذا أمر بديهي.
فالمتظاهر له حقّ التعبير وإبداء الرأي، وله حقّ حمايته وعدم التعرّض له، إلاّ أنّ واجباته هي بأن تكون تظاهرته سلمية لا بقصد الشغب؛ أو ارتكاب جرائم، أو تعكير الطمأنينة.
وقد عاقب القانون كلّ من يُقدم على الإعتداء على البشر وعلى الحجر بحجّة إبداء الرأي، فالمادة ٣٤٥ من قانون العقوبات نصّت على أنّه من كان في اجتماع ليس له طابع الإجتماع الخاص، سواء من ِقبَل غايته أو غرضه، أو عدد المدعوين إليه، أو الذين يتألّف منهم ، أو من مكان انعقاده، أو كان في مكان عام، أو بمحلّ مباح للجمهور، أو معرّض لأنظاره، فجهر بصياح أو أناشيد الشغب، أو أبرز شارة من الشارات في حالات يضطرب معها الأمن العام، يُعاقب بالحبس من شهر إلى سنة، وبالغرامة حتّى مئتي ألف ليرة.
ونصّت المادة ٣٤٦ من القانون على أنّه:” كلّ حشد أو موكب على الطرق العامة، أو في مكان مباح للجمهور يعدّ تجمّعاً للشغب، ويعاقب عليه بالحبس من شهر إلى سنة، إذا تألّف من ثلاثة أشخاص أو أكثر بقصد اقتراف جناية أو جنحة، وكان أحدهم على الأقلّ مسلّحاً، أو إذا تألّف من أكثر من عشرين شخصاً وظهروا بمظهر من شأنه أن يعكّر الطمأنينة العامة”.
ونصّت المادة ٣٤٧ على أنّه:”إذا تجمّع الناس على هذه الصورة، أنذرهم بالتفرّق أحد ممثّلي السلطة الادارية، أو ضابط من الضابطة العدلية، ويعفى من العقوبة الذين ينصرفون قبل إنذار السلطة، أو يمتثلون في الحال لإنذارها دون أن يستعملوا أسلحتهم أو يرتكبوا أيّ جنحة أخرى”.
ونصّت المادة 348 على أنّه:”إذا لم يتفرّق المجتمعون بغير القوّة كانت العقوبة الحبس من شهرين إلى سنتين”. ومن يقدم على معاملة عناصر قوى الأمن بالعنف والشدّة ورشقهم بالحجارة، أو غيرها، كما هو حاصل للأسف في بعض التظاهرات، يحال إلى القضاء المختص لمحاكمته سنداً للمادة ٣٨١ عقوبات، ويعاقب بالحبس من ستّة أشهر إلى ثلاث سنوات.
وكلّ من خرّب الممتلكات الخاصة، أو هدمها، يُعاقب بالحبس، وبالغرامة، سنداً للمادة ٧٣٢ والمادة ٧٣٣ من قانون العقوبات.
وكلّ من خرّب الممتلكات العامة، يُعاقب بالحبس وبالغرامة سنداً للمواد 730 و 731.
ومن خرّب الساحات العامة والطرق العامة، أو عمل على تعييبها، أو نزع اللوحات والأرقام الموضوعة في منعطفات الشوارع، أو على الأبنية، أو خرّبها، عوقب سنداً للمادة ٧٥٠ من قانون العقوبات بالحبس وبالغرامة أو باحدى هاتين العقوبتين.
ومن وضع أو ترك على الطريق العامة أيّ شيء يمنع حرّية المرور وسلامته أو يضيّقهما، أو نزع القناديل المخصّصة لتنوير الطريق العامة، أو رمى أقذاراً على الطريق، يُعاقب أيضاً بالحبس وبالغرامة أو بإحداهما سنداً للمادة ٧٥١ من قانون العقوبات.
إذاً، القانون موجود لحماية الجميع، حماية السلميين في ممارسة حقّهم في التعبير، وحماية الغير من أيّ ممارسات شغب واعتداء على حقوق وحرّيات الآخرين.
من هنا، نشدّد على الجانب الأخلاقي في التظاهرات، فكما في الحرب، وفي شدّتها وخطورتها آدابٌ وأخلاقيات، لا يمكن تجاوزها، كذلك في أيّ عمل سلمي أيضاً.
فالرحمة تظهر صورتُها في كلّ أحوال الإنسان، وهذا ما يذكّرنا بقول الخليفة أبي بكر الصدّيق وهو ينصح جنده “لا تخونوا، و لا تغلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثُلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة”.
فهناك دائماً، إطارٌ قيمي وأخلاقي لممارسة كلّ الحقوق، وعلى المتظاهرين أن يلتزموا بهذه الأخلاقيات ليعبّروا عن المستوى الحضاري لهم، ومن أجل تمكينهم من إسماع صوتهم برقّي، وإرسال رسالتهم بحضارة.
وهذه الأخلاقيات يبدأ اكتسابها من خلال الأسرة والمدرسة أوّلاً، وحبّذا لو يدرّس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المدرسة كمادة إلزامية، وتدرّس فيها التربية الوطنية السليمة كي ينشأَ جيلٌ أخلاقيٌ متنوّرٌ مثقّف.
كذلك لو كان بالإمكان أيضاً، نشر بذور التوعية على شاشات التلفزة، وبثّ نشرات تشرح للمواطنين حقوقَهم وواجباتِهم.
إنّ محبّة الوطن تحتّمُ على كلّ من يريد أن يعبّرَ عن رأيه أن يحترمَ ترابَ هذا الوطن وقدسيته. فالتعبير يكون بالرأي، وليس باستعمال اليد للتخريب، أو الاعتداء .
وللأسف، يتربّى الأطفال منذ الصغر على الخوف من الشرطة، وأيّ محاولة تربية من الآباء العاجزين تكون بتخويف أطفالهم من الشرطة، بدلاً من أن يعلّموهم احترامَ رجال الشرطة وحبّهم واحترامَ القانون، فالخوف لا يولّد إلاّ وهماً وانتقاماً مزيّفاً.
إنّ لبنان الذي سطّر أجملَ القوانين الإنسانية في كلّ المحافل الدولية، هو أهلٌ أن يكون وطن الحرّية والثقافة، لكن علينا نحن أن نكون أهلاً لحماية هذا الوطن والحفاظ عليه.
• المحامي حمد عضو الهيئة الإدارية في جمعية متخرّجي جامعة بيروت العربية، وقد ألقى هذه المحاضرة في مؤتمر حول التظاهر في الساحات العامة في مقرّ جامعة بيروت العربية في الدبية برعاية وحضور العميدة إبتهال البسطويسي.
“محكمة” – الإثنين في 2017/11/13