الجريمة الأرستقراطية: الأزمة اللبنانيّة نموذجاً/سابين الكك
الدكتورة سابين الكك:
تاريخياً، لا توجد صلة منتظمة بين الأزمات الاقتصادية والجريمة، بل على العكس، حيث تبيّن أنّ ثلاثينيات القرن العشرين كانت فترة “مسالمة”، سبقت، السنوات اللاحقة التي اشتهرت برزمة من الجرائم الجنائية المالية. ولكن، بإضعاف الدولة ككيان مالي، تصبح فترات الركود الاقتصادي، مؤاتية منطقياً للجريمة المنظّمة، وصولاً لما يعرف بـ “مافيا المال والأعمال”. والمافيا في مفهومها الواسع، هي تجمّعات سريّة تتطوّر مع تطوّر الواقع الاجتماعي والمالي والسياسي، وتشكّل ما يسمّى “الجريمة الارستقراطية”.
. (Le dernier rapport de l’ONU estimait que la criminalité organisée mondiale aurait blanchi 1600 milliards de dollars pour la seule année 2009.)
والجدير بالملاحظة، أنّ ظاهرة المافيا وإنْ كانت شائعة إجتماعياً في صورة نمطية محدّدة، إلّا أنّ الأشكال الأخرى من الجماعات الإحتكارية مثل الكارتلات واللوبيات وغيرها، تعتبر عصابات لا تقلّ بلاءً عنها. لا بل، قد تكون هذه الأنماط الاقتصادية الاستئثارية، أكثر خطورةً وعدوانيةً وتعطّشاً لسفك وتدمير الدول اقتصادياً، نظراً لما تضمّ بين شباكاتها العنكبوتية من شخصيات صاحبة سلطة ونفوذ.
( « Mafias » et « Crime organisé », dans Michela Marzano (dir.), Dictionnaire de la Violence, Paris, PUF, 2011, p. 313- 318 ; 827-833.)
وما يعزّز هذا الوصف، وجود نماذج مماثلة رافقت دولاً عديدة على وقع الأزمات المالية. ففي إيطاليا، على سبيل المثال، وفي سياق أزمة نقص السيولة، استغلت المنظّمات الإجرامية المافيوية الظروف المالية الصعبة لزيادة نفوذها على النسيج المحلّي، بهدف تحديث أساليبها الإجرامية عن طريق اندماجها الواسع النطاق في القطاع المصرفي. وفي سياق متصل، أكدّ تقرير قدّمته أجهزة الاستخبارات الإيطالية، في عام 2011، على أنّ المؤسّسات المصرفية التي تواجه صعوبات في أوقات الأزمات تكون أقلّ قلقاً بشأن مصدر أموال المودعين، وتصبح أقلّ التزاماً بمبدأ “اعرف عميلك”، وحذّر السلطات من مخاطر الاستيلاء على بعض المصارف عبر النافذين، ما قد يؤدّي إلى ظهور “بنوك المافيا” الحقيقية، كما كانت الحال في روسيا في تسعينيات القرن العشرين. ولم تعد ظاهرة “الإجرام الرسمي” تقتصر على إيطاليا؛ بل لوحظت في بلدان عديدة ترافقت على وقع الأزمات الكبرى.
( Jean de Maillard, L’Arnaque. La nance au-dessus des lois et des règles, Paris, Gallimard, 2010.))
أمّا في لبنان، وعلى مدى السنوات الثلاثين الماضية، كانت هذه الحلقة الإجرامية المفرغة “السياسية-المالية”، متواطئة ومتداخلة إلى الحدّ الذي جعل من غير المجدي، حتّى التفكير، في القدرة على كسرها. وفي عمق نظامٍ طائفي محكمٍ بقيود الديمقراطية التوافقية، كان من السهل أن تتنامى بيئةٌ استحواذية حاضنة وضعت المجتمع اللبناني في مواجهة “المافيا البرجوازية”.
في الواقع، إنّ الفساد المتنامي بين السياسة والمال في لبنان لعب دور حصان طروادة لسرطان المافيا. وسرعان ما أدركت النخب الجشعة، القيمة الاستراتيجية المتمثّلة في الشراكة مع الياقة البيضاء للجريمة المنظّمة وذلك لحماية مصالحها من منافسة محتملة. وشهد عالم الفضائح المالية اللبنانية إنشاء جمعيات ولجان وهيئات قوية الترابط في ما بينها ضمّت شخصيات بارزة، من كبار رجال الأعمال، والساسة من ذوي النفوذ، والمصرفيين والوسطاء الماليين، المرتبطين ارتباطاً مباشراً ببرجوازية الفساد. وبعيداً عن هذه الفئة من المنظومة الحاكمة، شملت السلسلة أيضاً مجموعات مساندة تنتمي، إلى النخب القانونية والقضائية والإعلامية والأكاديمية والرياضية وغيرها. ولجأت الكتل المالية والاقتصادية إلى طرد المنافسين لخلق كيانات قوية في قطاعات تجارية حاسمة، الأمر الذي ساهم في بناء حواجز غير مرئية أمام المنافسة الحرّة.
لطالما اعتبرت مشكلة العجز العام في ميزان المدفوعات لغزاً لبنانياً أضعَف حيلة الحكومات المتعاقبة منذ تسعينات القرن الماضي، حتّى وصلنا إلى أغوار مافيا المال؛ تعثّر سيادي، شحّ نقدي، انهيار اقتصادي، وقحط في السيولة المصرفية. ولم تكن السيادة اللبنانية بمنأى عن لعبة المضاربة لتحقيق أكبر الأرباح في الأسواق المالية الثانونية، وهي أسواق غير مقوننة أصلاً، فكانت اليوروبوند، السندات الرسمية التي تواطأت عبرها المافيا البرجوازية اللبنانية ليظهر الترابط العميق بين السلطات اللبنانية، القانونية وغير القانونية. إلّا مؤامرة الهندسات المالية وسندات اليوروبوند ارتدت صفعة مدويّة للمنظومة الحاكمة صقلت محيّاها عجزاً وفساداً وعبثاً بسيادة الدولة اللبنانية على مذبح المضاربات في الأسواق المالية الخارجية.
((Jean-Francois Gayraud, La Grande Fraude. Crime, subprimes et Les crises financières, Paris, Odile Jacob, 2011.)
هل ستوصلنا أرستقراطية حاملي السندات السيادية إلى قبضة الصناديق التحويطية الانتهازية؟
*أستاذة محاضرة ورئيسة قسم القانون الخاص في كلّية الحقوق- الجامعة اللبنانية.
(نشر هذا المقال في مجلّة“محكمة”– العدد 51- آذار 2020).
“محكمة” – الثلاثاء في 2020/3/10