الحرب على لبنان: التكنولوجيا للإحتلال الإسرائيلي والعقيدة لحزب الله .. كلٌّ يستفيدُ من قوّتهِ/حبيب الشاويش
النقيب حبيب الشاويش:
كانت حرب لبنان عام 2006 لحظةً فاصلةً في الصراع المستمر بين الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة اللبنانية المتمثلة بحزب الله، ليس فقط من حيث المواجهة العسكرية، ولكن أيضاً من حيث تصعيد الحرب التكنولوجية. أكمل الاحتلال الإسرائيلي، الذي يتمتّع بإحدى أكثر البنى التحتية العسكرية تقدماً، قائمة أهدافه العسكرية الرئيسية في غضون أسبوع واحد فقط من الحرب التي استمرت 34 يومًا. وكانت الأسابيع الأربعة المتبقيّة تركزّ إلى حدٍّ كبيرٍ على المناورات الموضعية، ومراقبة تحركات حزب الله لضربها دون بنك أهداف مستند إلى وثائق ومعلومات جديّة. كانت هذه تجربةً للإحتلال الإسرائيلي لاستخدام ميزته التكنولوجية للتغلّب على الاستراتيجيات العسكرية المرنة لحزب الله.
التطوّر التكنولوجي للاحتلال الإسرائيلي
على مدى السنوات الثماني عشرة الماضية، من 2006 إلى 2024، زاد الاحتلال الإسرائيلي من جهوده للهيمنة على حزب الله من خلال الاستخدام الاستراتيجي للتكنولوجيا المتقدّمة. أصبحت الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار والذكاء الاصطناعي والمعلومات البشرية من العملاء الأدوات الرئيسية للاحتلال الإسرائيلي. من خلال الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار المتقدّمة، تمكّن الاحتلال الإسرائيلي من جمع بيانات حاسمة حول عمليات الحزب. وتعزّزت هذه القدرة بفضل المعلومات البشريّة التي تمّ جمعها من العملاء داخل لبنان، مستفيدين من معارضة عدّة أحزاب لبنانية له ومجموعات المعارضة السورية الأخرى. ناهيك عن العمالة الموجودة داخل الحزب التي تؤثّر بشكل كبير على عمله. كل ذلك مع سهولة تجنيد العملاء في الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعاني منه لبنان.
كذلك، أعطت الحرب في سوريا الاحتلال الإسرائيلي فرصةً فريدةً من نوعها لجمع كميّات هائلة من المعلومات الاستخباراتية. فمع توسيع حزب الله وجوده في سوريا، وهو يقاتل إلى جانب القوات الإيرانية والروسيّة والأفغانية والسورية وغيرها، حصلت الاستخبارات الإسرائيلية على بيانات حسّاسة تتعلّق بأساليب حزب الله العملياتية. كانت إحدى الاستراتيجيات الرئيسية تتضّمن تتبّع المسؤولين في حزب الله، خاصّةً أثناء مراسم تشييع الشهداء المقاتلين في سوريا، حيث كانت الطائرات بدون طيار تحدّد القادة رفيعي المستوى الذين يحضرون التشييع ثمّ تتابع تحركاتهم.
وبمجرد تحديد أحد مجاهدي حزب الله، تُدخل أنماط تحركاته اليومية في قاعدة بيانات ضخمة من المعلومات، المستمدًة من أجهزة يمكن أن تشمل هاتف زوجته المحمول، أو عدّاد سيارته الذكية Odometer، أو حتّى موقعه الجغرافي Location. يمكن تحديد عدّة معلومات من مصادر متنوّعة مثل طائرة بدون طيار تحلّق فوقه، أو تغذية كاميرا CCTV تمّ اختراقها يمّر بجوارها، أو حتّى من صوته الذي تمّ التقاطه على ميكروفون جهاز التحكّم عن بُعد للتلفاز الحديث الذكي Smart TV. هناك أيضًا إمكانية اختراق هاتفه المحمول بمساعدة شركات متعدّدة الجنسيات مثل Apple وGoogle كما صرّح عدّة مسؤولين إسرائيليين. هذا ما سمح للاحتلال الإسرائيلي ببناء قاعدة بيانات واسعة عن قيادة حزب الله وشبكاته اللوجستية.
استغلال التكنولوجيا لتحديد الأهداف
طوّر الاحتلال الإسرائيلي أنظمة متقدّمة جدًا لتعقّب واستهداف أفراد حزب الله. بمجرّد تحديد قائد رفيع المستوى، يستخدم الاحتلال الإسرائيلي الذكاء الاصطناعي لمراقبة تحركاته اليومية، بحثًا عن أي انحرافات تشذّ عن روتينه اليوميّ قدّ تشير إلى إجراءات استراتيجية. كما عملوا على اختراق أنظمة المؤسسات اللبنانية للحصول على قواعد بيانات عامّة مثل لوائح الشطب وسجلات النفوس في لبنان، أو مثل أوجيرو Ogero لرسم شجرة عائلة القائد، وتحديد أماكن إقامتهم من خلال الحصول على إحداثيات منازلهم من خلال رقم هاتف الخطّ الثابت، وبالتالي تحديد مواقعهم.
أظهر الاحتلال الإسرائيلي سهولة مثيرة للقلق في تحديد أهداف حزب الله من خلال تقنيات القرصنة المتطورة، وخاصةً من خلال استغلال بيانات موقع الهاتف المحمول وطرق أخرى من خلال اختراق مزودي الاتصالات مثل Alfa وTouch. من خلال التسلّل إلى هذه الشبكات، يمكن للاحتلال الإسرائيلي الوصول إلى معلومات حسّاسة، تؤدّي إلى تتبّع تحركات وأنماط اتصالات قادة حزب الله بدقّة. تسمح لهم هذه العملية بجمع المعلومات للتخطيط والتنفيذ بدقّة لعمليات الاغتيال المستهدفة، كما هو الحال في العديد من الحالات البارزة التي شملت اغتيال شخصيات حزب الله في الأسبوعين الأخيرين من شهر أيلول 2024. تسلّط هذه العمليات الضوء على التقاطع المروّع بين التكنولوجيا والحرب، حيث يمكن أن تؤدّي بصمة الأفراد الرقمية إلى استشهادهم السريع.
من جهة أخرى، تعتبر أنظمة الطائرات بدون طيار والذكاء الاصطناعي أهمّ موارد الاستخبارات لجيش الاحتلال الإسرائيلي. مثلاً، يقوم برنامج لافندر Lavender، بتحديد أهداف حزب الله وحماس. إلّا أنّ هذه الأهداف غالبًا ما تأتي بضربات عسكرية يقابلها تكلفة مدنية باهظة، ومعظم الأحيان في غياب الهدف العسكري المقصود، إن وجد. تمّ استخدام برنامج لافندر Lavender، الذي ينتهك القوانين الدولية، لمحاولة استهداف المجاهدين ذوي الرتب المنخفضة، وغالبًا كان يتمّ تحديد أهداف خاطئة. وقد أدّى ذلك إلى غارات جوية تتسبّب في وقوع إصابات مدنية، ما يظهر نيّة العدو الإسرائيلي في استهداف المدنيين، وليس اقتصاره على استهداف العسكريين.
على سبيل المثال، في غزة، أسفر هذا البرنامج عن مقتل 50 مدنيًا في كل محاولة استهداف مجاهد منخفض الرتبة في حماس. يرتفع هذا العدد ليصل الى 100 مدني عند استهداف قائد معين. تم استخدام تكتيكات مماثلة في لبنان، خاصةً خلال “الاثنين الأسود”، عندما ضرب الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 3000 موقع، بما في ذلك 1600 هدف في يوم واحد فقط. يمكن إجراء مقارنات بين هذه الضربات والدمار الذي شهدته حرب لبنان 2006، حيث تسبّبت الهجمات المحدّدة تكنولوجياً من الاحتلال الإسرائيلي في دمار واسع النطاق، وغالباً ما استهدفت المدنيين بشكل مضللّ بدلاً من التركيز على الأهداف العسكرية.
إنتهاكات القانون الدولي
واجه استخدام الاحتلال الإسرائيلي للتكنولوجيا انتقادات كبيرة، خاصةً في ما يتعلّق بانتهاكات مبدأ التناسب بموجب القانون الدولي. ينصّ هذا المبدأ على أنّ القوّة العسكرية يجب أن تكون متناسبة مع النتيجة العسكرية المباشرة المتوقعة. في ضرباته على لبنان، تمّ تجاهل هذا المبدأ من قبل الاحتلال الإسرائيلي مرارًا وتكرارًا. كانت إحدى الحالات الملحوظة تتعلّق بقوّات الاحتلال الإسرائيلي التي ضربت 6 مبانٍ باستخدام 85 قنبلة خارقة للملاجئ لاغتيال شخص واحد. كما كان هناك حالة أخرى تتعلّق باستهداف فرق المساعدة، بما في ذلك الكوادر الطبية والصليب الأحمر والدفاع المدني، وذلك لمنعهم من مساعدة الجرحى. إضافةً إلى ذلك، هناك عدّة أمثلة أخرى، كمجزرة عين الدلب بالقرب من صيدا، حيث استشهد 71 مدنيًا دون أيّ هدف عسكري شرعي.
كانت هذه التكتيكات تهدف في كثيرٍ من الأحيان إلى خلق معارضة عامّة ضد حزب الله في لبنان، محاولةً بدفع المدنيين لمعارضة الحزب وتشكيل قوّة ضغط عليه. ومع ذلك، حافظ حزب الله على دعم قويّ من الجمهور رغم هذه الأعمال العدائية من الاحتلال الإسرائيلي.
أثر ذلك على اتصالات وقدرات حزب الله
تمّ أيضاً استخدام التكنولوجيا الإسرائيلية لتعطيل شبكات الاتصّال الخاصة بحزب الله، لاسيما من خلال تفجير أكثر من 5000 جهاز Pager كان يستخدمها أفراد الحزب، بالإضافة إلى استخدامها من قبل مدنيين مثل الممرضات في المستشفيات. أثّر هذا الهجوم المباشر على أنظمة الاتصّال بشكل كبير على القدرات التشغيلية لحزب الله، خاصةً في ما يتعلّق بالتحكّم والتنسيق بين قيادته والمقاتلين العملانيين. تلي هذه الحادثة سلسلة اغتيالات لقادة الحزب. فقد سمح استخدام الاحتلال الإسرائيلي للطائرات بدون طيار المدفوعة بالذكاء الاصطناعي، والمراقبة، وأنظمة جمع المعلومات الاستخباراتية له باستهداف الشخصيات الرئيسيّة في حزب الله. ومع ذلك، على الرغم من هذه الميزة التكنولوجية، ظل حزب الله خصمًا قويًا. فلقد تكيّف باستمرار استراتيجيات اتصالاته وتكتيكاته العسكرية لتفادي المراقبة والهجمات الإسرائيلية، مما يظهر مرونته.
الردّ العسكري لحزب الله: المرونة وسط العدوان
على الرغم من الاعتماد الكبير للاحتلال الإسرائيلي على التكنولوجيا المتقدّمة، أثبت حزب الله أنه قادر على إيقاف محاولاته للغزو البري. وتشير التقارير إلى أنّه عندما حاولت القوات الإسرائيلية دخول لبنان، قُتل ما لا يقلّ عن 30 جنديًا، وأصيب المئات. كذلك، أظهرت الضربات الصاروخية المنسقة جيدًا من حزب الله على المواقع العسكرية الإسرائيلية قدرتها على تجاوز أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة للاحتلال الإسرائيلي، بما في ذلك القبّة الحديدية Iron Dome، ومقلاع داوود David’s Sling، وأنظمة الدفاع الصاروخي Arrow 2 وArrow 3. حيث يُستخدم النظام الأول للصواريخ قصيرة المدى، بينما تُستخدم الثانية والثالثة للصواريخ متوسطة المدى، في حين تم تخصيص الرابع للصواريخ بعيدة المدى.
والجدير بالذكر أنه تمّ اعتراض 31 صاروخاً فقط من أصل 181 صاروخاً تمّ إطلاقها من إيران من قبل طبقات الدفاع الجوي الثلاثة. ولاحقاً، مع تدمير ثلاث مطارات عسكرية من قبل الضربة الايرانية، لجأت قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى البحرية للحصول على الدعم، حيث شنّ معظم غاراته بواسطة بارجات حربية لأول مرة بعد حرب الـ 2006، معتمدًا فقط على 18 طائرة حربية موجودة في قواعد قبرص وعلى حاملات الطائرات الأمريكية في مياه البحر الأبيض المتوسط. من الجانب الآخر، يستمّر حزب الله في استخدام صواريخ رخيصة الثمن تكلفتها حوالي 800 دولار لتعطيل القبّة الحديدية، التي تتطلّب أكثر من 80,000 دولار لكل صاروخ يُطلق على الاراضي الفلسطينيّة المحتلّة. نجم عن ذلك تعزيز الانتصارات الضعيفة للاحتلال الإسرائيلي من خلال استخدام دعايّة مصمّمة Propaganda لإخراج تأييد حزب الله في لبنان.
التداعيات الاقتصاديّة: أزمة الاحتلال الإسرائيلي المالية بعد النزاع
منذ اندلاع احداث يوم 7 أكتوبر المجيد، واجه الاحتلال الإسرائيلي خسائر اقتصاديّة كبيرة، حيث بدأت الشركات الدوليّة الانسحاب من البلاد بسبب المخاوف الأمنيّة والبيئة التجارية غير المستقرة. فقامت الشركات الكبرى في مجالات التكنولوجيا والماليّة والتصنيع بتقليص عملياتها أو الانسحاب تماماً. وقد زاد هذا من الضغط على اقتصاد الاحتلال الإسرائيلي، الذي يعاني أيضاّ من تكاليف الحرب الباهظة، بما في ذلك الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية، واضطراب التجارة، وانخفاض السياحة. ومن المتوقّع أن يؤثّر خروج الاستثمارات الأجنبية بشكل كبير على السوق الاقتصادي للاحتلال على المدى الطويل.
الخاتمة: يجب على الإنسانيّة أن تقود التكنولوجيا وليس العكس
مما لا شك فيه ان التفوق التكنولوجي الساحق للاحتلال الإسرائيلي سمح بإلحاق أضرار جسيمة ببنية المقاومة وبلبنان ككل. الا ان المقاومة فكرة، والفكرة لا تموت. تستند الى عقيدة المجاهدين بالرغم من قلّة عددهم واعتمادهم على الاساليب التقليديّة في الكثير من الأحيان. ففي النهاية، انّ استهداف قادّة الحزب أدّى الى ترسّخ عقيدة المقاومة أكثر لدى الجيل الجديد، والسماح لهذا الجيل المرن المتقبّل لفكرة التكنولوجيا باستعمالها في قيادة الحزب.
كما لا بدّ من التنبّه لحدّ استعمال التكنولوجيا. فبينما اعتمد الاحتلال الإسرائيلي على الذكاء الاصطناعي والطائرات بدون طيار والأقمار الصناعية لاغتيال قادة الحزب، أدّت هذه الأدوات أيضاً إلى معاناة واسعة النطاق للمدنيين، ممّا يشكّل تناقضاً صارخاً خاصّة مع تركيز حزب الله على الضربات العسكرية فقط وعدم استهداف المدنيين.
باختصار، تسلطّ قصّة استخدام الاحتلال الإسرائيلي للتكنولوجيا في حربه ضدّ لبنان الضوء على درس حاسم للعالم الحديث: التكنولوجيا، رغم قوّتها، يجب أنّ توجهها بوصلة أخلاقية قويّة.
فيجب على الإنسانية أن تقود التكنولوجيا، بدلاً من السماح لها بقيادة الإنسانية.
لذلك، تكمن القضية الرئيسيّة في البحث في مدى إنسانيّة الاحتلال الإسرائيلي، مع تطهيرهم العرقي لأكثر من 40,000 مدني في غزّة، وأكثر من 2000 مدني في لبنان. فطالما أن الحرب التكنولوجية تتجاهل حياة البشر والقانون الدولي، فإنّ العواقب ستكون دائمًا مدمّرة.
في النهاية، يمكننا أن نقول إن هذه المقالة لن تغيّر شيئًا وسط هدف الاحتلال الإسرائيلي في السيطرة على منطقة الشرق الأوسط ككل، الا انّها قد تظهر لمحة بسيطة عن تطور تكنولوجيا الحروب. حمى الله لبنان، واعزّ مقاومتنا الباسلة.
“محكمة” – الثلاثاء في 2024/10/22