الحصانات بين اللامسؤوليّة الجزائية وتعطيل المحاسبة عن انفجار المرفأ/رامي عيتاني
المحامي رامي محمّد خير عيتاني:
يقال إنّ نظام الحصانات في لبنان لم ينشأ ولم يوضع إلّا من أجل منع القضاء من ملاحقة الأشخاص العامّين من تهم الفساد، ويقال أيضًا إنّ الحصانات باتت مجرّد درع لحماية كبار الرؤوس من الملاحقة بجرائم ترتكب بحقّ المال العام للدولة، أو كوسيلة للتهرّب من المسؤوليّة المباشرة أو غير المباشرة عن أكبر جريمة بحقّ الوطن وهو انفجار المرفأ الذي خلّف مئات الشهداء والجرحى، وأعاد البلد عشرات السنين تخلّفًا ودَيْنًا وفسادًا بسبب منظومة متكاملة عاثت قتلًا وهدرًا وهتكًا، الأمر الذي فتح معه ملفّ انفجار مرفأ بيروت العيون على هدفٍ جديد للرأي العام المنتفض في لبنان وهو موضوع إسقاط الحصانات كلّيًّاعن أصحابها، وليس رفعها في ملفّ انفجار العصر فحسب.
فما هي هذه الحصانات في القانون اللّبناني؟ وما هي أوجه اللّامسؤوليّة الجزائيّة الناتجة منها؟ ولماذا تشكّل الأذونات المسبّقة عائقًا أمام تعطيل الآليات الدستورية للملاحقة في انفجار المرفأ؟
وللإجابة عن هذه التساؤلات لا بدّ من الإشارة بادئ ذي بدء إلى أنّ الحصانة في القانون اللبناني تمنح لأشخاص محدّدين، ولاعتبارات تتعلّق بصفتهم كمدّعى عليهم أو متهمين، فتقيّد ملاحقتهم جزائيًّا أو تجعل الملاحقة مشروطة بإذن خاص يصدر عن سلطة عامّة وفق إجراءات وآليات محدّدة. وبمعنى واقعيّ أقرب، هي امتياز يمنح صاحبه مرتبة أعلى من سلطة القانون الجزائي، بحيث يعاملها معاملة السبب المبيح للفعل الجرمي، أو المانع للعقوبة، أو النافية للمسؤولية عنه.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الحصانة ليست مانعة للملاحقة الجزائية وإنّما تشكّل قيدًا إجرائيًّا عليها، باستثناء ما يتعلّق:
١- بحصانة اللامسؤولية الجزائيّة المكرّسة لمصلحة رئيس الجمهوريّة والمنصوص عنها في المادّة ٦٠ من الدستور.
٢- وحصانة اللامسؤولية الجزائية المكرّسة لمصلحة النائب المسمّاة بالحصانة الموضوعية الشكلية المنصوص عنها في المادّة ٣٩ من الدستور.
وللحصانات معنيان: أحدهما ضيّق، ومدلوله منع الملاحقة بالنسبة إلى عمل معيّن (أيّ انعدام المسؤوليّة عن هذا العمل تحديدًا)، وثانيهما واسع، ويشمل ما يسمّى بالحصانة الإجرائية المتمثّلة بإجراءات وأصول قد تسبّب عائقًا أو مانعًا لملاحقة حقيقية أمام المحاكم الجزائية.
وفي ترتيب أهمّ المحصّنين في لبنان نجدها على الشكل الآتي:
• في حصانة رئيس الجمهورية:
في حال ارتكاب رئيس الجمهورية الخيانة العظمى أو خرق الدستور أو أيّ جريمة أخرى، لا يجوز محاكمته إلّا أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء وفقًا لامتياز المحاكمة الذي يتمتّع به والمنصوص عنه في الدستور، مع الإشارة إلى أنّه ومن أجل محاكمته يقتضي اتهامه بأكثرية ثلثي النوّاب.
• في حصانة رئيس الحكومة والوزراء:
تنصّ المادّتان ٧٠ و ٧١ من الدستور اللبنانيّ (على وجوب ملاحقة رئيس مجلس الوزراء والوزراء من قبل مجلس النوّاب أمام المجلس الأعلى في حال ارتكابهم الخيانة العظمى أو إخلالهم بالموجبات المترتّبة عليهم).
وتنص المادّة ٤٢ من القانون رقم ٩٠/١٣ المتعلّقة بأصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى على أنّه: (باستثناء خرق الدستور والخيانة العظمى والإخلال بالموجبات المترتّبة على رئيس الحكومة والوزير، يكون المجلس الأعلى مقيّدًا بالقانون في وصف الجنايات والجنح وفي العقوبات الممكن فرضها).
ووفقًا لرأي البعض، فإنّ المجلس الأعلى يبدو؛ من حيث تكوينه ومن حيث علاقته بمجلس النوّاب ومن حيث اختصاصه، محكمة سياسيّة أكثر منها جزائيّة، ربّما لما له من ارتباط عضوي مع مجلس النوّاب؛ من حيث طريقة انتخاب أعضائه، ومن حيث ارتباط موازنته بمجلس النوّاب، ممّا يثير الشكّ والريبة بالنسبة إلى استقلاليته، علمًا أنّ اختصاصه سياسيّ، حيث يعود له النظر بتهم الخيانة العظمى وخرق الدستور والإخلال بموجبات الوزراء الدستورية التي لا يعاقب عليها جزائيًّا، بالإضافة إلى تناقض هذا المجلس والأصول المتبعة أمامه مع العديد من مقتضيات المحاكمة العادلة من حيث عدم إمكانية الطعن بالقرارات، وعدم احترام مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، ممّا يفقد قراراته أيّ قيمة تنفيذيّة في الخارج لتعارضه مع النظام الدولي، وما يستتبع عدم إمكانية التنفيذ على أموال وزراء محكوم عليهم قد قاموا بتهريب أموالهم إلى بلدان أخرى.
• في حصانة النائب:
وتهدف هذه الحصانة إلى تقديم حماية للنوّاب استنادًا إلى المادّة ٩٨ من النظام الداخلي لمجلس النوّاب، الذي يشترط لرفع الحصانة عن النائب التأكّد من قبل النوّاب أنّ طلب رفع الحصانة بعيد عن الغايات الحزبية والسياسية ولا يستهدف حرمان النائب من ممارسة عمله النيابي.
وتنقسم هذه الحصانة إلى نوعين:
١- حصانة تامة مطلقة تنعدم معها مسؤولية النوّاب عن كلّ ما يصدر عنهم من آراء وأفكار تصدر عنهم خلال فترة ولايتهم النيابية.
٢- وحصانة إجرائية تمنع ملاحقة النوّاب عن أفعالهم خلال الجلسة التشريعية إلّا بعد طلب رفع الحصانة النيابيّة.
إنّ حصانة النائب تتعلّق بالانتظام العام، بمعنى أنّه لا يمكن للنائب التخلّي عنها وإخضاع نفسه للقضاء لأنّها ليست حقًّا شخصيًّا، له بل أداة حماية لمهامه.
وتنصّ المادّة ٤٠ من الدستور اللّبنانيّ على أنّه (لا يجوز في أثناء دورة الانعقاد اتخاذ إجراءات جزائية نحو أيّ عضو من أعضاء المجلس أو إلقاء القبض عليه إذا اقترف جرمًا جزائيًّا إلّا بإذن المجلس ما خلا حالة التلبّس بالجريمة) أيّ الجرم المشهود، علمًا أنّ منح الإذن من عدمه لا يعني أنّ للمجلس النيابيّ الحقّ في تقويم الجرم المدعى به على النائب ومدى توافر عناصر اقترافه، وإلّا أضحى ذلك سبيلًا لتبرئة النائب من الملاحقة والتملّص من المسؤوليّة الجزائيّة وتعدّ من السلطة التشريعيّة على سلطة القضاء في تقدير الأدلّة، لذلك يفترض بالإذن أن لا يعيق الملاحقة الجزائية بحقّ النائب التي هي سلطان القضاء المطلق.
• في حصانة القضاة:
تهدف حصانة القاضي إلى منع التنكيل به وحمايته من الضغوط السياسية والمؤثّرات والإجراءات التعسفية التي تتخذها الحكومة ضدّه، ولكن ّالحصانة لا تعني بقاء القاضي في وظيفته مدى الحياة أو عدم مساءلته مهما اخطأ أو أساء، بل على العكس تدقّ موازين الحساب وتشتدّ بالنسبة إلى القضاة ويكون معيار المساءلة على أساس التزام أرقى قواعد السلوك والفضائل. ذلك لأنّ لوظيفة القضاء جلالها وسموّ رسالتها، وهو ما يقتضي معه أن يكون القاضي فوق مستوى الشبهات والريب، وأن يتحلّى بأرفع الفضائل وأسماها، فهو يحاسب على ما لا يحاسب عليه غيره من الموظّفين العموميين.
ولذا أجاز القانون إحالة القاضي على التقاعد أو نقله إلى وظيفة غير قضائية إذا فقد أسباب الصلاحية، وأجاز مساءلته تأديبيًّا أمام مجلس تأديب قضائيّ لما يرتكبه من أخطاء. كما يسأل القاضي مدنيًّا عن طريق دعوى المخاصمة، كأنْ يقع منه في عمله غشّ أو تدليس أو خطأ مهنيّ جسيم – وإذا ما قضت المحكمة بصحّة المخاصمة – حكمت على القاضي أو عضو النيابة المخاصم بالتعويضات والمصاريف فضلًا عن بطلان الحكم الذي أصدره أو تصرّفه الذي وقع فيه الخطأ.
ونظرًا لخطورة موضوع المسؤولية التأديبية للقضاة والآثار السلبية التي يمكن أن تنتج منه على صعيد استقلال القضاء وحياده، وذلك من خلال استغلال هذه المسؤوليّة – من قبل بعض الجهات – للتأثير في القضاة والحيلولة بينهم وبين أداء مهامهم بنزاهة وحياد، لذلك فإنّه يتعيّن أن تحاط إجراءات مساءلة القضاة بضمانات حقيقية وفاعلة تهدف إلى حماية القضاة من أيّ تأثيرات أو ضغوط، والحيلولة دون التعسف في استخدام هذه المساءلة أو استغلالها على وجه لا يتفق مع استقلال القاضي أو شعوره بالحصانة لدى ممارسته وظيفته القضائية. ويتمتّع القضـاة بالحصانـة الآتيـة:
– لا يجوز عزل القضاة من مناصبهم إلّا بعد عقوبة تمّ توقيعها في دعوى محاسبة بموجب أحكام قانون السلطة القضائية.
– لا يجوز القبض على القاضي أو حبسه احتياطًا في غير حالة التلبّس إلّا بعد الحصول على إذن من مجلس القضاء الأعلى ليأذن باستمرار حبسه أو يأمر بإخلاء سبيله بضمان أو بغير ضمان.
– لا يجوز رفع الدعوي الجزائية على القضاة إلّا بإذن من مجلس القضاء الأعلى بناء على طلب النائب.
-لرئيس المحكمة حقّ تنبيه القضاة على ما يقع منهم مخالفًا واجباتهم أو مقتضيات وظيفتهم بعد سماع أقوالهم ويكون التنبيه شفهيًّا.
– لوزير العدل تنبيه القضاة خطيًّا إلى كلّ ما يقع منهم من مخالفات لواجباتهم حول مقتضيات وظيفتهم.
• في حصانة الموظّفين في الأسلاك الأمنية والإدارية:
تكرست هذه الحصانة من خلال المادة ٦١- فقرة ٢- من قانون الموظّفين العموميين التي تمتّع الموظّف بالحصانة عبر فرض طلب موافقة الإدارة قبل المباشرة بأيّ ملاحقة، إلّا أنّ هذا الإجراء مفروض فقط في حال كان الجرم ناشئًا عن الوظيفة.
ولاستدعاء الموظف، إنْ كان في السلك الإداري أو الأمني، أو الموظّفين الآخرين واستجوابه والادعاء عليه من النيابة العامة، يجب الحصول على إذن من رئيسه التسلسلي، وفي حال لم يأت الإذن يحال الموضوع على النيابة العامة التمييزية ، وفي حال هذه الأخيرة لم تردّ خلال ١٥ يومًا يعطى الإذن تلقائيًّا.
وتثير هذه الحماية التي يتمتّع بها الموظّف مشكلة أساسية باعتبار أنّها تعيق بشكل أساسي ملاحقة الموظّفين، خاصة الحائزين منهم على حماية سياسية تؤثّر في إمكانية منح الإدارة الإذن بالملاحقة، ممّا يوجب تعديل المادة ٦١ وإلغاء ضرورة الاستحصال على الإذن بالملاحقة،
• في حصانة المحامين:
وفقًا للمادة ٧٤ من قانون تنظيم مهنة المحامين، لا يُسأل المحامي، ولا يترتّب عليه أيّ دعوى بالذمّ أو القدح أو التحقير من جرّاء المرافعات الخطّية أو الشفوية التي تصدر عنه ما لم يتجاوز حدود الدفاع،
ولا يجوز توقيف المحامي إحتياطيًّا في دعوى قدح أو ذمّ أو تحقير تقام عليه بسبب أقوال أو كتابات صدرت عنه في أثناء ممارسته مهنته، كما أنّه لا يجوز أن يشترك برؤية الدعوى أحد قضاة المحكمة التي وقع فيها الحادث (المادة 75 من قانون تنظيم مهنة المحاماة).
وكلّ جرم يقع على محامٍ في أثناء ممارسته مهنته أو بسبب هذه الممارسة، يعرّض الفاعل والمشترك والمتدخّل والمحرّض للعقوبة نفسها التي يعاقب عليها عند وقوع الجرم على قاضٍ… (المادة 76 من قانون تنظيم مهنة المحاماة).
وكلّ قرار قضائي يقضي بتفتيش مكتب محام أو بحجز أموال موجودة فيه أو بجرد موجوداته، لا ينفَّذ إلّا بعد انقضاء 24 ساعة على الأقلّ على إيداع صورة عنه مركز النقابة التي ينتمي إليها، مع دعوة موجّهة للنقيب لحضور الإجراءات بنفسه أو بواسطة عضو ينتدبه لهذه الغاية من أعضاء مجلس النقابة (المادة 77 من قانون تنظيم مهنة المحاماة).
ولا يجوز وضع الأختام على مكتب محامٍ بداعي تحصيل ضريبة أو رسم إلّا بعد مضي مهلة عشرة أيّام على الأقلّ على توجيه صاحب العلاقة إنذارًا خطيًّا وإشعار مركز النقابة التي ينتمي إليها المحامي (المادة 87 من قانون تنظيم مهنة المحاماة).
ولا يجوز استجواب المحامي عن جريمة منسوبة إليه، باستثناء حالة الجرم المشهود، إلّا بعد إبلاغ الأمر لنقيب المحامين الذي يحقّ له حضور الاستجواب بنفسه أو بواسطة من ينتدبه من أعضاء مجلس النقابة.
ولا يجوز ملاحقة المحامي لفعل نشأ عن ممارسة المهنة أو بمعرضها إلّا بقرار من مجلس النقابة الذي يأذن بالملاحقة، ويقدّر ما إذا كان الفعل ناشئًا عن المهنة أو بمعرضها (المادة 79 من قانون تنظيم مهنة المحاماة).
للأسف، تشكّل الحصانات في لبنان طبقية ناسفة لأبسط قواعد العدالة في بلد يفترض أن يحكمه نظام ديمقراطيّ على قاعدة التساوي بين أبنائه أمام القانون الذي يعلو ولا يعلى عليه، لذلك يجب كحدّ أدنى جعل اللجوء للحصانة إستثنائيًّا محدّدًا بشروط معقّدة وليس العكس، بحيث يتمّ منحها في حالات بعينها واعتبار الإباحة في الملاحقة هي الأصل وحجب الملاحقة هو الإستثناء،
أمّا عن السبيل القانوني لإسقاط الحصانات كليًّا، فلا يمكن إلّا من خلال تعديل جذري للدستور وتحديد عبارة الإخلال بالموجبات وحصرها بالأمور السياسية والإدارية.
“محكمة” – الأربعاء في 2021/7/28