الحصانات بين غايات التكريس والواقع العملي/عطاف قمر الدين
الباحثة عطاف قمر الدين:
تُمنح الحصانة في القانون اللبناني لاعتبارات تتعلّق بصفة المدّعى عليه، فتقيّد ملاحقته جزائيًا أو تخضع الملاحقة إلى شروط خاصة، بحيث تجعلها متوقّفة على إذن يصدر عن سلطة عامّة -وفق آليات معيّنة- تعبّر فيه عن موافقتها على إجرائها، من باب الحؤول دون سوق الملاحقات الكيدية بحقّه بلا قيد أو شرط والإضرار بالمصلحة العامّة.
من هنا، وسواء تعلّق الأمر بالحصانة السياسية التي يتمتّع بها رئيس الجمهورية والوزراء، أو بالحصانة النيابية المعترف بها للنائب، أو بالحصانة الإدارية بالنسبة للموظّفين في الجرائم الناشئة عن الوظيفة، فالحصانة لا تعدو كونها قيدًا إجرائيًا على الملاحقة الجزائية وليست مانعًا لها، باستثناء ما يتعلّق بنوعين منها (وتنطبق عليهما بصورة أدقّ لفظة “الحصانة”)، وهما:
– حصانة اللامسؤولية الجزائية المكرّسة لمصلحة النائب – المسمّاة فقهًا بـ”الحصانة الموضوعية الشاملة”- المنصوص عليها في المادة ٣٩ من الدستور والتي تقضي بأن لا يُسأل النائب جزائيًا عن الآراء التي يبديها طوال مدّة نيابته.
– وحصانة اللامسؤولية الجزائية المكرّسة لمصلحة رئيس الجمهورية والمنصوص عليها في المادة ٦٠ من الدستور، والتي توجب أن لا يسأل رئيس الدولة جزائيًا عن أيّ جرم وظيفي يرتكبه، ما عدا خرق الدستور والخيانة العظمى.
وبغير هاتين الحالتين حصرًا، لا تفسّر الحصانة على أنّها تضمن الحماية من الملاحقة في كلّ مرّة يرتكب المستفيد منها جرمًا جزائيًا، ولا تحجب حتْمًا عن صاحبها التبعة القانونية، ويكون مفعولها مقتصرًا على توقّف الملاحقة إلى حين الحصول على إذن بذلك من الجهة المخوّلة قانونًا لإعطائه.
أمّا التطبيق العملي للحصانة في الواقع اللبناني، فيكرّسها بغير وجه حقّ، كامتياز يمنح صاحبها مرتبةً أعلى من سلطة القانون الجزائي، أو -كما يعتبر الأستاذ الدكتور وسام غيّاض بحقّ- يعاملها “معاملة السبب المبيح للفعل الجرمي أو النافي للمسؤولية عنه، حتّى يُهيّأ لنا أنّها تدخل في عداد الأسباب المبرّرة للجرائم أو في عداد موانع المسؤولية”!
وبالفعل، في قضيّة كقضيّة تفجير مرفأ بيروت، جريمة العصر، التي أدمعت عيون اللبنانيين جميعهم حزْنًا وأسى ولوعة من هول الفاجعة، فليس ثمّة من مجال للتمسّك باعتبارات الكيدية والإشتباه بعدم جدّية الملاحقة أو سوقها تعسّفًا بحقّ المستفيدين من الحصانة، نوّابًا أو وزراء أو موظّفين… وحقيقة إخضاعها إلى مزاجية واستنسابية الجهّات المخوّلة بمنح الإذن المشار إليه آنفًا، للسير بالتحقيق تمهيدًا للإدعاء أو عدمه على حسب الأحوال، إنّما ينمّ عن تعسّف غير مسبوق، ويشكّل وصمة عار على جبين كلّ من تسوّل له نفسه أن يفقأ عين العدالة، وأن يُنكّل في الشهداء في مأواهم الأخير، وأن يصفع وجوه ذويهم وأحبابهم بصدمة اللاضمير وبدم بارد!
“محكمة” – الإثنين في 2021/7/12