أبحاث ودراسات

الحقّ في الصحّة والتقاضي الاستراتيجي في لبنان: التحدّيات والآفاق/رينا درويش

المحامية رينا درويش (باحثة وطالبة دكتوراه في القانون العام):
في السابع من نيسان/ أبريل من العام 2024، أحيَت منظمة الصحة العالمية اليوم العالمي للصحة تحت شعار “صحتي، حقّي”. في هذه المناسبة السنوية التي تصادف ذكرى تأسيسها، أرادت المنظمة أن تُذكّر العالم أجمع بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسدية والنفسية يمكن بلوغه، وبأهمية الدفاع عن حق كل شخص وفي أي مكان في الحصول على محدّدات الصحة، بصرف النظر عن أي اعتبارات اجتماعية، شخصية، اقتصادية، دينية، عرقية أو سياسية.
يحظى الحق في الصحة باهتمام واسع النطاق على المستويات الدولية والإقليمية وكذلك الوطنية، لكن في مقابل هذا الاهتمام الذي يُميّز الحق في الصحة، يبقى مُعرّضًا للانتهاك كأي حق من حقوق الإنسان الأخرى، بحيث تقع هذه الانتهاكات على الأفراد والجماعات، ما يستدعي المساءلة عنها وانصاف الضحايا. في هذا الصدد تؤكد لجنة الأمم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية أنه ” يجب أن يُتاح لكل مظلوم أو مجموعة مظلومين سبل الانتصاف أو التظلّم المناسبة”(1). كما أقرّت مبادئ ماستريخت التوجيهية بشأن انتهاكات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، “حق كل شخص أو جماعة ضحية انتهاك أي من الحقوق الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية في الوصول إلى سبل انتصاف قضائي فعّال”(2).
انسجامًا مع هذا التوجه، أشار التعليق العام رقم 2000/14 المتعلق بالحق في التمتع بأعلى مستوى من الصحة يمكن بلوغه، إلى أنه “ينبغي لضحايا انتهاك الحق في الصحة سواء أكانوا أفرادًا أم جماعات أن تتوفر لهم إمكانية الوصول إلى وسائل الانتصاف القضائية الفعّالة”(3). كما حثّ التعليق الدول على “تشجيع القضاة وأعضاء المهن القانونية على إيلاء مزيد من الاهتمام لانتهاكات الحق في الصحة”(4).
في هذا السياق، برز التقاضي الاستراتيجي كوسيلة قانونية للتقاضي عن انتهاك الحق في الصحة، ويُسمّى أيضًا بتقاضي الأثر Impact Legislation وهو يعني اختيار قضية والتقدّم بها للمحكمة بغرض إحداث تغيير واسع النطاق في المجتمع(5). وتكون عملية التقاضي “استراتيجية” عندما يتم تصميمها لتغيير القوانين والسياسات والممارسات وتأمين سبل الانتصاف والمساعدة بعد وقوع الانتهاكات وغالبًا ما يتعلق التقاضي الاستراتيجي بزيادة الوعي العام بشأن ظلم ما(6).
ويُستخدم التقاضي الاستراتيجي سواء عبر الدعاوى المدنية أو الطعون القضائية في قرارات الإدارة لعدم مشروعيتها أمام المحاكم الإدارية أو الطعن بعدم دستورية النصوص القانونية (7).
لجأت العديد من دول أفريقيا وأميركا اللاتينية إلى التقاضي الاستراتيجي لتحقيق الانتصاف الفعّال لضحايا انتهاكات الحق في الصحة ونظرت محاكمها في قضايا شهيرة وصدرت بشأنها قرارات يمكن اعتبارها “ثورية” نظرًا للنتائج البالغة الأثر التي حققتها.
أمّا لبنان، فإنه منذ العام 2019 يرزح تحت وطأة أزمات اجتماعية واقتصادية وأمنية تحمل تداعياتٍ على الصحة البدنية والنفسية، ابتداءً من جائحة كوفيد وصولاً إلى الحرب الإسرائيلية على لبنان.
هذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن دور التقاضي الاستراتيجي في حماية وتعزيز الحق في الصحة في لبنان، خاصةً تجاه الفئات المهمشة كاللاجئين والعمّال الأجانب والمعوقين وغيرهم.
للإجابة على هذا التساؤل، لا بدّ من التعرّف على التحدّيات التي تحدّ من فعالية التقاضي الاستراتيجي من جهة، والعوامل الواجب توفرّها لتوسيع آفاق نجاحه من جهة أخرى.
مصاعب اللجوء إلى التقاضي الاستراتيجي للدفاع عن الحق في الصحة
بات التقاضي الاستراتيجي يلقى رواجًا متزايدًا في لبنان نظرًا لقدرته على مناصرة قضايا حقوق الانسان وحشد دعم المجتمع بشأنها بهدف إحداث تغييرات ملموسة في القوانين والسياسات، ولقد جرى اللجوء إلى التقاضي الاستراتيجي في معرِض قضايا بيئية واجتماعية مثل قضية سدّ بسري وقضية المقالع والكسارات وقضية المفقودين والمخفيين قسرًا التي أفضت إلى إقرار قانون المفقودين والمخفيين وتكريسه الصريح لـ “حق المعرفة” لذويهم(8). ولكن عند اختيار التقاضي الاستراتيجي كوسيلة للدفاع عن الحق في الصحة، لا بد أوّلاً من التنبّه إلى جملة من الصعوبات التي تُثيرها خصوصية القضايا الصحية، لاسيما الصعوبات القانونية والمالية والإجرائية والسياسية والاجتماعية والثقافية، والتي يجب تقييمها باستمرار قبل مباشرة الدعوى وخلال السير بها.
التحديات القانونية: من الأهداف التي يسعى التقاضي الاستراتيجي إلى تحقيقها، تطوير القوانين المعمول بها، إما من خلال إلغاء نص تشريعي موجود يتناقض مع الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور أو المواثيق الدولية الحامية لحقوق الإنسان أو من خلال تفعيل نص قانوني موجود وإعمال الحقوق التي يمنحها هذا النص(9). بناءً عليه، يحتاج اللجوء إلى التقاضي الاستراتيجي إلى أطر قانونية وتشريعية متماسكة لكي يتسنى للقاضي فحص النصوص تمهيدًا لتطبيقها أو استبعادها من التطبيق. الأمر الذي لا يتوفر في لبنان، حيث تغيب الأحكام الراعية للحق في الصحة عن الدستور كما أن القوانين والمراسيم ذات الصلة لا زالت متأخرة عن مواكبة هذا الحق.
التحديات المالية: يختلف التقاضي الاستراتيجي عن التقاضي العادي بأنه يتجاوز حدود الخصومة في الدعوى المقامة ليُخاطب جمهورًا كبيرًا والمستفيدين وذوي المصلحة وجذب اهتمام المجتمع والتأثير في صانعي القرار(10)، الأمر الذي يُرتّب أعباء مالية تكون مكلفة في غالب الأحيان، وتشمل التكاليف المالية المُحتملة؛ الرسوم القضائية وأتعاب المحامين ومصاريف التنقل والوصول إلى المحاكم والتي قد تعجز الفئات المهمشة عن تحملّها. ويمكن أن يُضاف إلى هذه التكاليف في قضايا الصحة تقارير الأطباء والاختصاصيين. ويُشكّل التمركز الجغرافي لهذه الفئات وبعدها عن المحاكم ومكاتب المحامين وصعوبة الوصول إليها، عائقًا لوجستيًا إضافيًا خاصةً مع ارتفاع كلفة التنقل والمواصلات على إثر الأزمة المالية.
التحديات الإجرائية: من التحديات التي تواجه عملية التقاضي الاستراتيجي، طول مدّة التقاضي أمام المحاكم اللبنانية واستغراقها لفترة طويلة من الزمن قبل صدور الحكم النهائي، ما يؤخر إحقاق العدالة لضحايا انتهاك الحق في الصحة ويحدّ من فعاليتها. لاسيما أن قضايا الصحة غالبًا ما تنطوي على صفة مستعجلة تكون فيها حياة أصحاب العلاقة على المحك، ما يستدعي الإسراع في البت بالقضية المعروضة.
التحديات السياسية: في معظم الأحيان يضع التقاضي الاستراتيجي المدّعين بمواجهة أصحاب السلطة الذين بإمكانهم ممارسة نفوذهم أو سطوتهم من أجل عرقلة الدعوى والضغط على المراجع القضائية المختصة من خلال تقديم الإغراءات المالية أو التدخل المباشر في عمل القضاة والناشطين أو تهديدهم. وتُطرح هذه الإشكالية عند إقامة دعوى تقاضي استراتيجي لحماية الحق في الصحة، حيث قد تصطدم الدعوى بتدخلاتٍ خارجية قد تؤدي إلى المماطلة والتسويف في الدعوى وصولاً إلى التنازل عنها.
تزداد الأمور تعقيدًا عند عجز ضحايا انتهاكات الحق في الصحة خاصةً إذا كانوا من الفئات المهمشة، عن مواجهة هذه التدخلات والتصدي لها، نظرًا لعدم ملاءتهم المالية وهشاشة موقعهم الاجتماعي، وبالتالي نكون أمام معركة قضائية غير متكافئة بين طرف قوي يملك مفاتيح التأثير على القرار وطرف آخر ضعيف يجد نفسه في مواجهة ضغوطات لا يُجيد أساليب التعامل معها.
التحديات الاجتماعية: يذهب التقاضي الاستراتيجي إلى ما هو أبعد من مجرد تقديم دعوى أمام المحكمة، فهو يسعى إلى تحفيز التغيير القانوني والاجتماعي. ويُلاحظ أن دعاوى التقاضي الاستراتيجي، عندما تسلك مسارها الطبيعي، غالبًا ما يواكبها اهتمام المجتمع وتصبح بالتالي محطّ أنظار الرأي العام.
لهذا السبب قد تتردد بعض الفئات المهمشة المتضررة من جراء انتهاك حقها في الصحة من فكرة تسليط الضوء على قضيتها وما يمكن أن تُثيره من استقطاب مجتمعي يضعها تحت خطر التهديد أو التشهير أو العزل الاجتماعي.
التحديات الثقافية: يلعب العامل الثقافي دورًا فاعلاً في قابلية اللجوء إلى التقاضي الاستراتيجي، إذ يعتمد هذا النوع من التقاضي على وعي الأفراد والجماعات بحقوقهم. وعليه، كلّما زاد وعي الفئات المهمشة بالحقوق والاستحقاقات التي يجب أن يتمتعوا بها، كلما زادت احتمالية استعدادهم لتقبّل التقاضي الاستراتيجي واقتناعهم به وبالعكس، كلما انخفض هذا الوعي، كلما انخفضت قابلية الانفتاح على فكرة اللجوء إلى التقاضي الاستراتيجي.
في هذا الشأن، لا تزال معرفة ماهية الحق في الصحة وفهم مضامينه يشوبهما الغموض والالتباس لدى الكثير من الأشخاص. فالحق في الصحة لا يعني الحق في التمتع بصحة جيدة، بل هو الحق في التمتع بمجموعة متنوعة من المرافق والسلع والخدمات والظروف الضرورية لبلوغ أعلى مستوى من الصحة(11). من هنا، تُثار الصعوبة العملية المتمثلة بتدنّي معرفة الفئات المهمشة بما يشمله الحق في الصحة، إذ قد يسود الاعتقاد لدى هذه الفئات أنّ الحق في الصحة يقتصر على تقديم الرعاية الصحية المناسبة، في وقت يُعدّ الحق في الصحة حقًا شاملا أكثر، بحيث يتضمن الحق في الحصول على مياه الشرب المأمونة والإصحاح المناسب والإمداد الكافي بالغذاء الآمن والتغذية والمسكن وظروف صحية للعمل والبيئة والحصول على التوعية والمعلومات في ما يتصل بالصحة(12). وعليه، فإذا كنًا مثلاً أمام مجموعة من العمال الذين يعملون في ظروف مهنية غير صحية، فإنه قد لا يتبادر التقاضي الاستراتيجي إلى أذهانهم للدفاع عن حقهم في الصحة، في حال كانوا يعتقدون بأن هذا الحق يقتصر فقط على حصولهم على الرعاية الصحية أو الأدوية والعلاجات المناسبة.
آفاق نجاح التقاضي الاستراتيجي في قضايا الحق في الصحة
إن التحدّيات التي تطرقنا إليها، يمكن معالجتها باتخاذ مجموعة من التدابير التي تتلاءم مع مختلف متطلبات نجاح التقاضي الاستراتيجي وفعاليته في الدفاع عن الحق في الصحة وحمايته لاسيما تجاه الفئات المهمشة وذلك من خلال:
– تطوير الإطار القانوني للحق في الصحة لكي يكون منطلقًا مرجعيًا ترتكز عليه الدعوى القضائية، وإدراج نصوص قانونية تعترف صراحةً بهذا الحق خاصةً للفئات الأكثر عرضةً للتهميش.
– إصلاح النظام القضائي في لبنان ووضع الآليات التي من شأنها تسريع وتيرة الفصل في الدعاوى وتعزيز استقلالية القضاة في القضاء العدلي والإداري وتحريرهم من تأثيرات السلطة والنفوذ السياسي.
– تعزيز الوعي المجتمعي حول أهمية الحق في الصحة ونشر الثقافة القانونية بين كافة شرائح المجتمع مع التركيز على الفئات المهمشة بموازاة دعم وصولهم إلى المعلومات. ويمكن لنقابة المحامين في كلّ من بيروت وطرابلس أن تمارس دورًا حيويًا في هذا المجال من خلال تأهيل المحامين وتعريفهم بكيفية التقاضي في سياق الحقوق الاجتماعية ولاسيما الحق في الصحة بالتعاون مع الجهات الفاعلة والنقابات الأخرى مثل نقابة الأطباء والصيادلة.
– تقديم الدعم المالي الكافي والمستدام للفئات المتضررة من أجل تمكينهم من الوصول إلى العدالة وتوفير الدعم المعنوي لهم وحمايتهم من المخاطر المحتملة الناتجة عن التقاضي الاستراتيجي.
تُجسّد هذه التدابير الخيارات المتاحة الممكنة لتوسيع أفق استخدام التقاضي الاستراتيجي في كل ما يتعلق بالحق في الصحة ومواكبة التقدّم الحاصل في هذا المجال لدى بعض الدول العربية مثل مصر والمغرب وفلسطين وتونس، مع مراعاة “الواقعية في الطرح” التي تقتضي البدء بخطوات بسيطة ولكن فعالة، وصولاً إلى إيجاد حلول بنيوية يستفيد منها ليس فقط الفئات المهمشة وإنما المجتمع ككل.
في الخلاصة، إن تبنّي التقاضي الاستراتيجي في ميدان الحق في الصحة هو مسعى لإحداث تغيير قانوني واجتماعي من خلال القضاء. ومن شأنه، في حال أخذ التحديات التي تعوقه بعين الاعتبار ومقاربتها بالشكل الصحيح، أن يحقق نتائج إيجابية وملهمة لجهة تحسين قوانين وسياسات الصحة وسدّ فجواتها واستكمال النواقص في مضامينها بالإضافة إلى توعية الرأي العام وجعله أكثر إلمامًا بالقضايا الحقوقية ذات الصلة بصحة الإنسان واهتمامًا بمتابعة مستجداتها وخلق مساحة حوار عام بصددها. كما يمكن للتقاضي الاستراتيجي أن يُعزّز سيادة القانون ومعايير المسائلة والشفافية والأهم، التأسيس لممارساتٍ أكثر إنصافًا، تحترم حق الفئات المهمشة في الصحة وتعترف بكرامتهم الإنسانية.

مصادر ومراجع:
(1) التعليق العام رقم 9 الصادر عن اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بشأن التطبيق المحلي للعهد، البند /2/.
(2) اعتُمدت هذه المبادئ من قِبل مجموعة خبراء في القانون الدولي في كانون الثاني/ يناير 1997، المبدأ /22/.
(3) التعليق العام رقم 2000/14 الصار عن لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعني بالحق في التمتع بأعلى مستوى من الصحة يمكن بلوغه، 11 آب/ أغسطس 2000، البند /59/.
(4) المرجع نفسه، البند /61/.
(5) ماذا يعني التقاضي الاستراتيجي؟، موقع الشبكة الدولية لحقوق الطفل، تاريخ الدخول 15/02/2025
https://archive.crin.org/ar/dl/ldlyl-lqnwny/mdh-yny-ltqdy-lstrtyjy.html
(6) التقاضي الاستراتيجي، موقع منظمة العفو الدولية، تاريخ الدخول 18/02/2025
https://www.amnesty.org/ar/strategic-litigation/#:~:text=في%20مجال%20حقوق%20الإنسان،%20تكون,الوعي%20العام%20بشأن%20ظلم%20ما.
(7) علاء، شلبي ومعتز بالله، عثمان؛ دليل تجارب التقاضي الاستراتيجي في ضوء الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، منشورات المعهد العربي لحقوق الانسان، 2012، ص. 39
(8) Gabriela Eslava, Lama Karamé, et.al; Strategic Litigation Manuel: From theory to practice, lessons from Colombia and Lebanon, Dejusticia and The Legal Agenda, 2020, p. 25
(9) علاء، شلبي ومعتز بالله، عثمان؛ دليل تجارب التقاضي الاستراتيجي في ضوء الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مرجع سبق ذكره، ص. 39
(10) المرجع نفسه، ص. 40
(11) التعليق العام رقم 2000/14 البندين /8/ و /9/.
(12) التعليق العام رقم 2000/14 البند /11/.
“محكمة” – الأربعاء في 2025/5/14

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!