الحكومة المستقيلة وشبح الفراغ/وليد حدرج
المحامي الدكتور وليد حدرج (باحث دستوري):
لا يكاد يخلو عقد من الزمان من أزمة كبيرة تتهدّد الكيان اللبناني وتنذر بخطر داهم قد يطال الاستقرار وربّما الاستمرار في وجودية الدولة المُكمِلة مئويتها الأولى بشقّ الأنفس.
لم يكد القرن العشرين يأفل حتّى استقرّ اللبنانيون على دستور صاغوه بدماء آلاف الضحايا من شتّى التوجّهات من خلال حروب لم تبدأ في العام 1958 وبالطبع لم تنته عام 2008.
أراد صنّاع الدستور المعدّل عام 1990 تجنّب حالات الصدام بين مكوّنات الوطن الواحد المراد له أن يكون “وطناً نهائياً لجميع أبنائه”، وذلك من خلال نصوص حاكت في جانب منها التطوّرات وتلمّست في الجانب الآخر خصوصية مكوّنات هذه الدولة.
شكّل شبح الفراغ في المؤسّسات وتحديداً في الرئاسة الأولى حالةً من الرعب والترقّب الدائم لا سيّما أنّ كلّ مرحلة من مراحل هذا الفراغ اقترنت بمشروع حرب أو فتنة ولو مؤجّلة إلى حين.
فبتلمّس التاريخ –المُختَلَف عليه بالطبع- نرى أنّ الفراغ الرئاسي خيّم على البلاد لمرّات أربع كانت أوّلها في العام 1952، حين استقال الرئيس بشارة الخوري وعيّن اللواء شهاب رئيساً لحكومة انتقالية. والثانية كانت ليل 23 أيلول 1988 عند انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل دون انتخاب خلف له، فعهد لحكومة عسكرية برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون، ليستمرّ الفراغ أكثر من عام كامل. أمّا المرّة الثالثة فكانت عقب انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود واستمرّت لستّة أشهر انتخب في ختامها ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. أمّا الرابعة والأخيرة – حتّى كتابة هذه السطور- فقد كانت الأشدّ لناحية التجاذب السياسي، واستمرّت منذ 25 أيّار 2014 وحتّى 31 تشرين الأوّل 2016 حيث اعتُبرت أسوأ أزمات الفراغ في تاريخ لبنان منذ الاستقلال، والثانية منذ الطائف.
اليوم ، ومع اقتراب المهل الدستورية اللازمة لانتخاب رئيس جديد للبلاد خلفاً للعماد ميشال عون، وفي ظلّ التجاذبات الحادة والخطرة التي تعصف بالبلاد، عادت التساؤلات لتطرح من جديد حول كيفية تمرير هذه المرحلة بأقلّ خسائر ممكنة، في حال تعذّر انتخاب رئيس جديد أو حدوث طارئ ما.
إنّ دراسة هذه الحالة ومحاولة الإجابة على تساؤلاتها تتطلّب الحديث عن موقعية رئاسة الجمهورية ودورها في الأزمات المتعاقبة على البلاد منذ ما قبل الطائف وحتّى اليوم، إضافة إلى المفهوم العام لتصريف الأعمال المناط بالحكومة مع تلمّس نيّة المشرّع الدستوري في تعديلاته المتتالية، وصولاً إلى فهم الاجتهاد الدستوري ودوره في المرحلة الحالية.
لم تكن رئاسة الجمهورية اللبنانية في يوم من الأيّام بعيدة عن الصراعات والأزمات الداخلية بأبعادها الخارجية، بل إنّها كانت وربّما ستبقى في جوهر الصراع إنْ لناحية الصلاحيات والممارسة أو لجهة التحالفات والتفاهمات السياسية ذات البعد الدستوري، الأمر الذي حتَّم اعتبار التعديلات الحاصلة على نصوص الدستور لجهة موقع وصلاحية رئيس الجمهورية مقصودة لذاتها نتيجة التناقض الفاضح بين برلمانية النظام النصّية ورئاسية الممارسة المؤدّية إلى صدامات بدأت في العام 1958 ولم تنته حتّى الآن.
رسمت المادة 49 من الدستور الصورة المطلوبة للرئاسة الاولى حيث نصّت على أنّ “رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن ، يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه”، كلمات اختصرت النظرة لموقع الرئاسة مستمّدةً من استيعاب دروس العهود المتعاقبة منذ شارل دباس وحتّى صياغة النصّ الدستوري والمصادقة عليه، إذ استطاع الدستور الجديد نقل لبنان من الجمهورية الأولى إلى جمهورية برلمانية يكون الحكم فيها للمؤسّسات الجماعية بعيداً عن الحكم الفردي بأبعاده المناطقية والطائفية ، فكانت مؤسّسة مجلس الوزراء ونقل السلطة التنفيذية إليها بصريح نصّ المادة 17 محاولةً للارتقاء بالممارسة السياسية إلى مصاف الدول الرائدة في هذا المضمار.
هذه الصورة للرئاسة الأولى تجعل من فكرة الشغور في الموقع إثماً مذموماً وأزمة حقيقية في نظام قام ولا زال على أبعاد طائفية، سيّما وأنّ رئاسة الجمهورية محفوظة للطائفة المارونية ولا يمكن التفريط بها أو التساهل في توكيل صلاحياتها للغير ، وربّما هذا ما دفع الرئيس بشارة الخوري عام 1952 إلى تكليف قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئاسة الحكومة الانتقالية، وهو ما تكرّر أيضاً عام 1988 مع الرئيس أمين الجميل.
هذه الأزمة بصورها وأبعادها تعود احتماليات وجودها اليوم من خلال توقّع الفشل في انتخاب رئيس جديد للبلاد قبل 31 تشرين الأوّل 2022 ووجود حكومة تصريف أعمال، وذلك بطرح اشكالية بعمق سياسي ودستوري متمثّلة بتساؤل مفاده هل يجوز إعمال نصّ المادة 62 من الدستور اللبناني على حكومة تصريف الأعمال، أم أنّ البلاد ستدخل في دوّامة من الفراغ التنفيذي الكامل؟
إنّ الإجابة على هذه الاشكالية وهذا التساؤل تحتاج إلى قراءة دستورية متأنية، وسياسية مسؤولة، بعيداً عن المناكفات وفتاوى غبّ الطلب والصدامات التي لا تحمد عقباها، وذلك انطلاقاً من المادة 62 من الدستور المعدّلة في اتفاق الطائف والتي نصّت على أنّه “في حال خلوّ سدّة الرئاسة لأيّ علّة كانت تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء”.
هذا النقاش يطرح أيضاً فكرة البحث في مدى “تصريف الأعمال” المنصوص عنه في الدستور وكيف تتعامل معه الحكومة المستقيلة في ما خصّ أعمالها الأصيلة أو تلك الموكلة إليها.
نصّت المادة 64 من الدستور في فقرتها الأخيرة على أنّ “لا تمارس الحكومة صلاحياتها.. بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلّا بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال”، حيث يطلب منها رئيس الجمهورية تصريف الأعمال في الفترة الفاصلة بين الاستقالة وتشكيل حكومة جديدة وليس مجرّد تكليف رئيس جديد لتشكيل الحكومة.
من البديهي أنّ فكرة تصريف الأعمال تجد جذورها في صلب مفهوم الاستمرارية وتجنّب مخاطر الفراغ إنطلاقاً من غياب المسؤولية السياسية للحكومة المستقيلة كونها غير خاضعة لرقابة البرلمان وغير مسؤولة أمامه وفق ما أكّدته هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل في العام 2011 .
إنّ المعنى الضيّق لتصريف الأعمال وفق صريح نصّ الدستور نجد صوره بوضوح الاجتهاد في التمييز بين الأعمال التصرّفية الممنوعة على الحكومة المستقيلة والأعمال غير التصرّفية المباحة لها كالقرارات اليومية المتعلّقة بتسيير أعمال المواطنين والأعمال المفترض اجراؤها ضمن مهل محدّدة وصولاً إلى السماح لرئيس مجلس الوزراء المستقيل بالتوقيع على القوانين تأميناً لسير العمل التشريعي وتجنّباً لحدوث فراغ دستوري وفق ما حسمه المجلس الدستوري في العام 2005.
أمّا الأعمال التصرّفية الممنوعة على حكومة تصريف الأعمال فهي مثلاً ما يرتّب أعباء جديدة أو ما يرتبط بالسياسة العليا للدولة أو إبرام المعاهدات والاتفاقيات الدولية، إلّا أنّه وبصريح الاجتهاد يمكن في بعض الحالات الطارئة أو الظروف الاستثنائية المتعلّقة بالنظام العام السماح للحكومة المستقيلة مباشرة بعض الأعمال التصرّفية إستناداً إلى ما يعرف بالمشروعية الاستثنائية.
لذلك، يمكن القول هنا إنّ الحديث عن تصريف الأعمال وحصره ببعض المهام مرتبط بعمل الحكومة الأصيل وليس بما يناط بها وكالةً بصريح نصّ الدستور، واستطراداً ليس في حالة المشروعية الاستثنائية والتي كرّس بعض حالاتها المجلس الدستوري في ما سيلي شرحه أدناه.
بالعودة إلى المادة 62 من الدستور، نرى أنّها أعطت مجلس الوزراء في حالة الفراغ تولّي صلاحيات الرئاسة الأولى “وكالةً”، بمعنى أنّ ما يعطى للوكيل لا يمكن أن يجاوز ما يملكه الأصيل، وبالتالي فإنّ الخشية من مصادرة الصلاحيات وخلق أزمة طائفية في البلاد لا بدّ أن يكون مستبعداً، مع الإشارة إلى أنّ السوابق الحاصلة في هذا المضمار أثارت هذه الإشكالية سواء مع حكومة الرئيس فؤاد السنيورة أو حكومة الرئيس تمام سلام، وقد جرت محاولات عدّة لحصر الصلاحية في أضيق الحدود ولو بالتصويت بالنصف زائداً واحداً.
هذا من ناحية. أمّا من ناحية أخرى، فإنّ الموقف الفقهي والاجتهادي المقدَّر محلياً ودولياً يؤكّد على أنّ مبدأ الاستمرارية وتجنّب الفراغ الدستوري والفراغ في المؤسّسات هو أمر مقدّم على أيّ اعتبار آخر، حيث إنّ واقعة الفراغ لا سيّما في الأطر التنفيذية تضع البلاد في أتون تشتّت لا تحمد عقباه وتخلق انقسامات أودت بالوطن والمواطن في مراحل سابقة إلى صدامات دموية،
هذا الموقف وإسقاطه نصّاً وواقعاً على لبنان يتطلّب وبالحالة المبدئية إعطاء حكومة تصريف الأعمال حقّ إعمال نصّ المادة 62 حرصاً على سلامة الدولة والمؤسّسات، وتجنّباً للفراغ وعملاً بالإستمرارية والإنتظام العام.
إجتهاداً، وبقراءة واضحة وسليمة لقرارات المجلس الدستوري في لبنان، نرى ما استقرّ عليه المجلس بقرار له عام 2005 حيث قال “إنّ مبدأ استمرارية السلطات الدستورية منعاً لحدوث أيّ فراغ هو مبدأ ذو قيمة دستورية على ما أقرّ ذلك المجلس الدستوري الفرنسي، وعلى ما يستمدّ من أحكام الدستور اللبناني بالذات التي تحول دون إحداث أيّ فراغ دستوري في أيّ من السلطتين المشترعة والإجرائية”، كما أكّد المجلس في قرار آخر له في العام 2014 “أنّ الانتظام العام له قيمة دستورية” و”أنّ الشغور في مؤسّسة من المؤسّسات الدستورية وبخاصة رئاسة الجمهورية يؤدّي إلى خلل في انتظام المؤسّسات الدستورية”.
هذا الموقف المتقدّم للمجلس الدستوري بوضعه الإنتظام العام في خانة المبادئ الدستورية العامة وتأكيده على أنّ مبدأ استمرارية السلطات هو مبدأ ذو قيمة دستورية، يجعل من الملزم والواجب بل والحتمي إعطاء حكومة تصريف الأعمال حقّ تولّي صلاحيات الرئاسة وكالةً تجنّباً لما حذّر منه القضاء الدستوري.
وبتمعّن أكثر، وعلى فرض وجود واقع استثنائي في لبنان قد ينجم عن الفراغ إذا ما وقع ، نرى أنّ المجلس الدستوري قد ذكر حرفياً في نفس القرار أنّ الظروف الاستثنائية هي “ظروف شاذة خارقة تهدّد السلامة العامة والأمن والنظام العام في البلاد، ومن شأنها ربّما أن تعرّض كيان الأمّة للزوال” مضيفاً فكرة مفادها أنّه يقتضي اتخاذ اجراءات استثنائية بغية الحفاظ على الإنتظام العام الذي له قيمة دستورية أيضاً.
إنّ هذه القراءة وهذا التحليل لموقف المشرّع الدستوري وللإجتهادات الدستورية ولصريح نصّ الدستور وروحية المقدّمة، تضعنا أمام إجابة جلية بعيدة عن الاعتبارات السياسية وهي أنّه وإعمالاً للإنتظام العام وحرصاً على استمرارية المؤسّسات الدستورية وسلامة الدولة وتفادياً للوصول إلى الظروف الاستثنائية، فإنّ حكومة تصريف الأعمال تنطبق عليها أحكام المادة 62 من الدستور وتناط بها وكالةً صلاحيات رئيس الجمهورية إذا ما وقعنا–لا سمح الله- في إثم الفراغ.
“محكمة” – الجمعة في 2022/9/30