الخطأ الجسيم في الإضراب/نورا حرب
المحامية نورا حرب:
منذ نشوء دولة لبنان الكبير، تذرّعت السلطات، بدعم من الطبقة النافذة إقتصادياً، بـ”خصوصية لبنان” لتهميش حقوق العمّال ووضع حدّ للحركات النقابية من خلال رفض إعطاء التراخيص أو سحبها واحتجاز أعضائها او ملاحقتهم أمام المحاكم، مبررةً ذلك بدواعٍ أمنية وأيضاً بحماية الصناعة الوطنية.
وإزاء إفراط السلطات في استخدام القانون كأداة لقمعها، استمرّت هذه التحرّكات في السّعي إلى تطوير أدواتها لتغيير وجهة السلاح، سواء على منابر القضاء أو من خلال الضغط في الشارع؛ وقد نجحت في نهاية المطاف في إرغام المجلس النيابي على إقرار قانون العمل.
لقد بدأ ظهور النقابات في إنكلترا في نهاية القرن الثامن عشر، ومنها انتقلت الفكرة إلى الدول الصناعية الأخرى في أوروبا، وكان السبب الأساسي لظهور النقابات في إنكلترا قبل غيرها من الدول هو الأخذ بأسباب الثورة الصناعية.
أمّا بالنسبة لفرنسا، فإنّها اعترفت بمجال الكيان النقابي، ومن بعدها تلتها باقي الدول في نهاية القرن التاسع عشر.
لكن، نجد في لبنان أنّ ظهور الحركة النقابية كان متأخّراً وذلك لأنّ الصناعة الآلية الحديثة والتجمّعات العمالية لم تتواجد إلاَّ في أوائل هذا القرن.
ففي سنة 1946، صدر قانون العمل وفيه باب خاص بالنقابات، ونجد بأنّ أحكام قانون العمل الخاصة بالنقابات تحكم نقابات العمّال وأرباب العمل الخاضعين لأحكامه. فممّا لا شك فيه أنّ إقرار هذا القانون جاء بسبب وجود قطاعات عمل مختلفة تتكوّن من عمّال وأرباب عمل، حيث إنّ هذا القانون قد اعترف للعمّال وأرباب العمل – في كلّ فئة من فئات المهن- بحقّ تكوين نقابة أو أكثر تتولّى الدفاع عن مصالح أعضائها، حيث إنّ كلّ منهما يحاول الحصول على الأفضل لنفسه ولو على حساب الآخر، فكان لا بُدّ من أن تتضارب المصالح في ما بين الطرفين. وكان الأقوى هو الذي يقرّر على الضعيف ما يُريد. وبطبيعة الحال، يُعتبر أرباب العمل هم الطرف الأقوى في هذا الصراع.
لذلك جاء هذا القانون من أجل تخفيف غضب العمّال بعد تكاثر الإضرابات وسقوط قتلى وجرحى في صفوفهم، حيث اعتبر الأجراء بأنّ الإضراب هو الوسيلة القادرة على حلّ مطالبهم، وبذلك فإنّ الإضراب هو وسيلة قسرية من أجل الضغط على أرباب العمل لدفعهم إلى تنفيذ مطالب الأجراء.
تجدر الإشارة إلى أنّ المحاكم اللبنانية أقرّت حقّ الإضراب حتّى قبل صدور قانون عقود العمل الجماعية والوساطة والتحكيم.
ففي البداية، لم ينصّ قانون العمل اللبناني على عقود العمل الجماعية، بل نصّ فقط على عقود العمل الفردية المحكومة بإرادة الفرقاء والأحكام الإلزامية التي وضعها المشرّع. لكن في ما بعد، تمّ تكريس هذه العقود في القانون عام 1946.
لكنْ لا بدّ من الإشارة إلى أنّ قانون العمل اللبناني ما كان ليصدر لولا الإضراب الذي أعلنه اتحاد النقابات المستقلة في 20 أيار 1946, وقد تحققت – وبفضل الإضراب – مكتسبات عُمّالية عديدة أخرى، أبرزها (قانون عقود العمل الجماعية والوساطة والتحكيم الذي صدر في 2 أيلول 1964، وقانون الضمان الاجتماعي عام 1963 … ).
في فرنسا، ومع صدور دستور الجمهورية الرابعة (1946)، اتخذ حقّ الإضراب مكانه في قمّة النصوص القانونية حيث نصّ هذا الدستور على ما يلي: ” يُمارس حقّ الإضراب في إطار القوانين التي تنظّمه “، هكذا لم يعد الإضراب مجرّد واقعة يُسمح بها بشروط أو على مضض، بل أصبح حقّاً دستورياً يفرض ذاته، وحقاً اجتماعياً أكثر منه حقاً فردياً.
حقّ الإضراب هو من الحرّيات العامة المُعطاة لأجير؛ فهو حرّية فردية وحرّية جماعية. إنّه أوّلاً حرّية فردية ، لأنه يُقدّم للأجير الحقّ بإعلان التوقّف عن العمل وهو خيار شخصي، وثانياً هو حرّية جماعية لأنه يُطبّق جماعياً، أيّ أنّ الإضراب يتمّ جماعياً بين الأجراء سواء انتموا إلى النقابة أو لا، لأنّ التحرّك الفردي للأجير لا يكون فعّالاً بمواجهة ربّ العمل، بل يكون هذا التحرّك مجرّد إخلال بعقد العمل. وبالرغم من أنّ الإضراب يتمتّع بالحرّية العامة، إلّا أنّه حرّية سلبية لأنّ الضرر الذي يلحق بربّ العمل بسبب التوقّف عن العمل يدفعه إلى تنفيذ مطالب الأجراء وبذلك يُصبح الإضراب: ” الوسيلة المشروعة لاستخدام القوّة “، وبالتالي هو: ” نمط من أنماط النّضال المشروع من أجل الدفاع عن المصالح المهنية “.
يجب الإشارة إلى أن تنفيذ عقود العمل الجماعية لا يخلو من نزاعات تقع بين الأجراء من جهة، وبين أرباب العمل من جهة آخرى، ويكون أهمّ أسباب النزاع تعديل شروط العمل والمطالبة ببعض الحقوق، عندها يلجأ كلّ فريق إلى استخدام الوسيلة الخاصة به من أجل تسوية النزاعات القسرية؛ فيلجأ الأجراء إلى الإضراب وأرباب العمل إلى إغلاق المؤسّسات وإقفالها. وفي كلا الحالتين ثمّة هزّة مهنية بل إجتماعية يتحمّل آثارها المجتمع بكافة فئاته.
يؤدّي الإضراب إلى توقيف العمل وتعطيل وسائل الإنتاج ممّا يضرّ بأرباب العمل الذين تتعطّل مصالحهم الخاصة، ويضرّ في الوقت نفسه بالأجراء حيث يخسرون أجورهم ممّا يؤدّي إلى انعكاسات سلبية على المصالح الاقتصادية للمجتمع.
يُفهم إذاً أنّ الإضراب نتيجة الإنقسام في العمل، وهو ظاهرة عامة خصوصاً في عصرنا هذا، حيث يشعر الأفراد بأنّهم غرباء عن بعضهم البعض وفي الوقت عينه فإنّهم لا يستطيعون سوى الاعتماد على بعضهم البعض. الإضراب هو عملٌ عمّالي محض، تعبيراً عن القّوة في عالم رأس المال والأعمال.
وتختلف الأسباب والظروف التي تؤدّي إلى اللّجوء إلى الإضراب، لكن عادةً يتمّ اللجوء إلى الإضرابات إثر فشل أو تعثّر التفاوض الجماعي كوسيلة ضغط على أصحاب العمل أو الدولة من أجل تحقيق الأهداف.
ويُعتبر الإضراب بمثابة السلاح الذي يلجأ إليه العمّال إثر فشل كافة وسائل الإقناع والتسوية للمطالبة بالحقوق العُمّالية المحقّة والمشروعة وفقاً للطرق التفاوضية. ويمكن تعريف الإضراب بأنّه توقّف العمّال الجماعي عن العمل بقصد الضغط على ربّ العمل من أجل تحسين شروط العمل، وهو ردّة فعل لإعادة التكافؤ بين فئتي مجتمع العمل: الأجراء وأرباب العمل.
لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ الحقّ المنصوص عليه في القانون الصادر بتاريخ 1964/9/2 بالنسبة لمسألة التوقّف عن العمل يقتصر على المؤسّسات الخاضعة لأحكام قانون العمل بمختلف فروعها التجارية والصناعية وملحقاتها، وبمختلف أنواعها الوطنية والأجنبية سواء كانت عامة أم خاصة، علمانية أم دينية، بما فيها مؤسّسات التعليم الوطنية والأجنبية والمؤسّسات الخيرية، بالإضافة إلى الشركات الأجنبية التي لها مركز تجاري أو فرع أو وكالة في لبنان.
فالمُشرّع عندما نصّ على مشروعية الإضراب وضع لها الأحكام والقواعد القانونية الخاصة بها، ففي حال تجاوز الأجراء هذه الأحكام والقواعد يُصبح الإضراب إضراباً غير مشروع، عندها تقع المسؤولية على عاتق الأجراء بسبب ارتكابهم خطأ، والخطأ المقصود هنا هو الخطأ الذي يتجاوز أصول الإضراب. إذاً هذا الحقّ المعترف به ليس مطلقاً من دون قيد، بل هو حقّ مُقيّد بعدم التضارب مع حاجات المجتمع والنظام العام.
إذاً في حال ارتكاب الأجراء خطأُ جسيماُ أدّى إلى إلحاق الضرر الفادح بالمؤسّسة أو بصاحب العمل، يُصبح الإضراب غير قانوني، وبالتالي سبباً لفسخ عقود العمل.
وعلى مَنْ يتذرّع بالخطأ الجسيم، وهو صاحب العمل عادةً، أن يثبّته ويثبّت درجة جسامته، ما لم تكن الأفعال تدلّ بحدّ ذاتها على هذه الدرجة حيث تُقبل بدون إثبات. أمّا إذا تعذّر إثبات جسامة الخطأ ومع ذلك أقدم صاحب العمل على صرف الأجير بسبب هذا الخطأ كان تصرّفاً تعسفياً. لكن يُمنع على صاحب العمل أن يلجأ إلى وسائل غير مشروعة لإثبات خطأ الأجير أو درجة جسامته.
إنّ نظرية الخطأ الجسيم هي نسبية، وتُقدّر حسب ظروف وملابسات كلّ حالة على حدة من جهة، وإثباتها من جهة ثانية تقع على صاحب العمل.
فكما ذكرنا، لم يتطرّق القانون اللبناني للإضراب بشكل عام، بل أقر هذا الحقّ مستخدماً عبارة “التوقّف عن العمل ” في قانون عقود العمل الجماعي والوساطة والتحكيم، حيث نصّ في المادة 63 في فقرتها الأولى على ما يلي: ” يكون غير شرعي كلّ توقّف عن العمل من قبل الأجراء أو أرباب العمل بسبب نزاع عمل جماعي قبل وأثناء الوساطة وأثناء مرحلة التحكيم، ويعتبر غير شرعي أيضاً كلّ توقّف عن العمل من قبل الأجراء أو أرباب العمل بعد صدور قرار التحكيم، ويكون سببه معاكسة القرار أو الإحتجاج عليه”.
ونصّت الفقرة الثانية على أنّه :” في حال إقدام ربّ العمل على توقيف الأجراء عن العمل بصورة غير شرعية يظلّ حقّ هؤلاء في قبض أجورهم محفوظاً مدّة التوقيف”، وبالتالي فإنّ توقّف الأجراء غير المشروع عن العمل يُفقدهم الحقّ في قبض أجورهم، دون أن يكون لهم الحقّ في فسخ عقد العمل.
أمّا المُشرع الفرنسي، فهو لم ينظّم حقّ الإضراب أيّ لم يضع له أحكاماً تفصيلية، بل اكتفى بتحديد مفاعيل الإضراب والقواعد الخاصة به.
ففي الواقع، كرّس القانون اللبناني والفرنسي الإضراب كحقٍّ ومبدأ دون التفصيل في تنظيمه، وذلك بهدف ترك المجال أمام القضاء لتطوير هذا المفهوم بما يلائم الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية. وبالفعل، يلعب الاجتهاد دوراً مهمّاً في هذا الأمر.
وعند الحديث عن حقّ الإضراب، يتبينّ بأنّ هذا الحقّ لم يأخذ معالمه الواضحة والمتينة لأنّه من الصعوبة تنظيم واقع يتجاوز في جوهره الحدودَ القانونية كما هو الحال بالنسبة للإضراب؛ كما يرى المُفكّر كليمون كوزان Clement Cuzin بأنّ:” الإضراب هو مرض خطير يكون بين ربّ العمل والعمّال، لذا لنترك لهم العناية مع مساهمة القضاء في علاج مرضهم بأنفُسهم”.
ميّز المشرّع اللبناني بين نوعين من الإضراب: الإضراب المشروع وغير المشروع، واعتبر بأنّ التوقّف عن العمل خلال الفترة الممتدة بين صدور الوساطة وقبل البدء بالتحكيم هو إضرابٌ مشروع، حيث يجب أن يكون الهدف هو تحسين أوضاعهم المهنية، لكن إذا تمّ التوقّف عن العمل قبل وأثناء مرحلة الوساطة وأثناء مرحلة التحكيم، يُعتبر الإضراب إضراباً غير مشروع وذلك وفقاً لنصّ المادة 63 فقرتها الثانية، السابق ذكرها.
وما يجب الإنتباه إليه هو أنّ المشرّع اللبناني كرّس حقّ الإضراب واعتبره مشروعاً كما ذكرنا عند تطبيق الأحكام المحدّدة في القانون، وبالتالي على العمّال المُضربين ممارسة هذا الحقّ ضمن حدود الأنظمة والقوانين من دون ارتكابهم أخطاءً تُعتبر جسيمةً وتجعل من إضرابهم إضراباً غير مشروع، وسبباً لفسخ العقد.
لكن بالنسبة لمسألة الخطأ الجسيم، ففي لبنان لا نزال نفتقد إلى النصوص التي تعالج هذه المسألة، ما يجعل هناك ضرورةً في اللجوء إلى النصوص والقرارات الفرنسية من أجل تحديد مفهوم الخطأ الجسيم.
إذن، ونظراً للدور الذي يلعبه الاجتهاد في تبيان كافة الجوانب المنظّمة لحقّ الإضراب، فقد قام الفقه والاجتهاد اللبناني باتباع الاجتهاد الفرنسي في الكثير من الأمور بسبب تطوّره في هذا المجال.
نجد بأنّ واجهة الأحداث تصدّرت في الآونة الأخيرة، بوجود إضرابات عديدة من أجل مطالبة الأجراء بحقوقهم، وكما نعلم ومن دون شكّ، يُعدّ الإضراب مظهراً من مظاهر الحرّية النقابية في لبنان، لكن هذا الحق ليس مطلقاً، إذ إنّه يشترط ممارسة الإضراب وفقاً للقوانين المحلّية في الدولة. وبالتالي، يُشترط حصول إضراب من قبل الأجراء وفقاً للمشروعية، فإذا تمّ التعدّي على هذه المشروعية، وارتُكب خطأٌ ما، عندها يصبح الإضراب إضراباً غير مشروع.
“محكمة” – الإثنين في 2023/1/2