الرواية الكاملة لقضيّة توقيف خديجة أسعد: أبو كروم لم تخطئ.. والإعلام شوّه الحقائق
كتب علي الموسوي:
ليس من حقّ الإعلام أن يسرد رواية منقوصة عن ملفّ قضائي سواء أكان لدى النيابة العامة، أو قاضي التحقيق، أو قاضي الحكم، ولا يجوز إختلاق وقائع غير صحيحة وإسقاطها في غير مكانها، فالتشويش يضرّ الإعلام، لأنّه يفقده مصداقيته، قبل أن يؤذي المعنيين بالملفّ، وفي مقدّمتهم القاضي والقضاء.
وعليه، فإنّ الرواية التي قدّمها الإعلام المرئي وتناقلتها مواقع التواصل الإجتماعي من دون تدقيق، في قضيّة الحاجة خديجة أسعد لا تمتّ إلى الواقع بصلة، لا بل حملت الكثير من التضليل حتّى أنّه جرى التطاول على القاضية غادة أبو كروم من دون وجه حقّ، وهو أسلوب لا يبني وطناً ولا يحمي القضاة الشرفاء، وغادة أبو كروم في طليعتهم، ويُشْهد لهذه القاضية المرأة، بالنزاهة والإستقلالية والنُبْل، وأكثر من ذلك، فهي لا تردّ على هاتف أيّ سياسي حتّى ولو كان من طائفتها الكريمة وتردّه خائباً، وخصوصاً إذا ما حاول الإلتفاف على القانون، وتشدّدها في تطبيق القانون نابع من حرصها على القانون الذي يحمي الجميع.
والرواية الحقيقية تتمثّل في أنّ أبناء الحاجة خديجة عبد الحسين أسعد(مواليد عيناتا في 10 آذار من العام 1939) وخلافاً للقانون، بدأوا ببناء طابق مسقوف بالقرميد، وليس مجرّد خيمة، على مساحة سطح مبنى مسجّل باسم الأمّ التي تُعْتبر والحال هذه مسؤولة أمام السلطات الإدارية والبلدية والقضاء في حال وقوع مخالفة ما، فحضرت دورية من مخفر النبطية للتحقّق من وجود ترخيص قانوني، فلم تجده، وطلبت إزالة المخالفة الواضحة، من دون أن تلقى استجابة من أصحاب البيت، وتكرّر الأمر مراراً من دون نتيجة، فما كان منها إلاّ أن سطّرت محضر مخالفة بوجود ورشة بناء من دون ترخيص رسمي بحسب الأصول المتبعة وعملت على إزالة المخالفة، أو بالأحرى التخفيف من معالمها، وهذا التصرّف القانوني لم يُقنع أبناء الحاجة خديجة أسعد والذين عمدوا إلى استكمال البناء ضاربين بالقانون عرض الحائط، ثمّ رست عملية “البناء وإزالة المخالفة” على تنظيم عناصر قوى الأمن الداخلي أربعة محاضر بحقّ صاحبة المنزل مع توقيفها في المرّة الأخيرة وإحالتها على النيابة العامة الاستئنافية في النبطية، لاسيّما وأنّها تلفّظت بعبارات تحقير بحقّ القضاء.
وهنا لا بدّ من لفت النظر إلى أنّه في حالات مماثلة وورش بناء مخالفة، يجري إعطاء المخالف مهلة زمنية لإزالة هذه المخالفة، وإذا ما تمنّع ورفض الإلتزام بالقانون، يتمّ توقيفه. والملفّات الموجودة لدى القضاة المنفردين في كلّ المحافظات كثيرة وتحكي عن ذلك ويمكن العودة إليها للتحقّق من هذا الوضع الذي يعرفه المحامون عن كثب.
وأصرّت الحاجة خديجة أسعد على إبقاء المخالفة، في وقت كان أولادها قد تركوها وحيدة تواجه عناصر قوى الأمن لاعتقادهم بأنّ تقدّمها في العمر قد يشفع لها، وهذا تصوّر خاطئ وإلاّ لوقفت كلّ الجدّات والأمهات الكبيرات في السنّ في وجه القوى الأمنية عند قيامها بواجبها بملاحقة مطلوب أو شخص ما.
وذهبت الحاجة خديجة أبعد من ذلك مفضّلة توقيفها على إزالة المخالفة، والدليل أنّ أحداً من أبنائها لم يبادر ولم يسارع طوال الأيّام الأربعة التي مرّت على توقيف الوالدة إلى إزالة المخالفة، وهذا يعني أنّ التوقيف حصل لأمرين إثنين هما: عدم التعهّد بإزالة المخالفة، والإصرار على إبقائها وتفضيل التوقيف على الرغم من مرارته، على رفع المخالفة التي كان يمكن إيجاد مخرج قانوني بتشريعها لاحقاً بعد الحصول على الرخصة المناسبة من الجهات المعنية.
وصل الملفّ إلى النائب العام القاضية غادة أبو كروم، فقامت بما يمليه عليها الواجب القانوني في مثل هذه الحال، وهو الادعاء على خديجة أسعد، وأحالتها موقوفة مع الملفّ على القاضي المنفرد الجزائي في النبطية الدكتور محمّد عبده الذي وافق على إخلاء سبيل الحاجة خديجة فور تلقيه الادعاء من دون أن يبادر إلى استجوابها كما تقتضي الأصول، والسبب بحسب تبريره أنّ ابنة أسعد مدعى عليها أيضاً ولا يمكنه استجواب الأمّ، فيما الإبنة متوارية عن الأنظار، والخصومة برأيه غير مكتملة، لكن كان يمكن فصل الأمر باستجواب الأمّ لدقيقة أو دقيقتين، وإعادتها إلى منزلها من دون ضجّة مفتعلة في الإعلام لغايات لا علاقة للقضاء فيها، خصوصاً وأنّ هناك ملفّات تتعلّق بجرائم إرهابية أو مخدّرات وقامت المحاكم المعنية بفصلها بسبب وجود متهمّين موقوفين ومتوارين وآخرين فيها يتعمّدون إبطاء السير بالمحاكمة، كما أنّه كان بمقدور القاضي عبده أن يطلب إحضار الإبنة مع التعهّد بعدم توقيفها لاستجوابها مع والدتها وإنهاء الملفّ برمّته، فهنا الحكمة أهمّ من كلّ أصناف القانون وشكلياته.
وإزاء قرار إخلاء السبيل، قامت القاضية أبو كروم باستئنافه أمام محكمة استئناف الجنح في النبطية برئاسة القاضية مهى فيّاض وعضوية المستشارين عبّاس جحا ورئبال ذبيان ففسخته موافقةً بذلك على طلب النيابة العامة بإبقاء الحاجة خديجة أسعد قيد التوقيف الإحتياطي، لأنّه لم يجر استجوابها قبل المبادرة إلى إخلاء سبيلها.
ثمّ جرى تضخيم حادثة التوقيف وتسريبها إلى الإعلام الذي استوقفه عُمْر الحاجة خديجة من دون أن يدقّق جيّداً في وقائع الملفّ، ولو أنّه فعل، لما جرى تصوير القاضية غادة أبو كروم على أنّها ضدّ الإنسانية، ولما تطاول عليها أحد.
ويعرف كلّ رجال القانون من قضاة ومحامين وطلاّب حقوق أنّ القضاء يقارب الملفّ المعروض عليه من زاوية المستندات المبرزة أمامه، ولم يتضمّن الملفّ أيّ تقرير طبّي يفيد بأنّ حالة الحاجة خديجة أسعد الصحّية دقيقة وحرجة وتستدعي المتابعة، أو أنّها مصابة بمرض عضال وتحتاج إلى علاج دائم، مع الإشارة إلى أنّ أوّل سؤال يوجّه إلى الشخص الموقوف عند توقيفه يتعلّق بما إذا كان يريد عرضه على طبيب، أم لا، وهذا الأمر معروف في سياق التحقيقات الأوّلية، ويبدو أنّ الحاجة خديجة أسعد لم تطلب هذا الحقّ، فلم يجر عرضها على طبيب، كما أنّ حالتها عند توقيفها لم تكن تستدعي إحضار طبيب للكشف عليها.
ولو أنّ المخالفة المرتكبة تضرّ بالمنتصرين للحاجة أسعد، لكانوا من أوائل المطالبين بإزالتها وتوقيفها ولتغيّر كلامهم رأساً على عقب.
أمّا بشأن ملفّات السرقات والفساد المتفشّية هنا وهناك، فتُسأل عنها السلطة السياسية، وليست غادة أبو كروم التي ما وصلتها دعوى ضمن صلاحياتها، إلاّ وتابعتها وقامت بما يرتضيه القانون والضمير، وبعد ذلك، فهي ليست مسؤولة عمّا يحصل فيها، لأنّ دورها ينتهي عندما يفترض أن ينتقل الملفّ إلى قاضي التحقيق، أو المحكمة المعنية.
وقد يخطئ القاضي أو القاضية في مقاربة ملفّ ما، أو عند النظر في دعوى ما ووضع قرار فيها، وهناك آلية قضائية للطعن بذلك وإلاّ لما كانت المحاكمة على درجتين، والتصويب يكون في رحاب المحاكم والعدليات، وليس على صفحات الإعلام وتلفزيونات التشهير والتشويه والتضليل، كما أنّه يوجد هيئة للتفتيش القضائي يمكنها محاسبة “القاضي الضال” إذا أبدى تصرّفاً لا يليق بالعدالة الحقّة.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 18 – حزيران 2017).