الزواج المدني في لبنان حقّ أم لا؟/ملاك خضر
المحامية المتدرّجة ملاك خضر:
ينصّ الدستور اللبناني على أنّ حرّية الاعتقاد مطلقة في لبنان، ويؤكّد أنّ اللبنانيين سواءٌ لدى القانون، إلّا أنّ هذا القانون يميّزهم ويخضعهم لنظام أحوال شخصية مبني على أساسٍ طائفي مذهبي في وطن يعترف بأكثر من ١٨ طائفة دينية تدّعي التعايش حينًا وترفض الزيجات المختلطة أحيانًا وتمنع مطلقًا التوارث لاختلاف الأديان، ما دفع شريحة من اللبنانيين إلى المطالبة بالمساواة على أساس قانون مدني موحّد وهو أبسط الحقوق في دولة تدّعي الانفتاح والتعايش واحترام الحرّيات.
كاد الحلم اللبناني بقانون مدني موحّد يتحقّق عام ١٩٩٩ يوم ناقش مجلس الوزراء اللبناني اقتراح قانون الزواج المدني حيث وافق عليه بغالبية ٢١ صوتًا إلّا أنّ رئيس الوزراء آنذاك رفيق الحريري رفض التوقيع بحجّة أنّ ظروف لبنان لا تسمح بذلك.
فإذا كانت ظروف لبنان في حينها لا تسمح خشيةً من رفض الكنيسة، فإنّ هذه العقدة الأولى لدى الطوائف المسيحية التي تعتبر الاحتفال بالزواج أمام الكاهن ركنًا أساسيًا لانعقاد الزواج والتي ترى فيه سرًّا إلهيًا لا يُمنح إلّا تحت سقف الكنيسة، فهذه العقدة وجدت طريقها للحلّ عبر إعلان البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي عدّة مرّات، إحداها من القصر الجمهوري بعد لقاء له مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في شباط ٢٠١٩ ، أنّه يؤيّد الزواج المدني الإلزامي بقانون مدني يطبّق على جميع اللبنانيين بدون استثناء، مؤكّدًا أنّ اكتمال الزواج بركن السرّ الإلهي لا يُفرض على المسيحيين، بل يمكن لذوي الشأن إن كانوا مؤمنين، أن يحتفلوا بزواجهم اختياريًا أمام المرجع الديني ليكتسبوه، وبهذا يكون البطريرك قد بارك الزواج المدني الإلزامي، الذي كانت الكنيسة لا تعترف بوجوده لأنّه يخالف نظامها.
أمّا المسلمون، فإنّ الزواج أمام المرجع الديني لا يشكّل لديهم ركنًا لانعقاد الزواج، بل يكفي التقاء الإرادتين لاعتباره شرعيًا حتّى لو لم يتمّ تسجيله.
وعلى هذا الصعيد، وفي فتوى قديمة متقدّمة ومهمّة لمفتي الجمهورية اللبنانية الشهيد حسن خالد عام ١٩٥٨، أجاز فيها للقنصل اللبناني في الخارج أن يجري الزواج بين اللبنانيين بالإستنابة، ما يعني أنّ الزواج أمام هذا القنصل المدني يعطي الزواج صفته الشرعية بالنسبة لدار الفتوى بموجب هذه الإستنابة.
فمن المستغرب اليوم أن تكون بلدان العالم في تطوّر، بينما قوانين لبنان الذي سُمّيت عاصمته بأمّ الشرائع، تتجّه نحو الإنغلاق والتراجع، فلبنان لا يعترف بالزواج المدني الذي يجري على أرضه، بينما يعترف بزيجات أبنائه المدنية المعقودة في الخارج بموجب المادة ٢٥ من القرار ٦٠ ل.ر. الصادر عام ١٩٣٦ عن المفوّض السامي أيّام الانتداب الفرنسي. فبدلاً من أن تسعى أمّ الشرائع إلى إقرار قانون موحّد لجميع أبنائها، يذهب القانون لتطبيق قانون محلّ إبرام عقد الزواج المعقود في الخارج، ما يدفع المحاكم اللبنانية لتطبيق عشرات القوانين الأجنبية المدنية على أرضها بدون أن يهتزّ جفن المجلس اللبناني ويبادر لإقرار قانون يريح المحاكم ويريح اللبنانيين الذين غالبًا ما يتوجّهون إلى قبرص لأنّها الأقرب إليهم، فيما وطنهم الأمّ يمنعهم من أن يمارسوا أدنى حقوقهم بالزواج ممن يريدون، دون أن يكون الدين مانعًا لزواجهم على سيادة أرضهم اللبنانية.
ولا تنتهي المأساة اللبنانية هنا، فحتّى الزيجات المدنية التي حصلت في لبنان هي مكتومة القيد، فقد رأت هيئة التشريع والاستشارات أنّها غير قانونية ما دفع وزير الداخلية السابق لعدم تسجيلها ما يعني أنّ الأولاد الذين يولدون بموجبها لا يمكن تسجيلهم، وهذا ما أجبر السيّدة خلود وهي أوّل متزوّجة مدنيًا في لبنان إلى اللجوء إلى السويد بعدما رفضت دوائر الأحوال الشخصية تسجيل ابنها.
وبالمقابل، ينتشر التكفير الديني للقانون المدني لغايات تضليلية للرأي العام، والتي تحمل غالبًا تخويف من زواج المثليين الذي يتبادر إلى أذهان الكثيرين أنّ الزواج المدني لصيق بالمثلية، رغم أنّ الزواج المثلي في كثير من البلدان التي يلجأ إليها اللبنانيون لعقد زواجهم المدني مرفوض، فتبقى هذه من الأمور التي لا يمكن أن تتمّ، طالما أنّ المشرعين في لبنان هم صورة عن مبادىء المجتمع، فإقرار قانون مدني في لبنان لا يعني أبدًا تشريعًا لزواج المثليين، فالأمران منفصلان، وبالتالي لا يعني تشريع أحدهما تشريعًا للآخر.
من هنا، لم يعد مبرّرًا بعد اليوم الإختباء وراء الأسباب الطائفية لتبرير التقاعس عن إقرار قانون مدني موحّد، فالدستور أكّد أنّنا دولة ديمقراطية، والقانون يجب أن يكرّس إرادة الناس خصوصًا في ظلّ ما يعانيه اللبنانيون من ظلم في المحاكم الشرعية والروحية، فالمسيحيون يلجأون لتغيير أديانهم بسبب رفض الكنيسة للطلاق، إلّا في حالات حصرية واستغراق الدعاوى سنوات طويلة، والمسلمون يعانون من حرمان الأمّهات من حقوقهنّ في حضانة أطفالهنّ، إضافة إلى ذلك، فإنّ ضرورة القانون المدني ستؤدّي إلى رفع الحدّ الأدنى لعمر الزواج بحيث يتساوى مع سنّ الرشد المدني أيّ ١٨ عامًا، وإلى تكريس الحقوق المالية التي تستحقّ عند انتهاء الزواج والتي تضيع في أروقة المحاكم الشرعية.
“محكمة” – الأحد في 2022/2/27