السلطة التنفيذية ملزمة بإصدار مرسوم التشكيلات القضائية ولا تملك الصلاحية لردّه/عصام إسماعيل
المحامي الدكتور عصام نعمة إسماعيل*:
بمعزلٍ عن وجاهة الإعتبارات التي صاغتها المديرية العامة لرئاسة الجمهورية حول مبرّرات امتناع رئيس الجمهورية عن توقيع مرسوم التشكيلات القضائية، إلاّ أنّ الاعتبارات المصاغة لا تبرّر الإمتناع عن توقيع المرسوم، حيث كان يتوجّب على رئيس الجمهورية بصفته المؤتمن على تنفيذ القوانين، أن يوقّع المرسوم وله إذا شاء أن يرفقه بملاحظاته.
ومردّ ذلك أنّ المشترع قد منح مجلس القضاء الأعلى سلطة اتخاذ القرار النهائي النافذ في ما يتعلّق بالتشكيلات القضائية، حيث وضعت المادة الثانية من القانون رقم 389 تاريخ 2001/12/21 أصولاً خاصة لإنفاذ وإصدار التشكيلات القضائية، وقد جاء فيها: يلغى نصّ الفقرة “ب” من المادة /5/ من المرسوم الاشتراعي رقم 150 تاريخ 1983/9/16 (قانون القضاء العدلي) ويستعاض عنه بالنصّ الآتي: الفقرة “ب” الجديدة:
“لا تصبح التشكيلات نافذة إلاّ بعد موافقة وزير العدل.
– عند حصول اختلاف في وجهات النظر بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى تعقد جلسة مشتركة بينهما للنظر في النقاط المختلفة عليها.
– إذا استمرّ الخلاف ينظر مجلس القضاء الأعلى مجدّداً في الأمر للبتّ فيه ويتخذ قراره بأكثرية سبعة أعضاء ويكون قراره في هذا الشأن نهائياً وملزماً”.
– تصدر التشكيلات القضائية وفقاً للبنود السابقة بمرسوم بناء على اقتراح وزير العدل.
بحسب هذه المادة الجديدة، فإنّ إقرار ونفاذ التشكيلات القضائية يتمّ وفق الآتي:
1- يضع مجلس القضاء الأعلى مشروع المناقلات والإلحاقات والإنتدابات القضائية الفردية أو الجماعية،
2- نفاذ التشكيلات: تعتبر التشكيلات القضائية نافذة بعد موافقة وزير العدل عليها.
3- القرار النهائي: يعود إلى مجلس القضاء الأعلى: في حالة الخلاف بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى: يتخذّ مجلس القضاء الأعلى قراره بأكثرية سبعة أعضاء ويكون قراره في هذا الشأن نهائياً وملزماً.
4- الإعلان عن التشكيلات القضائية: يتمّ هذا الإعلان بموجب مرسوم.
واضح من هذا النصّ أنّ المشترع أراد نزع صلاحية التقرير في شؤون التشكيلات القضائية من السلطة التنفيذية وإناطتها بمجلس القضاء الأعلى.
ومن يتابع مراحل تعديل النصّ يصل إلى هذه النتيجة: فالمادة 4 من المرسوم الإشتراعى رقم 22 تاريخ 1985/03/23 كانت تعطي مجلس الوزراء الكلمة الفصل أو سلطة التقرير وبتّ النزاع في موضوع التشكيلات القضائية حيث نصّت هذه المادة على أنّه:”… عند حصول اختلاف في وجهات النظر بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى تعقد جلسة مشتركة بينهما للنظر في النقاط المختلف عليها.إذا استمرّ الخلاف يعرض الأمر على مجلس الوزراء خلال مهلة شهر واحد على الأكثر للبتّ به. ويبتّ به مجلس الوزراء بعد الإستماع إلى رئيس مجلس القضاء الأعلى الذي يعرض وجهة نظر المجلس. تصدر التشكيلات القضائية وفقاً للبنود السابقة بمرسوم يتخذ بناء على اقتراح وزير العدل”. وكذلك فإنّ النصّ الأساسي للمادة الخامسة من المرسوم الإشتراعي رقم 150 تاريخ 1983/9/16 كانت تنصّ على منح مجلس الوزراء صلاحية البتّ في الإختلاف بعد استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى.
إذن بعد صدور القانون رقم 389 تاريخ 2001/12/21 أصبح القرار النهائي بخصوص التشكيلات القضائية هو لمجلس القضاء الأعلى، ولقد استخدم القانون لمصطلح واضح الدلالة حول هذا المعنى:”ويكون قراره في هذا الشأن نهائياً وملزماً”.
والنهائية والإلزام كلمة لها معنى محدّد في الإجتهاد الإداري، حيث عرّف القرار الإداري النافذ بأنّه:القرار النهائي الصادر عن سلطة إدارية تملك حقّ إصداره على نحوٍ نهائي بعد استكمال كلّ مراحله الإدارية اللازمة دونما حاجة إلى معاملة أخرى وضار أيّ أن يكون هذا القرار مولّداً بذاته للآثار القانونية أو له تأثير بذاته على المركز القانوني للأشخاص الذين استهدفهم في حقوقهم ومراجعاتهم وذي صلة مباشرة بوضع الآثار القانونية موضع التنفيذ”( م.ش. قرار رقم 2003/135-2004 تاريخ 2003/11/18، جمعية الدفاع عن الحقوق والحرّيات/ الدولة- وزارة الداخلية؛ م.ش. قرار رقم 2005/203 -2006 تاريخ 24 كانون الثاني 2006، جمعية متخرّجي جامعة بيروت العربية/ الدولة- وزارة الداخلية والبلديات، مجلّة العدل 1/2007 ص 138). وفي معنى آخر: هو إفصاحُ الإدارةِ عن إرادتها الذاتيةِ الآمرةِ … وعلى نحوٍ نهائيٍّ بعد استكمال كافة مراحله الإدارية اللازمة، وواضعاً بذاتهِ آثارَهُ ومفاعيلَه القانونيةَ موضعَ التنفيذ .. (م.ش. قرار رقم 2011/265 -2012 تاريخ 2012/1/23 جمعية “رابطة خرّيجي جامعة هارفرد في لبنان”/ الدولة – وزارة الداخلية والبلديات).
أمّا الإلزام، فهو صفة ملاصقة لكلّ القرارات الإدارية بحيث إنّ خاصية النفاذ هي أساس ضروري لكلّ قرار إداري كما هو الأمر بالنسبة لخاصية الإجبار التي تلازم كلّ قاعدة قانونية. وحيث إنّ القرار الإداري هو تصرّف آمر، فإنّ هذا الأمر يتضمَّن حتماً فكرة الإلزام، فإذا انتفى الإلزام في الأمر فإنّه لا يكون سوى رغبة أو تمنّ يمكن مخالفتها. فالإلزام هو صفة كامنة في كلّ قرار وبمقتضاه يُفرض على المخاطبين به بصرف النظر عن قبولهم أو عدم قبولهم.
ولهذا فإنّ المشترع عندما أعطى قرار مجلس القضاء الأعلى صفة الإلزام مضيفاً إليها النهائية، فهذا يعني أنّ قرار مجلس القضاء الأعلى قد استنفد كافة مراحله ليكون قراراً نافذاً بذاته بمعزلٍ عن المرسوم اللاحق الذي يعلن عن التشكيلات القضائية، وبالمنطق يستحيل أن يكون لقرارين متعلّقين بذات التشكيلات القضائية صفتي القرار النهائي، فيجب أن يكون واحداً فقط هو النهائي، والآخر يكون له صفة الإعلاني.
ولمّا كان المشترع قد أناط بمجلس القضاء الأعلى صلاحية البتّ في الإختلاف مع وزير العدل حالّاً بذلك محلّ مجلس الوزراء، فإنّ من الجائز المقارنة مع قرارات مجلس الوزراء وعلاقتها بالمراسيم الصادرة عن رئيس الجمهورية.
فبعد التعديل الدستوري لعام 1990 أنيطت السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء ومن الصلاحيات التي يمارسها مجلس الوزراء وضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات ووضع مشاريع القوانين والمراسيم التنظيمية واتخاذ القرارات اللازمة لتطبيقها(المادة 65 الجديدة) وبمقتضى هذا النصّ فإنّ قرارات مجلس الوزراء أصبحت نافذة بحدّ ذاتها بمعزلٍ عن تكريسها بموجب مراسيم لاحقة، كما لم تعد من فئة الأعمال التحضيرية (م.ش. قرار رقم 97/459 -98 تاريخ 16 نيسان 1998، شركة بروموريان ش.م.م./ الدولة؛ م.ش. قرار رقم89 تاريخ 30 تشرين الثاني 1999، الشركة اللبنانية ذات المنفعة المشتركة لحصر التبغ والتنباك ش.م.ل/الدولة، م.ق.إ. العدد 15 لعام 2003 م1 ص 178؛ م.ش. قرار رقم 236 تاريخ 2001/12/13 الشركة اللبنانية المتحدة للمقالع والكسارات ش.م.ل./الدولة)، ولقد بيّنت الفقرة الخامسة من المادة 65 كيفية اتخاذ مجلس الوزراء لقراراته، حيث نصّت على أن:”يجتمع مجلس الوزراء ….. ….. ويتخذ قراراته بأكثرية الحضور. أمّا المواضيع الأساسية فإنّها تحتاج إلى موافقة ثلثي عدد أعضاء الحكومة المحدّد في مرسوم تشكيلها..”.
وما يعزّز هذا التفسير أنّ الفقرة الثانية من المادة 56 من الدستور قد نصّت على ما يأتي: وهو (أيّ رئيس الجمهورية) يصدر المراسيم ويطلب نشرها، وله حقّ الطلب إلى مجلس الوزراء إعادة النظر في أيّ قرار من القرارات التي يتخذها المجلس خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ إيداعه رئاسة الجمهورية. وإذا أصرّ مجلس الوزراء على القرار المتخذّ أو انقضت المهلة دون إصدار المرسوم أو إعادته، يعتبر القرار أو المرسوم نافذاً حكماً ووجب نشره.
هذه المادة الدستورية المذكورة واضحة لناحية أنّ قرار مجلس الوزراء نافذ بذاته، وهذا النفاذ لا يحتاج إلى أيّ إجراء لاحق لمنحه القوّة الملزمة، فهو قرار نهائي نافذ أنشأ كافة المفاعيل القانونية ورتّب حقوقاً للمخاطبين به منذ لحظة اتخاذ هذا القرار، وأمّا المراسيم التي أوجبت النصوص القانونية الأخرى أن تصدر تنفيذاً لقرار مجلس الوزراء، فهي مجرّد الشكل الخارجي المقرّر في القانون لإصدار العمل الإداري، وله الصفة الإعلانية وليس الإنشائية، بمعنى أنّ الحقّ ينشئه قرار مجلس الوزراء، وأنّ المرسوم يعلن عن هذا الحقّ.
ويسمّى العمل الذي يعلن عن الحقّ ولا ينشئه بتسمية “القرارات الإعترافية” وهي القرارات التي لا تحدث تغييراً في المراكز القانونية العامة أو الخاصة المنشأة سابقاً، وينحصر دورها في تأكيد مركز قانوني قائم من قبل، فعندما تجد الإدارة نفسها حيال حقّ أقرَّه نصّ قانوني أو تنظيمي، يتوجّب عليها أن تمنحه عند المطالبة به(م.ش. قرار رقم24 تاريخ 18 تشرين الأوّل 1995، رامز باسيل/ الدولة، م.ق.إ. 1997 م1 ص35)، وتقتصر وظيفة الإدارة على التدقيق في ما إذا كانت الشروط المقرّرة بالقانون المانح للحقّ هي مستوفاة. وعندما تصدر الإدارة للقرار الإعترافي، فهي لا تفعل أكثر من مجرّد تطبيق أو إعمال أحكام القانون، وسلطتها في هذا المجال هي سلطة مقيّدة.
وللتوضيح بمثال: فإنّ مرسوم إحالة الموظّف على التقاعد أو صرفه من الخدمة هو من القرارات الإعترافية، لأنّ الإدارة تعلن انطباق المعاملة على الأوضاع القانونية على اعتبار أنّ بلوغ السنّ القانونية ينتج حكماً وآلياً وعفواً، انتهاء الخدمة وانقطاع صلة الموظّف بإدارته (م.ش. قرار رقم 590 تاريخ 5 تموز 2001، الدولة/نزيه شمعون، م.ق.إ. 2004 م2 ص 878- م.ش. قرار رقم317 تاريخ 4 أيّار 2000، نزيه شمعون/ الدولة ، م.ق.إ. العدد 15 لعام 2003 م2 ص608)، وقرار المحافظ بالإقالة الحكمية لعضو المجلس البلدي سنداً لأحكام المادة29 من قانون البلديات، يعتبر من القرارات الإعترافية أو الإعلانية التي تكرِّس الاستقالة الحاصلة بحكم القانون(م.ش. قرار رقم246/ 2006-2007 تاريخ 29 كانون الثاني 2007، إيلي هيكل/ الدولة- وزارة الداخلية والبلديات، مجلّة العدل عدد 2007/2 ص663).
وإذا طبّقنا هذا المنطق على قرارات مجلس القضاء الأعلى بخصوص التشكيلات القضائية، نقول إنّ القرار النهائي الملزم هو قرار هذا المجلس، أمّا المرسوم فهو أداة الإعلان عن هذه التشكيلات كما هو، أي المرسوم، الأداة المستخدمة في كافة الشؤون الوظيفية بما فيها شؤون القضاة، بحيث لا يشكّل صدور التشكيلات القضائية بموجب مرسوم مساساً باستقلالية القضاء، وينطبق عليه ما ينطبق على تعيين القضاة المتدرّجين حيث يقتصر المرسوم على إعلان أسماء الناجحين في المباراة التي أجراها معهد الدروس القضائية، وأنّ صلاحية الإدارة بإصدار هذه المراسيم هي صلاحية مقيّدة، وهذا التقييد لا يشكّل عيباً أو منقصة لرجل الإدارة، بل على العكس هو سموٌ في الأداء من خلال إعلاء مبدأ المشروعية واحترام القانون، وهذه السلطة المقيّدة ليست حالة خاصة بالتشكيلات القضائية، بل هي معتمدة في كافة دول العالم التي تقرّر منح رجل الإدارة إمّا سلطة مقيدّة أو سلطة استنسابية في اتخاذ القرار.
ولهذا عندما قرّر المشترع أنّ قرار مجلس القضاء الأعلى بخصوص التشكيلات القضائية هو قرار نهائي ملزم، فلا يعود أمام السلطة الإدارية إلاّ إعلان هذه التشكيلات بموجب مرسوم أيّاً كانت تحفظّاتها على مضمونه. ولهذا كان الامتناع عن توقيع مرسوم التشكيلات القضائية هو خطأ يتيح لمجلس القضاء الأعلى ولأيّ من القضاة المعنيين أن يطعن بقرار رفض توقيع المرسوم أمام مجلس شورى الدولة لعلّة تجاوز حد السلطة.
* أستاذ القانون الإداري والدستوري في الجامعة اللبنانية.
“محكمة” – الأربعاء في 2020/6/10