الصحفيون والقضاء: التمييز وارد ولكنْ/ علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
ليس من حقّ الصحفيين أن يتغيّبوا عن جلسة تحقيق أمام القضاء، لأنّ المساواة أمام القانون تقتضي أن يحضر الجميع وبملء إرادتهم للإدلاء بإفاداتهم سواء أكان استجواباً أو استماعاً، وسواء أكانوا مدعى عليهم أم شهوداً، فمهنتهم لا تعني أنّهم فوق القانون، أو أكبر من العدالة، وما دام الواحد منهم اقترف ما يخالف قانون المطبوعات، سهواً، أو قصداً، أو عن قلّة انتباه، فالقضاء هو المكان الصحيح والصريح للإعتراف أمامه لكي تأخذ العدالة مجراها، وليست شاشات التلفزيونات والعنتريات الإعلامية التي تزيد الهوّة ولا تعالج المشكلة الرئيسية.
والحضور أو المثول أمام القضاء ليس منقصة ولا مذمّة، ولا علاقة له على الإطلاق بالحرّيات الإعلامية وحرّية الرأي والتعبير، ولا يمسّ بالكرامات، وما دامت الكرامة غالية إلى هذا الحدّ، فالواجب إذن، يقتضي الإلتزام بآداب المهنة إنْ لناحية التعبير والكلام، أو لجهة التحدّث مع الآخرين ومخاطبتهم، وليس هنالك أيّ رابط بين تلبية الاستدعاء القضائي والحرّيات الإعلامية، لا بالعكس، فإنّ الإمتناع عن تنفيذ القانون هو ضرب للحرّيات يؤذيها ويعرّيها ويقوّضها، لأنّ حصانة الحرّيات مستمدّة من قوّة القانون، ولا فرق بين الحرّية والعدالة، وكلّما كان الإنسان حرّاً، كان أقرب إلى العدل.
وما دام القانون الواجب التنفيذ يطال الجميع، فلا يجوز أن يحصل تمييز بين الصحفيين، مهما علا شأن بعضهم وخفت شعاع بعضهم الآخر، فالجميع سواسية أمام القانون حقوقاً وواجبات، وعليه، فإنّ هناك حالات كثيرة عن استدعاء صحفيين إلى الفصائل والمخافر والمباحث الأمنية نتيجة تحرّك الحقّ العام ضدّهم، أو بسبب وجود شكوى أمام النيابة العامة التمييزية ضدّهم.
وهناك، أيضاً، حالات عديدة عن تجاوز صحفيين مرحلة المرور أمام الضابطة العدلية بإشارة من النيابة العامة التمييزية نفسها على مختلف العهود والحقب السابقة، ومثولهم أمام محام عام تمييزي لسماعهم في مآل الشكوى المقدّمة ضدّهم، وذلك بغضّ النظر عن صحّة مضمونها أو عدم ركونها إلى الحقيقة.
ففي أحد أيّام العام 2006، أوعز مدعي عام التمييز الأسبق سعيد ميرزا لقاضيين الإدعاء عليّ، بعدما كتبت سلسلة مقالات في جريدة “السفير” عن وجود نيّة سياسية لدى فريق سياسي للهيمنة على مجلس القضاء الأعلى بعدما نجح عبر الدكتورين بهيج طبارة وخالد قبّاني في إيصال القاضي أنطوان خير إلى رئاسة هذا المجلس، وكان يريد ضمان تمرير كلّ القرارات بإجماع ومن دون وجود اعتراض ما أو محاولة عرقلة، أو مجرّد التفكير بالتصدّي لأيّة هيمنة مرتقبة.
المهمّ، أنّه تمّت إحالتي على قسم المباحث الجنائية المركزية للتحقيق معي في “التهمة” الكبيرة التي وجّهتها ومن بينها قولي إنّ أحد التيّارات السياسية يسمّي هذين القاضيين الشيعيين، باعتبار أنّ كلّ التعيينات في لبنان تجري بإيعاز سياسي وبتسميات من الأحزاب الموجودة في السلطة والسياسيين القابضين على مراكز القرار، وهذا يحصل في العلن وليس خافياً على أحد، لا بل هناك من يفاخر بأنّه استلم منصبه بدعم من هذا الفريق أو ذاك.
وحضرت كما أفعل كلّ يوم بالمجيء إلى قصر عدل بيروت، وأدليت بأقوالي ولم أنزعج، ولم أغضب، ولم أشتم، ولم أتصل بأحد لكي يؤازرني أو يثير الرأي العام تحت عناوين برّاقة عن حرّيّة الإعلام، علماً أنّني كنت أملك ممسكاً قانونياً يؤكّد ما كتبته، وكنت في صحيفة يومية لها كلمتها المسموعة في الوسط السياسي والإعلامي ولدى الرأي العام، ولم أستعمل هذا السلاح القوّي مع أنّني كنت مقتنعاً بوجود افتراء ضدّي.
كان ميرزا يريد إسكاتي لئلاّ أفضح الكثير من الممارسات التي تحصل في الخفاء، ولئلاّ أكتب حقائق أمور قبل طمسها، وخصوصاً في جريمة 14 شباط 2005، وكانت النتيجة أن ذهب هو إلى بيته، وبقيت أنا في العدلية، أكتب وأجاهر بآرائي ومواقفي ومن دون قيود..
ولا شكّ أنّ تمييز النيابة العامة التمييزية في المعاملة بين الصحفيين موجودة ومقصودة، فالقريب منها أو من خطّ النائب العام سياسياً، يحال، على مضض، على محام عام تمييزي لسماع أقواله، مع فنجان قهوة وضيافة وابتسامات، والبعيد عنها أو من يعارضها بسبب أخطائها وطريقة أدائها وليس لأسباب شخصية، يحال على قسم المباحث الجنائية المركزية الذي يعمل بإشراف هذه النيابة العامة، ويجري التعامل معه بطريقة مغايرة وكأنّه هدّد الأمن القومي.
إنّ القانون لا يمنع الإستماع للصحافيين في المخافر، ولا يحصر هذا الأمر بقاضي التحقيق الأوّل كما قال النائب المحامي بطرس حرب بعدما ادعى أنّ قاضي التحقيق الأوّل في جبل لبنان نقولا منصور رفض أن يستلم منه مذكّرة دفوع شكلية في قضيّة ملاحقة الإعلامي مارسيل غانم، والقانون لم يميّز الصحفيين عن سواهم، بل هي ممارسات من أهل “القضاء الواقف” الذين يأتمرون بقرارات السلطة السياسية بلا هوادة ويعتقدون واهمين بقدرتهم على ترويض الكلمة وصنّاع الرأي العام.
وما دام هناك استثناء قديم منذ العام 1992، ولا يزال معمولاً به، يحصر استجواب المحامي بقضاة النيابة العامة والتحقيق على أن يقتصر دور الضابطة العدلية في حال ارتكاب أحد المحامين جرماً مشهوداً، فحري بأن يشمل هذا الأمر كلّ المنضوين والعاملين في نقابات المهن الحرّة، فيتساوى الصحفي والمحامي والطبيب والمهندس إنطلاقاً من مبدأ المساواة أمام القانون.
لذلك كلّه، فإنّ الصحفي والإعلامي الواثق من نفسه يمثل أمام القضاء، أمّا ذاك الساعي إلى صنع بطولات وهمية سرعان ما تذوب، فليس أمامه سوى الحضور إلى القضاء وإثبات حقّه حتّى ولو كان مدعى عليه زوراً وبهتاناً، لأنّ القضاء يحمي الجميع بغضّ النظر عمّا إذا كان القانون مطّاطاً، وعمّا إذا كانت إمكانية استباحة أحكام القانون فكرة غير قابلة للشكّ بفعل المخزون الهائل الموجود في أرشيف ذاكرة الرأي العام.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 27 – آذار 2018- السنة الثالثة)