الفساد في القضاء: أسفار وسيجار وقمار ونساء/علي الموسوي
كتب علي الموسوي
يفترض ألاّ تنتهي حملة مكافحة الفساد في القضاء العدلي بإصدار المجلس التأديبي للقضاة على مراحل زمنية مختلفة، أحكامه بحقّ خمسة قضاة محالين إليه، إذ إنّ ما تضمّنته التحقيقات الأوّلية مع السماسرة والأشخاص المشبوهين المعروفين المخلى سبيلهم والموقوفين لدى “فرع المعلومات” في قوى الأمن الداخلي وهيئة التفتيش القضائي، من اعترافات بالجملة والمفرّق، لهي أخطر بكثير على المسار القضائي العام من هذه المحاكمات ونتائجها غير المقنعة، لا بل هي أهمّ وبكثير من هذه المحاكمات التي توجّت بأحكام متفاوتة وصفها قضاة في مجالسهم بـ”غبّ الطلب”، أو بالأحرى “a la carte”!
فعادةً، تُدرس الوقائع المعروضة في الملفّ بجدّية تامة، وتحدّد الفقرات والسطور المُنتجة منها للإمساك بالمخالفة والجرم، وتطبّق عليها القواعد القانونية المطلوبة، إلاّ في ملفّات بعض القضاة المحاكمين والموضوعين على لائحة المحاكمة، فإنّه جرى تفاوت واضح في تنفيذ هذه الطريقة التي يحفظها طلاّب كلّيات الحقوق عن ظهر قلب، إذ جرى انتقاء بعض الوقائع واستبعاد أخرى قد تكون أكثر أهمّية، ووضعت معايير غير دقيقة في مقاربتها، وإلاّ كيف يفسّر المجلس التأديبي للقضاة أخذه بإنكار قضاة لوقائع محدّدة تتعلّق بتلقّي هدايا بأشكال مختلفة من السماسرة والأشخاص المشبوهين، ورفضه أن يأخذ بإنكار قضاة لحالات مماثلة ومشابهة إلى حدّ التطابق مع اختلاف في أسماء السماسرة والأشخاص المشبوهين؟
فالرشوة هي نفسها سواء أتت على هيئة سُبحة أو سيغار، أو مشروب روحي، أو تلفاز، أو كرسي.
والرشوة هي ذاتها سواء قدّمت على شكل تذكرة سفر وحجز غرفة في فندق أو منتجع سياحي، أو هاتف من نوع “آيفون”، أو مسدّس.
والرشوة هي بقدّها وقديدها جرم يعاقب القانون عليه، سواء أكانت صينية شوكولا، أو ساعة يد، أو تأمين مبلغ مالي، أو تسديد شيك مصرفي زهيد بدلاً عن القاضي المديون.
عدالة ناقصة
إنّ التفاوت في العقوبات الصادرة عن المجلس التأديبي للقضاة والمؤلّف من القضاة ميشال طرزي رئيساً وأيمن عويدات وغادة أبو كروم عضوين، يدلّ على أنّ العدالة غير منصفة للقضاة أنفسهم، وعلى أنّ القضاء نفسه يتعامل بطريقتين متناقضتين ونظرتين متعارضتين مع ملفّات القضاة.
وبمعنى آخر، تعامل المجلس التأديبي مع محاكمات القضاة الخمسة وفق المثل الشعبي القائل “شتاء وصيف على سطح واحد”، وهذا ليس عدلاً على الإطلاق.
كما أنّ محاولات الإنكار المتفاوتة من القضاة المحاطين بـ”أشخاص مشبوهين” وهي العبارة التي وردت في متن بعض أحكام المجلس التأديبي، وصولاً إلى تحديد عقوبات “غبّ الطلب”، لا تتناسب على الإطلاق مع حجم الاتهامات الصريحة والواضحة والتي لا يكفي التوقّف عندها، بل العمل على إلزام القضاة بالاستقالة ولو من دون محاكمة فعلية وجديدة ومكرّرة أمام الهيئة القضائية العليا للتأديب، ذلك أنّ سمعة القضاء في أذهان الرأي العام والشعب الذي تصدر الأحكام باسمه، متدنّية، وأنّ درجة الثقة ضعيفة، ولا يمكن للأحكام الصادرة عن المجلس التأديبي إعادة هذه الثقة، بل هي وبخفاياها التي باتت متداولة في مجالس القضاة، تزيد الشرخ، وتوسم القضاء بمزيد من الضعف، وهو أمر لا يبشّر بالخير لبناء دولة القانون والمؤسّسات.
أين البقيّة؟
وعلى خطّ متوازن، لا يجوز أن يجري غضّ الطرف عن كلّ القضاة الذين وردت أسماؤهم على ألسنة السماسرة والأشخاص المشبوهين، وألاّ تتمّ محاسبتهم على ما ألصقوه بهم من اتهامات، وبعضها صحيح، وذلك لتبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فالقضاء أهمّ من القضاة المشبوهين الذين يفقدونه منعته وسمعته ويزعزعون هيبته ومكانته إذا ما ظلّوا ماكثين في أماكنهم ومراكزهم وهم استغلّوها وصرفوا نفوذهم من خلالها على أحسن ما يرام وبما يتعارض مع القوانين ومع العدالة المتوخّاة.
ليرات وملاهي
فهل من المنطقي أن يبقى في القضاء ومن دون محاكمة ومحاسبة، “زير النساء” تحديداً؟ ومن يعشق السيجار من نوع “الكوهيبا”(COHIBA) وتبلغ قيمة العلبة الواحدة حوالي الألفي دولار أميركي بعدما يحضرها السمسار له عبر صديقه من كوبا خصيّصاً؟
وهل يجوز أن يبقى في القضاء من كان يتلقّى ليرة ذهبية في عيدي الميلاد المجيد والفطر المبارك من كلّ سنة، وأحياناً مرّتين في السنة؟
وهل المناقبية القضائية تسمح للقاضي بأن يتردّد إلى ملهى ليلي، وهي التي يفترض أن تكون حدودها السماء في الأخلاق والعصامية والنزاهة والشفافية؟
وهل من العدل أن يمكث في القضاء طويلاً من كان يقبل هدية نبتة “أوركيده” بقيمة ستّماية دولار أميركي من محلّ ” exotica” وما سبقها وتبعها من صواني فضيّة زيّنت بالحلويات والشوكولا؟
وهل المناقبية القضائية تقول بأن يترافق قضاة مع سماسرة وأشخاص مشبوهين في رحلات استجمام يتكفّل هؤلاء بدفع مصاريفها ونفقاتها عنهم؟
وهل من العدل أن يستقبل قضاةٌ السماسرةَ في مكاتبهم، ويرفضون في الوقت نفسه، الترحاب بمحام أو متقاض جاء مراجعاً في ملفّه، أو يدخلونه إليهم بامتعاض ومع “تربيح جميلة”؟
وهل يكون مفيداً لسمعة القضاء أن يقوم سمسار بتجهيز مكتب قاض من كلّ النواحي والجوانب واللوازم والمستلزمات بدءاً من الدهان والبلاط، ومروراً بالطاولة والتحف والتلفاز واللوحات، وانتهاء بالستائر والكاميرات؟
هدايا قيّمة
هل هذه الخدمات مجانية وليست على حساب الناس ومصالحهم وعلى حساب سمعة القضاء برمّته؟
أليس موجعاً للعدالة أن يستقبل قضاة أشخاصاً مشبوهين في منازلهم حضروا بكامل هداياهم القيّمة؟
أليس مؤلماً لصورة العدالة أن يُحْضِرَ سمسارٌ نساء إلى صديقه القاضي ويعطيه مفتاح الشاليه للإستمتاع معها وبها؟
أليس مخجلاً للعدلية أن تكون مرجعية قضائية سابقة تحاضر في العفّة القانونية ليلاً نهاراً، مفتاحَ تعرّف سمسار إلى قضاة آخرين وتوطيد علاقته بهم لتحقيق مآربه بالحصول على خدمات متنوّعة وتقوية نفوذه واستمالتهم مقابل هدايا تتدرّج بحسب فاعلية القاضي وقيمة الملفّ، من صواني حلويات وشوكولا، إلى زجاجة “كونياك”، وليرات ذهبية، إلى علب سيجار، وتذاكر سفر، وحجز غرف في فنادق عربية وأوروبية وأميركية؟
كيف يقال لقاض أنّه “فاقد للأهلية الوظيفية” وتبقيه هيئات التفتيش القضائي ومجالس القضاء الأعلى على اختلاف عهودها، في مركزه، لا بل في القضاء برمّته؟
وكيف يبقى في القضاء أيضاً قاض تظهر عليه مظاهر “مادية مثيرة للريبة” بحسب العبارة الواردة في ملفّه لدى التفتيش القضائي؟
وهل يعقل أنّ سمساراً يحضر كرسياً لقاض لأنّ “القعدة مش مريحة” خشية أن يصاب ظهره بأيّ مكروه لا يعود معه قادراً على إحقاق الحقّ؟
أليس رخيصاً القاضي الذي ينتظر تأشيرة دخول إلى بلد ما في العالم، من سمسار، وقيمتها مهما ارتفعت حفنة من الدولارات؟
ألا يفقد القاضي مكانته الإجتماعية عندما يدخل إلى كازينو لكي يلعب الميسر والقمار؟
أليس القمار جرماً يعاقب القانون عليه بحسب الفصل الثالث من الباب العاشر من قانون العقوبات اللبناني؟ وهل من فارق في تغيير صفة القمار إذا ما حصل في كازينو لبنان، أو في كازينوهات لاس فيغاس، وكان، ونيس، وبلاروسيا، وقبرص التركية؟
وهل القاضي مضطرّ إلى تجربة حظّه في لعب القمار بمئة دولار ينقده إيّاها سمسار وشخص مشبوه؟
أليست كلمة “مشبوه” معاكسة لكلمة “قانون”؟ فكيف يتخلّى القاضي المؤتمن على إحقاق الحقّ عن القانون لمصلحة المشبوه، مع ما تعنيه هذه العبارة من مضار بصحّة العدل والعدلية؟
هل كلّ هذه الهدايا كانت تقدّم بالمجان ودون أيّ منفعة في المقابل؟
طبعاً لا.
لقد كانت لدى الشخص المشبوه وهو سمسار من الدرجة الأولى، طموحات سياسية لانتخابه نائباً عن الأمّة على غرار كثيرين سبقوه إلى دخول الندوة البرلمانية في حقبات زمنية مختلفة، فيضطرّ إزاء الرغبة الجامحة لتحقيق حلمه المأمول، إلى إجراء خدمات للناس تقوم على مراجعة ملفّاتهم ودعاويهم لدى القضاء، وصولاً إلى تحديد الحكم والعقوبة، فهل هذا التصرّف يتساوى مع العدالة الحقّة؟
ولم يكن الفساد حكراً على القضاة العاملين، بل طاول من صار متقاعداً ومنهم من كان مرجعية وفي مراكز متقدّمة في القضاء العدلي، إذ لا يمكن للعقل أن يتقبّل فكرة مساهمة سمسار ثري في دفع تكاليف عرس نجل هذا القاضي، وقد وصلت مساهمته العينية إلى مبلغ عشرين ألف دولار أميركي.
وهل من العدل أن يحاكم هذا السمسار أو ذاك، دون القضاة الذين كانوا يلبّون الطلبات الجامعة والجامحة، خلافاً للقانون وللقسم القضائي؟
المنطق يقول بمحاكمة الإثنين معاً وبطرد القضاة الفاسدين من القضاء لكي يستطيع هذا القضاء أن يطالب بأن يكون سلطة مستقلّة وفاعلة.
القضاء والحراك الشعبي
ولا يمكن للقضاء أن يجاري الحراك الشعبي العارم والناقم على الفساد السياسي والإقتصادي، وعلى النهب المنظّم للمال العام، وعلى الإثراء غير المشروع، وعلى التهرّب الضريبي، وعلى كلّ أنواع وأشكال وصور الفساد المستشري منذ سنوات، من دون أن يقوم هذا القضاء بتنقية ذاتية قاسية تقضي في الدرجة الأولى، بإبعاد المشبوهين، فيستعيد هيبته ويُسمع صوت مطرقته لكلّ أرجاء لبنان، ويتغلغل صداها المدوّي في آذان المسؤولين والشعب، فالمساواة، هنا، أفضل أركان العدل.
نحن لا نتحدّث هنا، عمّا يعطّل مسار العدالة أو يؤخّر النظر في دعاوى الناس، وتتشارك القوانين في إحداث بعضها لغاية في نفس المشرّع السياسي الذي لا يفقه في القانون شيئاً، ولذلك فهي بحاجة ماسة إلى تعديلات جذرية تعيد الحياة والبهاء إلى دعاوى بعضها يغطّ في نوم عميق، بل نحن نتحدّث عن فساد يعوّق العدالة، والمعالجة لا تكون بالتفرّج، بل بالكيّ والاستئصال.
من غير المقبول أن تتمّ إزاحة القضاة الفاسدين عن مراكزهم والذين تؤكّد اعترافات السماسرة ارتكابهم جرائم يعاقب القانون عليها، في التشكيلات القضائية المنتظرة وحسب، بل يجب إلزامهم بتقديم استقالاتهم فوراً، لأنّ سمعة القضاء أهمّ بكثير من هذا القاضي أو ذاك ممن سوّلت لهم أنفسهم زعزعة ثقة الناس بالقضاء إرضاء لنزاوتهم وهم في الأصل ليسوا مؤهّلين أخلاقياً لكي يكونوا قضاة، بمرتبة من ولّي القضاء على مرّ التاريخ من رجالات كبار حفرواً أسماءهم ومواقفهم في صخر الحياة وباتت على كلّ شفة ولسان.
مجابهة العظائم
نعم، العدالة حزينة وغاضبة..
لكنّنا لن نتركها تبكي لا دمعاً ولا قهراً لأنّها تعنينا وتحمينا..
حتّى ولو أصبح القضاء سلطة مستقلّة فعلاً وقولاً، وهذا ما يتمنّاه الناس وأصحاب الحقوق، فإذا بقي قاض واحد محاطاً بمشبوهين، فلن يكون القضاء سلطة على قدر آمال الناس وثقتهم.
إذن، ليجمع مجلس القضاء الأعلى برئاسة القاضي سهيل عبود، هؤلاء القضاة الفاسدين، وهم معروفون بالأسماء، ويطلب منهم الإستقالة، وذلك من أجل قضاء أفضل، ومن أجل وطن راق وقادر وعادل وأكثر إنصافاً ومساواة، ولكي يكون وطناً للجميع ومن دون استثناء.
وكما قال يوماً الأديب الكبير مارون عبود “أبو محمّد” والد القاضي الراحل نديم عبود وجدّ القاضي سهيل عبود: “إنّ مجابهة العظائم تتطلّب أعصاباً لا ترتجف ولا ترتخي”.
فهل يُعاد الألقُ إلى العدلية في عهد سهيل عبود؟
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية ودور النشر والمكتبات منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتصوير أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” وتبادله عبر مواقع التواصل الإجتماعي وتحديدًا منها “الفايسبوك” و”الواتساب”، ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.