القاضي جان فهد( الرئيس الأوّل لمحكمة التمييز ورئيس مجلس القضاء الأعلى*):
فخامة الرئيس للمرّة الثانية هذه السنة – والثالثة منذ بداية عهدكم – نتشرف باستقبالكم في قصر العدل ، محاطاً بدولة رئيس مجلس النواب المحامي الاستاذ نبيه بري ، ودولة رئيس مجلس الوزراء الاستاذ سعد الحريري ، فتؤكدون بذلك، مرّة جديدة حرصكم على مشاركة السلطة القضائية المحطات الأساسية في مسيرتها لاحقاق الحق وتعميم العدالة. وكما أكدتم في كل مناسبة حرصكم على استقلالية السلطة القضائية ، تجددون اليوم بوجودكم معنا في المئوية الأولى لمحكمة التمييز ثقتكم بهذه السلطة التي تنظر إليكم مدافعاً عن حقوقها، محافظاً على تجرّدها، وحريصاً على وحدتها ، ساعياً دائماً إلى تشجيع التفاهم والحوار والاصغاء بين أفراد اسرتها. فأهلاً بكم فخامة الرئيس وصاحبي الدولة والحضور الكرام.
كانت الدنيا على غَلَيان، وعلى مشارِف التحوّلِ السياسيِّ والكيانيِّ والإداريِّ، يومَ شَهِدَتْ بيروت إنشاءَ محكمةٍ عليا، في السابع عشر من شهر حزيران عام 1919. كان منشئُها أحدَ المسؤولين العسكريين الكبار في الجيش الفرنسي النّازِلِ في ديارنا، الكولونيل ليونيل كوبان Leonel Copin الذي شاءَ أن يخفّفَ الأعباءَ القضائية عن أبناءِ هذه المنطقة، المُنهَكين أصلاً لغيرِ سبب، فنقَلَ، بريشةٍ رؤيويّة حاسمة، مركز المراجعة التمييزية من استامبول إلى بيروت، ومن عهدٍ بائدٍ إلى فجرٍ جديد.
هذا المتطلّعُ إلى المستقبل، المسكونُ بثقافةٍ قانونيّةٍ تَحدَرتْ إليه من إرث نابوليون التاريخي، لم ينتظرْ حلَّ المسائلِ المصيريّةِ الشائكة التي خلَّفتْها الحرب، والتوافقَ على الهندسات السياسية التي يفرضها المنتصرون، فسارعَ الى تقديمِ هاجِسِ العدالة على سواه، خصوصاً وأنّ المؤسّسةَ المُنشأة هي محكمةُ التمييز، رأسُ الهرم في المنظومة القضائية، وصمّامُ الأمان في سياقِ حكم القانون، وغربالُ الاجتهاد ورَمزُ وحدتِهِ وفاعِليّتهِ وتطوُّرِهِ. أَجلْ، سارعَ إلى إطلاقِها قبل إعلانِ دولةِ لبنان الكبير. وبذلك قدّمَ العدالةَ على السياسة، لأنّه إذا كانت السياسة تحتملُ المداولةَ والحوارَ والأخذَ والعطاءَ بلا حدود، فالعدالةُ حاجةٌ في المجتمعات المتحوِّلةِ والمستقِرَّةِ، في السكونِ وفي الغَلَيان، في الحربِ وفي السّلم.
***
نشأتْ محكمةُ التمييز آنذاك، وتطوّرتْ، وتعرَّضتْ في بعض المراحل للإلغاء، ثمّ استقرّت على ما هي عليه اليوم، بتنظيماتها، واختصاصاتها، ودورِها المُسهِمِ، لا في مراقبة مدى تقيّد محاكمِ الأساس بالقانون فحسب، بل كذلك في إدارةِ التنوّع في النسيج اللبناني، حيثُ تتمتّعُ الجماعاتُ الدينيةُ بامتيازاتٍ تشريعيّة في ميدان الأحوال الشخصيّة، تليها امتيازاتٌ قضائية تُسفر عن إصدار قرارات قد لا تراعي الأصولَ الجوهريّة أو مقتضى النظام العام، فتعمدُ الهيئة العامة لمحكمة التمييز إلى إبطالها.
إنّ محكمتنا العليا، على ما واكبَ نشوءَها وترسيخَ بُنيانِها الأول من أيدٍ فرنسيّةٍ مشكورة، وعلى ما بينها وبين محكمة التمييز الفرنسية من قرابةٍ أو تشابهٍ في بعض الوجوه نظراً لانتماء المحكمتين الى أسرةِ القانون المكتوب… إنّ هذه المحكمة وُلِدتْ ونَمَتْ ونَضَجتْ في الشرق العربي، ولفحتْها رياحُ موروثِهِ الثقافي، لغةً وجوهراً. كما سَوَّرها وجدانُ الشعب اللبناني فجاءت على صورتِهِ، متعدّدةَ المنابع، موحّدةَ التطلّعات، حريصةً على أن تستظلَّ وإيّاه حكمَ القانون، مرجِعاً وسقفاً جامعاً.
إنّ تقدُّمَ تاريخ إنشاء محكمة التمييز على حدثٍ بالغِ الأهميّة هو إنشاءُ دولة لبنان الكبير، أو نشوءَهما المتقاربَ في الزمن، يُثبتُ أنْ لا نهضةَ للمجتمع، ولا حياةَ له، ولا روحَ مصالحة، ولا شيوعَ عدالة، ولا صونَ لأيّ حق، من الأعلى إلى الأدنى… إلّا بوجودِ قضاءٍ على مستوى الأمنيات، والحاجات، والصِّعاب، والانتظارات.
إنّ محكمتَنا، وقضاءَنا، وكلَّ ما يمتُّ إلى دولة الحق وحكم القانون بصلة، هي أمام مجموعة من التحدّيات.
من هذه التحدّيات، أنْ نجدّدَ الدور المنوطَ بالمحكمة العليا بشأن استقرار الاجتهاد. ولتحقيق هذا الهدف لا بُدَّ من حوارٍ في العمق مع محاكم الأساس، ومن تعميم ثقافةِ المداولة في البيت القضائي الداخلي. محكمةُ التمييز هي الأرفع، ولكنّ هذه الرِفعةَ تزدادُ إذا شَرّعتِ الصدرَ لاستيعاب الدور المعطى لسواها في المنظومة القضائية.
ومن التحدّيات كيفيّةُ توفيقِها، بمهارةٍ وواقعيّةٍ وتوازن، بين سيادةِ القاعدة القانونية الداخليّة وسموّ المعاهدات الدوليّة.
ومنها المرونةُ في كيفية مواكبة ثورة التواصل الاجتماعي التي تفسح في المجال لنقدٍ مستفيض يتناول الأحكام القضائية، نتقبّلُهُ بكلّ ترحاب شريطةَ أنْ يراعي جانبَ الحقيقة وجانبَ حسنِ النيّة.
ومنها الموازاةُ بين حقِّ المتقاضي في المراجعة التمييزية وواجبِ مراعاة مبدأ التقاضي على درجتين، وبين تجنّب إغراق محكمة التمييز بمراجعات لا طائل يُرجى من ورائها.
ومنها التنسيقُ مع نقابتي المحامين الموقّرتين لتشجيع الأساتذة المحامين على الاتجاه الى التخصص في مجال التمييز، على أن يتمّ، بموازاة ذلك، تدريبُ القضاة الحديثي العهد في التمييز على التقنيات الخاصّة بهذه المحكمة.
ومنها العملُ على تطوير سلك المساعدين القضائيين عدداً وتدريباً، وتجهيزُ الأقلام لتواكب مقتضيات السرعة والأمانة والحداثة.
ومنها رسمُ سياسة عامة تتعلّق بمسار المراجعة التمييزية وتحديد مهلةٍ زمنية قصوى لفصلها.
ومنها الوصول الى اللحظة الكبرى… اللحظة التي يحظى القضاء فيها، كلُّ القضاء، بثقةِ المجتمع. وطالما أنّ الثقة مصابة، فهذا يعني أنّنا لم نصلْ بعد الى عدالة مُثلى.
منذ العهدِ التمهيدي الذي سبق إعلان دولة لبنان الكبير، إلى عهدكم يا فخامةَ الرئيس… لا يزال هاجسُ العدالة في الصّدارة. يُدركُ الجميع أنّ ثمّةَ في تصوّركم الدولةَ القادرةَ والعادلة الكثيرُ ممّا يتعلّقُ بصون القضاء، بدورهِ، بتطويرِهِ، باستقلالِهِ، وبأمانِ القضاة الاجتماعي وتطلّعاتهم المشروعة التي تمكّنهم من ممارسة المهام الجُلّى الملقاةِ على عواتقهم. ويُدرك الجميع أنكم لا ترونَ دولةً قويّة، حرّةً، عادلة، إلّا إذا كان قضاؤها آمِناً ومؤتَمَناً على وديعةِ العدالة، بجذورها السّامية وبمفاهيمها الاجتماعية. هذا ما يُؤْثَرُ عنكم، وما يُرى، ونحنُ شهودٌ عليه.
إنّ للقضاءِ في لبنان، على صعيد النزوع الى التحديث، وعلى صعيد الإنتاج وكلّ ما يمتّ بصلة الى الواجب المقدّس، إسهاماتٍ شتّى لا محلّ للتبسّطِ فيها، في هذا المقام الجَلَل.
وإنّه، في موازاة ذلك، على بيّنة من مواطنِ القصور التي تعتري مسيرتَهُ. وقد تمّ وضعُ خطة تمكّنه من أداء رسالتِهِ الراميةِ الى توطيد الأمان الاجتماعي وحماية الحريّات. خِطّةٌ من شعابها العملُ على تنقيةٍ ذاتية بدأتْ، ولن تتوقف، إلى أن تبلغ غايتها القصوى.
وبالمناسبة، نذكر أنّ شبكة مجالس القضاء العليا الفرنكوفونية الموجودة معنا اليوم اختارت عنواناً لمؤتمرها الذي سيعقد يوم الجمعة المقبل “علاقة السلطة القضائية مع السلطة التنفيذيّة”.
عنوانٌ يُبشّر بأنّ استقلال القضاء الذي تحملون لواءهُ، بات محوراً عالميّاً، وهدفاً منشوداً.
مئةُ عامٍ من العدالة في لبنان؟ إنّنا توّاقون، في هذه المناسبة، إلى عدالةٍ تحضُنُ مجتمعنا ودولتنا، وتكون دائمة التجدّد.
*ألقيت هذه الكلمة اليوم، في الاحتفال بذكرى مرور قرن على تأسيس محكمة التمييز اللبنانية في قصر عدل بيروت.
“محكمة” – الأربعاء في 2019/6/12