القضاء العسكري يواجه الحراك المدني بمخالفة القانون
كتب علي الموسوي:
مرّةً جديدة تستخدم السياسةُ القضاءَ أداةً للتهويل على الناس المتظاهرين ضدّ فسادها ونُفاياتها على شتّى الصعد، وضدّ فصول العبث بحقّ اللبنانيين في العيش بكرامة وهناء، والشعور بأنّهم مواطنون أحياء لا أموات من قلّة عدم الاكتراث بوجودهم الإنساني.
وإذا كانت لازمة “القضاء الواقف” والرغبات السياسية توأمين لا ينفصلان، على ما يردّد العارفون من أهل القضاء، والمشتغلون في المحاماة، مستدلّين على ذلك بما حصل في محطّات كثيرة في المراحل السابقة من تاريخ لبنان، فإنّ ذلك لا يعني أن يقع هذا القضاء في مخالفات قانونية صريحة وواضحة، وأن يواجه الحراك المدني السلمي بمخالفة القانون المؤتمن على العمل به وتنفيذه في سبيل وطن أرقى.
فقد أخطأ مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية الدائمة القاضي صقر صقر بإحالة الأشخاص الموقوفين بالجرم المشهود في التظاهرة التي حدثت في وسط بيروت يوم الخميس الواقع فيه 8 تشرين الأوّل 2015، على قاضي التحقيق العسكري الأوّل، بدلاً من القاضي المنفرد العسكري بحسب ما ينصّ على ذلك قانون القضاء العسكري، وما دام أنّ النصّ واضح، فلا داعٍ لأيّ اجتهاد في معرض سطوعه كالشمس، والنصّ الواضح أكثر دلالةً على الواقع من استنباط اجتهادات في غير محلّها القانوني.
وتتحدّث الفقرة الثانية من المادة 30 من قانون القضاء العسكري عن أنّ القاضي المنفرد العسكري ينظر في الجنح التي لا تتعدّى عقوباتها السنة الواحدة حبساً.
غير أنّه لا يوجد تفسير آخر للتعسف في مقاضاة “المتظاهرين المشاغبين”، سوى المضي قدماً في تخويفهم لإزالة فكرة التظاهر مجدّداً من عقولهم، وعدم تكرار استباحة الساحات بالأصوات المنادية بالحرّيّة، وتوجيه رسالة إلى “الناجين” من التوقيف مؤقّتاً، بأنّ مصيركم سيكون حتماً توقيفاً مثل رفاقكم في تطهير الدولة من فوضاها وعبثية الحياة على أراضيها، لذلك إبقوا في منازلكم حيث الراحة والإطمئنان.
لقد ضبطت القوى الأمنية الشبّان والشابات المشاركين في التظاهرة المذكورة، بالحالة المشهودة وهم يصرخون في وجه الفساد لإسقاط أسبابه ومرتكبيه والمتوّجين على رأسه، وأوقفتهم وهم ينادون بأعلى أصواتهم ضدّ مسلسل هدر عمر الوطن على مذبح الفوضى في كلّ شيء غير مطابق للحدّ الأدنى من الحياة البشرية السليمة، وأحالتهم على القاضي صقر صقر، فادعى عليهم بجنح لا تتجاوز عقوبتها السنة الواحدة.
وكما هو معروف، فإنّ القضاء العسكري هو قانون إستثنائي خاص لا مجال للتوسّع في تفسيره، ولذلك، فإنّه في حالة الجرم المشهود، يحال الموقوف على القاضي المنفرد العسكري في المنطقة التي وقع فيها الجرم، ولا حاجة على الإطلاق، لإحالته على قاضي التحقيق العسكري.
وللتذكير فقط، فإنّ قانون القضاء العسكري ينصّ على أنّه في حال عدم وجود نصّ في هذا القانون، يجري تطبيق قانون أصول المحاكمات الجزائية الذي يؤكّد بشكل لا لُبْس فيه، أنّه عندما تكون العقوبة دون السنة، يخلى سبيل الموقوف حُكْماً خلال خمسة أيّام.
وكلمة حُكْماً تفرض الإلزام والإنفاذ الفوري، وليس إطالة أمد التوقيف الإحتياطي، أو تجاوز النصّ القانوني ومدلولات مضمونه وشروحاته، ولذلك كان يتوجّب على القضاء العسكري إخلاء سبيل كلّ الموقوفين في تظاهرة الحراك المدني بانتهاء اليوم الخامس على توقيفهم وعدم تركهم قيد التوقيف إلى أجل غير مسمّى، أو انتظار إشارة السلطة السياسية الخائفة على مصيرها ومشاريعها، أو استخدام التوقيف فزّاعة لمنع تكرار النزول في تظاهرة أخرى، والتعبير عن الرأي في ما يتعلّق بالمجتمع والبيئة والدولة ومستقبل الوطن وأبنائه والحياة فيه، فالفترة الزمنية محدّدة قانوناً في المادة 113 من قانون أصول المحاكمات الجزائية والتي تنصّ على أنّه “إذا كانت الجريمة من نوع الجنحة، وكان الحدّ الأقصى للعقوبة لا يتجاوز الحبس مدّة سنتين، وكان المدعى عليه لبنانياً وله مقام في لبنان، فيخلى سبيله بحقّ بعد انقضاء خمسة أيّام على تاريخ توقيفه(…)”.
وكان يتوجّب على المعنيين في القضاء العسكري التمييز بين حالات الأشخاص الموقوفين وعدم سوق أيّ منهم بجريرة سواه في حال وقوعها وثبوتها، بالإضافة إلى التفريق في ملفّاتهم ونوعية الجنح المنسوبة إليهم، فمن أصاب الآليات العسكرية بأضرار مختلفة من جرّاء رشقها بالحجارة على سبيل المثال، أو اقتلع وأزال الشريط الشائك أو الشائن والأمر سيّان، يختلف وضعه عمن شارك في التظاهرة للاعتراض على تردّي الوضع المعيشي والحياتي والاقتصادي، مع الإشارة إلى أنّ هذا الشريط “المقدّس” ليس من عداد الأدوات والآلات والأعتدة العسكرية التي يحظّر المساس بها، وليس داخلاً ضمن الممنوعات والأسلحة، كما أنّ إزالته، أو ترقيصه، لا يعتبران تعكيراً لمزاج الدولة، بل الإبقاء عليه هو إساءة إلى سمعة الدولة في الداخل والخارج في آن معاً.
كما تختلف طريقة الإحالة على القضاء ونوعية القضاء الصالح للنظر في أمر الموقوف ومصيره، فمن أصاب القوى الأمنية من عسكريين وآليات بجروح وأذى جسدي وأضرار مادية، وتصدّى لهذه القوى وقاومها بالشدّة والعنف، يحال على القضاء العسكري حتماً، بينما يحال الآخرون “الغاضبون بصمت”، على القضاء العدلي، وذلك نظراً للولاية العامة للقضاء العدلي، ولأنّه هو الأصل، بينما القضاء العسكري إستثنائي ومحدّدة ولايته، ويجب ألاّ تعطى أكثر من حجمها المنصوص عليه قانوناً.
ونظراً لآلية العمل في القضاء العسكري المعفى أساساً من تعليل الأحكام وبيان الحيثيات، وهذا من سلبيات هذا القضاء، كما هو معمول في القضاء العدلي، فإنّ توقيف الناشطين والناشطات في الحراك المدني، هو مناسبة ليس للمطالبة وحسب، وإنّما لكي يصار إلى تعديل النصّ لجهة حصر ولاية القضاء العسكري واختصاصه بجرائم العسكريين على اختلافها، والأشخاص المتهمّين بجرائم الخيانة والتجسّس والتعامل والتواصل مع العدوّ، والإنخراط في منظّمات إرهابية، والتآمر مع أيّ طرف أجنبي ضدّ أمن الوطن والمواطن، وعدا ذلك ليس لمصلحة القانون، واستمرار القضاء العسكري على النحو الذي يخالف فيه القانون.
• أخلى القضاء العسكري سبيل الموقوفين في تطاهرة الثامن من تشرين الأوّل 2015، على دفعات بعضهم ضمن المهلة القانونية المسموح بها لتوقيفهم إحتياطياً، وبعضهم الآخر تجاوز توقيفُه هذه المدّة الزمنية، وردّ قاضي التحقيق العسكري الأوّل رياض أبو غيدا طلبي إخلاء سبيل الناشطين وارف سليمان وبيار حشّاش، وهما كانا الأخيرين في قائمة الموقوفين، فما كان من وكلاء الدفاع عنهما إلاّ أن ميّزوا قراره أمام محكمة التمييز العسكرية بوصفها هيئة إتهامية، فقرّرت بعد اجتماعها برئاسة القاضي طاني لطوف يوم الإثنين الواقع فيه 19 تشرين الأوّل 2015، فسخ قرار أبو غيدا، وإخلاء سبيليهما، فخرجا على التوالي، إلى الحرّيّة، من نظارتي مخفر الرملة البيضاء، وثكنة الحلو في محلّة مار الياس في بيروت.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد الأوّل – تشرين الثاني 2015).