القضاء بين مقتلين.. المآدب والمرافقات/سامي منصور
كتب القاضي سامي منصور*:
دائرة قانونية من الجهة السياسية من هنا، ودائرة قانونية من جهة سياسية من هناك، وما أدراك ما الجهات السياسية في لبنان، ممثّلين بمحامين يَدعون بكلّ احترام قضاة الدولة إلى حفلات ومآدب عامرة يتنافس هؤلاء على حضورها، ويتباهون ويتصوّرون ويعرضون صورهم بكلّ فخر واعتزاز على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، ولا ينقص إلاّ عرضها في صالات العرض وشاشات التلفزة!
لا زلنا يا زملائي، نمارس نفس الارتكابات. ونحقّق ما كُتِبَ من فترة قريبة على صفحتي على موقع “الفيسبوك” أنّ الخوف على القضاء هو من مقتلين:
– المقتل الأوّل هي هذه المآدب المشرّعة التي يلبّيها القضاة بسبب أو دون سبب حتّى أصبحت نمط حياة لا من يسأل من جهاز تفتيش، ولا من يهتم من مجلس القضاء.
– المقتل الثاني هو هذه المرافقات التي هي أيضاً، بسبب ودون سبب من رأس الهرم القضائي إلى قاعدته حتّى أصبحت سيرةً عند صغار النفوس .
القاضي يا سادة، لا يجوز أن يكون جمهوراً لأحد. وتزويد القضاة بالعسكر هي وسيلة مبتذلة وخبيثة، لا تهدف إلى حمايتهم – فمن يحمي من – الدعوة إلى مآدب “كعزيمة الانسان لادارة الطاحونة”، والمرافقة العسكرية للقضاة لم تكن يوماً في زمن القضاء من مناقبيتهم وتاريخهم! فالقاضي الذي عرفناه، سلاحه العلم وحمايته استقلاله ونظافته!
السلاح والمرافقة لم تكن يوماً مصدراً لهيبة القاضي، وإنّما هيبته يفرضها بعمله وباحترام الناس له . بل إنّ المرافقة طالما قلّلت من قيمة القاضي وأفقدته الكثير من الهيبة والاحترام. وكلّما زاد مرافقوه من العسكر، كلّما قلّ من يحترمه من المدنيين والعسكر!
إنّ الذي دفعني إلى هذه الكتابة، هي ما أقرأه في الصحف من إعلانات تجارية وسياسية، وما أشاهده على شاشات التلفزة وعلى وسائل التواصل الإجتماعي من مشاهد مؤذية لصور وعروض لقضاة يفترض أن يكونوا في مكان آخر يختلف، جذرياً وكلّ الإختلاف عن مقاهي السياسيين والمطاعم السياسية عملاً بقاعدة “لكم دينكم ولي ديني”، “والله يسعدكم ويبعدكم.”
إنّ زجّ اسم القضاة بالسياسة وفي التعامل مع السياسيين في مسائل لا شأن لهم بها، إنّما هو، خاصة في لبنان وكما عوّدتنا التجربة، كمن يزرع نبتة طاهرة في غير أرضها أو كمن يجلب “الهمّ ” إلى كرمه!
أنا لا علاقة لي بما يتصرّف به أهل السياسة، فدعوتهم للمآدب دعوة كريمة وهي من صميم العادات والكرم اللبناني ومن باب العلاقات الاجتماعية، ولكن علاقتي هي بأهلي في القضاء. إنّ التعامل مع السياسيين لا يكون إلاّ من خلال المؤسّسة الوحيدة التي لها الدور التمثيلي للقضاء وهي مجلس القضاء الأعلى. ولا تعامل للقضاء مع السياسة وإنّ أيّ دعوة عامة من قبل أيّ مرجع أو أيّ جهة غير علمية أو قضائية للقضاة لا يقتضي أن تكون إلاّ عبر المرجع الرسمي الذي يمثّلهم قانوناً .
إنّ الخطر الذي يهدّد السلطة القضائية هو أن ينسى قضاتنا أنّ القضاء هو مهمّة رسولية، وأنّهم ضمن سلطة دستورية بموازاة السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأنّ في هذه السلطة قوانين تحكمها وتنظّم حياتها وأنّهم الأولى باحترامها! فالقاضي زملائي، سيّد ملفّه، يصدر قراره بحياد تام ودون أيّ تأثّر من أيّ جهة كانت، ولا يخضع إلاّ لضميره، فهو لهذه الناحية علماني مطلق لا يتأثّر بدين أو مذهب أو انتماء. فانتماؤه هو للقضاء، السلطة المستقلّة من ضمن سلطات الدولة الثلاث.
إسمحوا لي بجملة رومانسية تبدو كالخطاب السياسي ولكن بصدق: أنتم للبنان كلّه سيّداً مستقلاً، ولستم إطلاقاً، لأيّ جهة سياسية أو دينية أو مذهبية … تحكمون باسم الشعب اللبناني (المادة ٥٣٧ من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني) بما يفرضه القانون والمبادئ القانونية العامة والعرف والإنصاف المادة ٤ أ.م.م.). وقد أقسمنا على ذلك مرّتين: الأولى عندما عُيّنا كقضاة متدرّجين في معهد الدروس القضائية، والثانية عندما تخرّجنا من المعهد وعُيّنا كقضاة أصيلين!
هذه هي مدرستنا وهذه هي تربيتنا وما تعلّمناه من كبارنا.
فلنتذكّر جميعاً هذه المدرسة، وهذة التربية وسيرة كبارنا ولنحافظ على هذه الذكرى وعلى هذا القسم!
“محكمة” – الأحد في 2018/11/11
*رئيس محكمة التمييز المدنية شرفاً