القضاء في معرض “الشبهة” والناس تسأل!
كتب علي الموسوي:
لم يشهد القضاء اللبناني في السنوات السابقة ما حصل معه خلال النصف الأوّل من العام 2017 من أحداث وحكايات جعلته في واجهة التداول على ألسنة الشعب والرأي العام وعلى صفحات الصحف ووسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي وتحديداً “الفايسبوك” كمنبر مفتوح من دون ضوابط.
والحقيقة تقال إنّ ردّة فعل السلطة القضائية المسؤولة لم ترتق إلى مستوى هذه الأحداث من حيث التصدّي لها بالشكل القانوني المناسب، لأنّ مبدأ “موجب التحفّظ” في هكذا حالات لا ينفع، بل يفتح شهية الكلام على تأويلات لا تتناسب أبداً وموقع السلطة القضائية في ذهن الشعب الذي تستمدّ منه سلطتها وقوّتها لتفرض هيبتها وتعزّز مكانتها.
فمنذ قصّة القاضي الذي ظهر في تسجيل فيديو في وضع شائن قبل أن يُدفع إلى الإستقالة بدلاً من صرفه كما جرى الأمر مع آخرين،
إلى نيّة السلطة السياسية مدّ يدها إلى صندوق تعاضد القضاة وحرمانهم من الطبابة والاستشفاء وتعليم أولادهم،
إلى التطاول السياسي الذي رافق قضيّة توقيف المُسنّة الحاجة خديجة أسعد على خلفية خيمة أولادها الممتدة على مساحة سطح مبنى بكامله وتطاولهم على القضاء،
إلى القاضي الذي ارتكب جرم التزوير الجنائي الفاضح وهو قاضي تحقيق ورئيس محكمة جنايات وترك في منصبيه بدلاً من إقالته وصرفه فوراً،
إلى تدخّل وزير العدل سليم جريصاتي المباشر عبر وسائل الإعلام في محاكمة الضحيّة جورج الريف،
إلى استخدام بعض قضاة العجلة أداة لقمع الحرّيّات الإعلامية ومنعها من متابعة بعض الأحداث والتحقيقات القضائية،
إلى “تهريب” الفنّانة السورية أصالة نصري والسماح لها بمغادرة الأراضي اللبنانية على الرغم من العثور على ثلاثة غرامات من مادة الكوكايين بحوزتها وثبوت تعاطيها لها.
قلّة تضامنت مع القضاة في مواجهة السلطة السياسية ورغبتها الجامحة في تقليص مداخيلهم المادية وفرص تأمين الراحة النفسية والمادية لهم وبما ينعكس إيجاباً على إقبالهم على أداء واجبهم الرسالي في إحقاق الحقّ،
وقلّة اعترضت على تدخّل وزير العدل غير المسبوق بهذه الطريقة الإعلامية، من دون أن يعني هذا الأمر، أنّ وزراء العدل السابقين لم يتدخّلوا، بل فعلوها وفي غير ملفّ ولكنْ في الخفاء، ولديّ أدلّة وقرائن عن ذلك لا يرقى إليها الشكّ على الإطلاق.
وكثيرون من الناس لم يدافعوا عن القضاء عند تعرّضه لانتقادات واسعة، بل على العكس تماماً، تشارك هؤلاء في توسيع رقعة الهجوم من دون تفويت فرصة النيل من الجسم القضائي غير المسؤول عن تصرّفات المتهاونين إزاء أنفسهم من أعضائه في كلّ ما حصل معهم.
طبعاً “القضاء الواقف” غير “القضاء الجالس”، والنيابات العامة غير “قضاة الحكم”، ولكنّ أغلبية الناس وبسبب قلّة منسوب الفهم القانوني لديها للتمييز بين هذا وذاك، اعتبرت القضاء برمّته مسؤولاً عمّا حصل في قضيّة تخليص المطربة أصالة من التوقيف، ولم يزد توضيحُ النائب العام التمييزي القاضي سمير حمود الأمور بهذا الخصوص إلاّ التباساً، وهو يعرف مليّاً كما كلّ الذين يتعاطون الشؤون القضائية من قضاة ومحامين وصحافيين، أنّ النيابات العامة لا تتردّد في أحيان كثيرة، في إلحاق جرم ترويج المخدّرات بجنحة التعاطي مع من يُقبض بحوزته، على سيجارة حشيشة تكون للإستعمال والإستهلاك الشخصي و”الترويح عن النفس” في خضمّ المشاكل الإجتماعية والأمنية العابقة في أجواء الدولة اللبنانية.
لقد أصيب مفهوم المساواة أمام القانون الذي يدرّس لطلاّب الجامعات، بنكسة إزاء التفسير المعطى لقضيّة أصالة نصري، لأنّه يؤكّد بأنّ جميع الناس ومن مختلف الشرائح والطبقات متساوون أمام القانون كما الدستور، ولكنّ التطبيق العملي غير متوافق مع هذه النظرة، إذ لا يزال التعامل مع أناس يجري بغير التعامل مع آخرين وكما يقول المثل”ناس بسمنة وناس بزيت”، وهذا ما يؤذي سمعة العدالة ويجعلها عرضةً لما لا يتناسب مع رسالتها الجوهرية في إشاعة القانون على مساحة الوطن كلّه ومن دون انتقاص من حقّ أحد، ومن حقّ أيّ مواطن في الحصول على حقّه بواسطة القانون، وإلاّ فعلى القضاء والدولة السلام!.
نريد القضاء لكلّ الناس وليس للقضاء على الناس، نريده منزّهاً وشفّافاً، وليس في معرض “الشبهة” التي تتنافى ورسالة العدالة..
الناس تسأل، فهل من يجيب؟.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 20 – آب 2017).