القضاء … والبيت النظيف
كتب النقيب عصام كرم:
مجلّة بعد؟ وهل يتّسع المدى الصحافي في لبنان لجرائد جديدة ومجلاّت؟ أنا أقول نعم. لأنّ لبنان ما ضاق يوماً بالحرف، وهو مصدّر الحرف إلى العالم. لبنان بلد الرحابة الفكرية المسؤولة. بلد الكلمة. بلد الإنسان. كأنّ اللّه فتّش دائماً عن قماش يصوغ به صيغة حسنة … فكانت القافية. وكان الوتر، والنَغَم. وكان القلم … وكلّها تواضعت على أن تستوطن دنيوات الحلا، ومنها لبنان .
أهلاً وسهلاً بالمجلّة الجديدة. خصوصاً أنّها مجلّة قضائية نريد لها، في غرّة إطلالتها، صدقاً عرفناه في منشئها وجرأةً تتدرّعها لتقول الحقّ… بمقدار ما يُستطاع وبالقسط الذي يقتضيه الوفاء للعدالة.
القضاء في لبنان ليس بخير. والقضاة في لبنان ليسوا … كلّهم … خيرة قوم اختيروا للفصل في شؤون الناس، لأنّ المحاصصة الصغيرة تُعتمد في إنتقاء القضاة. وما أحدٌ يغشّ نفسه بالإمتحانات. هذه آخر وسيلة تُعتمد يوم صدور قرارات التعيين. خصوصاً إذا جاءت النتائج متعارضة مع الهوى!.
قضاء لبنان… فيه جهالة. وفيه زواريب لـ “المكرمات”. أقول هذا دفاعاً عن القضاة الصالحين، لأنّ عندنا قضاة”صالحين يقولون الحقّ والقانون.
هؤلاء يصيرون، مع الوقت، قلّة. والنخبة قلّة. في العالم كلام يقول: في الدنيا قضاءان. في واحد منهما يعرف المحامي القانون. وفي الآخر يعرف المحامي القاضي. في لبنان القضاء الثاني هو القضاء الدارج. أنا أعرف قاضياً كان يرتشي من فريقي الدعوى. فيدرس الملفّ، ويقضي وفقاً للنصوص وللعدل، ويستدعي الخاسر ويعتذر منه ويعيد إليه المال.
القضاء علم وأخلاق. مثْل كلّ المهن. ومِثْل كلّ المهمّات. وكنت أتمنى أن أقول إنّ القضاء رسالة. فهو كذلك في الأساس. في المبدأ. أمّا في الممارسة، فهو رسالة إلى من يفهمون كيف تُدار الألعاب … فيعملون “واجبهم” … بالمسعى أو بـ “المكرمة” … لينالوا النتيجة التي فيها يرغبون.
لماذا لا تُقال الحقيقة؟ لماذا نظلّ نحكي عن استقلال القضاء، ونحن نعلم أنّ استقلال القضاء اللبناني مثل استقلال لبنان؟ ولماذا نحكي عن العدالة، والعدالة كثيراً ما تكون جبنة أُوكلتْ قسمتها إلى الهرّ … كما في الحكاية الشهيرة!.
* * *
أنا لا أقول إرفعوا يدكم عن القضاء، لأنّ واضعي اليد أصحاب مصلحة. أنا أقول إنّ على القاضي ألاّ يقبل يداً توضع عليه، لأنّني أعتبر أنّ لا يد فوق يد القاضي إلاّ يد الله.
المناعة هي سلاح القاضي. فإذا افتقر إلى المناعة، سَهُل صيده.
والمساءلة هي سلطة الرقابة، فإذا انعدمت فَلَت الزمام من أيدي المسؤولين.
وفَصْل السلطات هو الدستور والإمام . فإذا ظلّت السلطة التنفيذية مهيمنةً على السلطة القضائية … وحتّى على السلطة التشريعية … يصير ما يصير في لبنان اليوم. قضاءٌ مسيَّب . ومجلس نوّاب معطّل. وحكومة يهدّد رئيسها كلّ يوم بـ “قلب الطاولة”، لأنّه ، مثل حراك المجتمع المدني، مقتنع بوجوب كَنْس البيت لإنقاذه من النفايات كلّها… نفايات القمامة ونفايات السياسة … لأنّ البيت النظيف يستوجب كنّاساً نظيفاً قادراً طلاّع الثنايا!.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد الأوّل- تشرين الثاني 2015).