القضاة والمحامون مواقف وطرائف: ولاه.. بتربح الدعوى ضدّ معلمك؟/ ناضر كسبار
المحامي ناضر كسبار:
قبرصي والامثولة
المحامي الكبير العلامة المحامي المرحوم عبدالله قبرصي، ابن الكورة الخضراء، صاحب المواقف البطولية منذ بداية اطلالته على المجتمع، يتحلى بروح الشهامة والمروءة والتواضع.
منذ سنوات وقبل وفاته ارسل لي بناء على طلبي مجموعة من الطرائف باسلوب شيق ورفيع. ونظراً لاهمية ما ورد فيها من ناحية الشكل والاساس فاننا نوردها حرفيا:
هذه بعض الطرائف في حياتي المهنية:
اولاً: التحقت وانا طالب حقوق بمكتب الشيخ ادمون كسبار. كنت معقب معاملات قضائية، تنفيذ، حجوزات، طبع وتقديم لوائح، اتقاضى ثلاث ليرات عثمانية ذهب شهريا.
كنت في احدى الامسيات اطبع لائحة الشيخ الياس كسبار- المحامي المؤلف- وهو يعد ليرات ذهبية، فوقعت بعض الليرات ارضا، كنت انا ومستخدم في المكتب- نسيت اسمه- موجودين في الغرفة، فبادرنا بلم الليرات وتسليمها له. عدها فوجدها ناقصة ليرتين، فنزلنا الى الشارع (كان المكتب في وقف الموارنة) شارع المعرض، وكان ذلك في العام 1930، ورجعنا بخفي حنين، لاننا لم نجد شيئا. فظن بنا الشيخ الياس سوءاً، شك في اننا لقينا الليرتين واخفيناهما. انصرف هو الى منزله في الاشرفية، وانصرف المستخدم، وبقيت انا اطبع اللائحة.
لم يمض اكثر من عشرين دقيقة، حتى عاد الشيخ الياس خجلا مني وقال لي: يا بني، انا عدت من البيت لاعتذر منك. فدهشت، لماذا؟ فتابع:” لما اعدت عد الليرات ووجدتها ناقصة ليرتين، شككت ان تكون ورفيقك لقيتماهما واخفيتماهما عني، ارجوك قبول اعتذاري..لانني وجدت الليرتين في طية بنطلوني!.
اذكر هذه الواقعة كمثل على شهامة الشيخ الياس ونقاء ضميره واحترامه كرامة الناس!.
تعلمت من الشيخ ادمون الكثير الكثير في عالم الحقوق، رغم انه كان لا يزال في اول طريقه، ولكني ما احفظه عنه هو الواقعة التالية:
– تلاقينا في المكتب صباحا، لم اكن قد حلقت ذقني، فحدق بي قائلا:”انت شاب يجب ان تتعلم انه غير مسموح لك الخروج من منزلك صباحا الا وقد حلقت ذقنك، واستحممت وتروقت”..
منذ ستة وستين عاما، لا ازال احفظ هذه الامثولة وانفذها. وصدف أنّ أوّل دعوى بعد تخرّجي وابتدائي التدرج في مكتب المرحومين ابراهيم وفهيم خوري، كانت قد اقيمت على موكلي ووكيل المدعي فيها النقيب ادمون كسبار، وقد ربحت الدعوى، فاذا بالشيخ ادمون يمسكني من اذني ويشدها قائلا:”ولاه! بتربح الدعوى ضد معلمك؟.
وأخيراً وهذه من الطرائف أيضاً، أنهيت تدرّجي سنة 1934، ولم يكن معي المال الكافي لدفع رسوم نقلي من التدرّج إلى جدول الاستئناف، فاستمرّيت أدافع وأرافع بداية واستئنافاً وتمييزاً ثمّ في المحاكم اللبنانية والمختلطة، دون ان يشكّ أحد بأنّي متدرّج.
هتف لي معلمي الشيخ ادمون قائلاً: انا مرشّح نقيباً للمحامين- كان ذلك سنة 1944- فيجب عليك وانت ورفقاءك والاصدقاء العمل على نجاحي، قلت يا معلمي، لا ازال على جدول المتدرّجين وليس معي المال الكافي لادفع. انا خارج لتوي من المعتقل، فإذا به يدفع عني الرسوم وتسجيلي على جدول محامي الاستئناف، ورقمي هو 1093، فلو دفعت سنة 1934 لكان رقمي خمسماية او ستماية، لان عدد المحامين كان قليلاً جدّاً عندما انهيت تدرجي.
* * *
سليمان ع. الصديق
كنت قد نقلت مكتبي الى شارع بشارة الخوري، بناية بيضون، اما الزمن فهو بين سنة 1939 وسنة 1945، كنت قد وكلت بدعوى لرجل جليل من عيناب، من آل الشعار، ضد شركة تجارية في شارع المعرض، ادعت على الموكل بانه مديون لها بستين الف ليرة لبنانية، وحجزت املاكه احتياطا. فلجأت الى قاضي الامور المستعجلة الذي عين خبيراً كشف على دفاترها، فوجد ان الدين مدفوع.
فوجئت بزميلي وصديقي الاستاذ سليمان ع. يدخل عليّ دون موعد سابق ويقفل الباب وراءه ويعرض علي خمسة آلاف ليرة لبنانية قائلا لي:”اني ادفع لك هذا المبلغ لا لكي تخون موكلك، بل لكي تعتذر منه طالباً أن يسلم الدعوى الى محامٍ آخر”.
فقلت له:”يا سليمان، اخرج فوراً من حيث دخلت والا رغم صداقتنا أبصق في وجهك”.
فخرج هارباً.
بعد ذلك، وكنت قد تغيبت عدة سنوات عن مكتبي، جاءني موكلون متهمون بدعوى جزائية جنحية، من صلاحية الحاكم المنفرد، تسلمت الدعوى، نظموا الوكالة، قبضت السلفة وذهبت معهم الى قصر العدل لحصور الجلسة.
ما ان وصلنا الى قاعة المحاكمة، حتى فوجئت بان القاضي هو الاستاذ سليمان ع. فقلت لموكّلي همساً:”هذا القاضي خصمي، سأخسر الدعوى حكماً. سأردّ لكم الاتعاب واعرفكم على محام آخر، اطلبوا تأجيل الجلسة لتوكيل محام.
ما ان وقع نظر القاضي عليّ- رحمه الله- حتّى أمر باخلاء القاعة، ونزل عن القوس وهو يلبس الروب، وعانقني بحرارة قائلاً:”هذا المحامي هو اشرف المحامين الذين تعرفت عليهم”.
وحضرت الجلسة وربحنا الدعوى.
* * *
دمي مش رح يقلب مي
قصد المحامي يوسف لحود النيابة العامة التمييزية للمراجعة بدعوى وكان مستعجلاً،
فبادر رئيس القلم السيد شارل بو خير، وهو شاعر أيضاً، وقال له:
عجّل عجّل يا بو خير اسرع من جنحين الطير
ما زال تصبّحنا فيك لازم نتلاقى بالخير
ولدى انتهاء المعاملة، كان الموظف النشيط شارل بو خير قد كتب للاستاذ لحود ما يلي:
يا يوسف يا اوفى خي عليّ عامهلك شوي
حبك بدمي مجبول ودمي مش رح يقلب مي
* * *
“اشتغل بضمير موكّلي لا بضميري”
في مقابلة اجرتها معه محلة الحوادث في العام 1977 يقول المحامي الشيخ بهيج تقي الدين انه ذهب مرة الى الكويت للدفاع عن لبناني احيل الى محكمة الجنايات بتهمة محاولة رشوة ضابط في الجيش. وقبل الجلسة زار امير الكويت الشيخ عبد الله الصباح. ويقول:
“وسألني الامير عن سبب زيارتي للكويت فأجبته انني قادم للدفاع عن لبناني” التزم بناء ثكنة للجيش وشاء ان يقوم ببادرة نحو الضابط “المشرف على حسابات الالتزام فقدم له هدية خمسماية دينار، فما كان “من الضابط الا ان وضع محضراً ربط به المبلغ موضحا ان اللبناني حاول “ان يرشيه وستجري محاكمة هذا الاخير امام محكمة الجنايات.
سألني الامير: وما هو اعتقادك انت، أهي حقّاً هدية أم انها محاولة رشوة كما يقول الضابط؟
اجبته: اعتقد يا طويل العمر، ان في الامر محاولة رشوة.
قال الامير: وكيف يطاوعك ضميرك على ان تقول للمحكمة بأنها هدية بينما انت مقتنع بأنها رشوة؟
وكان جوابي للامير، رحمه الله: انني يا طويل العمر، اشتغل بضمير موكّلي لا بضميري.
ضحك الامير للجواب، ولكنني مؤمن بأنه لم يقتنع به”
* * *
“تطبيق القانون”
يقول رئيس مجلس القضاء الاعلى الوزير السابق يوسف جبران ان على القاضي ان يدرس الدعاوى بطريقة جيدة ويأخذ بعين الاعتبار كل حالة مع الظروف المحيطة بها والا اعتمدنا على الكومبيوتر لحل مشاكلنا.
في هذا المجال كان الرئيس سامي الصلح الذي كان قاضيا نزيها يقول:”القانون..القانون…مين وضع القانون؟ نحن وضعنا القانون لخدمة الناس وتيسير امورهم ولكن لما بيصبح القانون فيه ضرر لمصالح الناس وبمعيشتهم فانه لا يعود قانونا ونحن لا نطبقه”.
* * *
“العدالة العاقلة والواضحة”
يقول الرئيس يوسف جبران في كتابه دراسات في القانون ان العدالة لا يجب ان تكون عدالة ميزان وعدالة تكافؤ عدالة صيارفة وموازين ذهب بل عدالة عاقلة واضحة صافية احكامها قابلة للتنفيذ قريبة من منابعها: الشعب الذي تحكم باسمه. ان لا تكون عدالة حسابية لا تأتلف مع المحبة التي تنفي كل كيل ومقياس ومع الله الذي لا حد لقدرته بل تكون كعدالة تلك المحكمة الفرنسية ايام الثورة الفرنسية عندما احيل اليها بعض المهاجرين الهاربين من الثورة والذين التقطوا على شاطئ بريطانيا بعد ان غرق المركب الذي كان يبحرهم وقد جاء في حكمها.
Il est hors du droit des nations policees de profiter de l’accident pour librer meme au juste courroux des lois des malheureux echappes aux flotes.
ويضيف الرئيس جبران: “كلام، انساني رفيع، العدو التعيس لا يبقى عدوا. فالقلب والحق يسهمان في وقف الصراع ويحدد ان العلاقات التي يجب ان تبقى بين العدالة والغضب والشفقة فلنبق على القلب لنبق على العدالة.
** *
“الوفاء”
المحامي الصديق المرحوم سعد الدين الحوت كان يتكلم دائما في مجالسه الخاصة عن الوفاء خصوصا عندما يصل الانسان الى المراكز العليا فعليه الا ينسى اصدقاءه. وفي هذا المجال يقول انه قرأ مرة بيت شعر فيه الكثير من الحكم وهو التالي:
وخير ما في الكون ود دائم
ان المناصب لا تدوم طويلا
ويضيف الاستاذ الحوت انه قرأ مرة يافطة في الكويت جاء فيها:
“لو دامت لغيرك لما آلت اليك”.
* * *
الثقافة
لمناسبة صدور الجزء الاول من كتاب القضاة والمحامون “مواقف وطرائف” كتب المحامي سركيس شرفان ما يأتي:
الثقافة تقضي بذاتها الا يبقى اي امر خارج تناوله مهما صعب هذا الامر او لازمته من اشواك بعد ان وقعت فينا وعلينا عظائم الامور.والثقافة تتحقق بوعي الحقائق الشاملة والمواقف المؤثرة، من هذا المنطلق كانت فكرة الزميل ناضر كسبار الذي عودنا نشر كل ما يطرأ من جديد اجتهاد قضائنا الموقر، فكان كتابه “القضاة والمحامون:مواقف وطرائف” الذي جاء ليغني المكتبة الحقوقية نوعا آخر يجمع بين الموقف خاصة والطرفة. فاليه اوجه كلمة شكر وتقدير لما اعده وكتبه آملاً ان يكون كتابه فاتحة عمل مستقبلي واعد بالخير.
* * *
“محكمة” – الأحد في 2019/4/14