أبحاث ودراسات
القواعد التجارية في الشريعة الإسلامية/وليد أبو دية
إعداد المحامي وليد أبو دية:
لا أدري من قال: “أننا نرى الجماعات تُغيّر القانون كل يوم، ولكننا لم نرَ أبداً أن القانون قد غيّر شيئاً من طبيعة الجماعات”،
فإذا صدقَ هذا القول، وهو صادقٌ في اعتقادي، فإنما يدلّ على شيء واحد وهو أن القانون إنما يُسَـنُّ حسب حاجة الجماعات لا حسبَ ما يُراد أن تصير إليه هذه الجماعات.
إرتبطت التجارة بسياسات وقوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية التي تُعنى بتنظيم وضبط قواعد المعاملات المالية بين الناس عنايتها بتفاصيل إقامتهم للشعائر الدينية، ما أسّس لبيئة عادلة وحرّة في حركة التجارة الإسلامية التي قادت المشهد التجاري والاقتصادي العالمي لقرون خلت، وهذا ما حدا بالمؤرخ إبن خلدون إلى أن يدعو في “المقدمة” إلى أهمية تحرير التجارة الدولية من العوائق.
فقد نزل القرآن الكريم في مكة مركز العرب التجاري وسط شبه جزيرتهم حيث أقامت قريش مُجتمعاً تساوت فيه النساء مع الرجال في التجارة، والصفق في الأسواق، “إذ كانت قريش قوماً تجاراً، من لم يكن تاجراً فليس عندهم بشيء!” على ما ورد في دلائل النبوّة لأبي نعيم الأصبهاني.
وقد ساهم النبي (ص) في الأنشطة التجارية وقبل تكليف بالرسالة، بعمله وكيلاً تجارياً لخديجة بنت خويلد التي أصبحت فيما بعد زوجته، وكانت تاجرة ذات شرف ومال كثير وتجارة، وتبعث بها إلى الشام فيكون غيرها كعامَة عير قريش، وكانت تستأجر الرجل وتدفع إليه المال مضاربةً، أي يتاجر لها به مقابل نسبة من الربح، كما يروي الأصبهاني.
وتشير مادة تَجَـرَ لُغة إلى تقليب المال وتصريفه لطالب النماء، على ما ورد في كتاب الإمام النووي “تهذيب الأسماء واللغات”. وتبعاً لذلك يرى ابن خلدون في “المقدمة” أن التجارة “محاولة الكسب بتنمية المال بشراء السلع بالرخص وبيعها بالغلاء” والمقدار النامي من رأس المال يسمى ربحاً.
ويروي ابن خلدون عن أحد شيوخ التجار مقولة تتضمن قاعدة التجارة الرئيسية المتمثلة باشتراء الرخيص وبيع الغالي، واصفا” سلوك التجار الفعلي قائلاً إن أهل النَـصَفة – أي الإنصاف – قليل، فلا بد من الغش والتطفيف المجحف بالبضائع عند صنعها، ومن المطل في الأثمان المجحف بالربح عند بيعها. تلك نماذج من القواعد التجارية التي كانت متداولة في الأوساط المالية ضمّنها إبن خلدون في “المقدمة”، وكانت مجسّدة عملياً بمجموعة من النظم التجارية.
وعن الشريعة الاسلامية لا يمكن إغفال ما كان للعرب من شأن كبير في وضع النظم التجارية، ولدينا ما يشهد بذلك، وهي تلك المصطلحات التجارية العربية العديدة المستعملة حتى الآن في اللغات الاجنبية، كلفظ مخزن Magasin ولفظ عَـوَار ومنها Avarie وحبل Cable وقيراط Carat وهي تستعمل في تقييم السفينة الى 24 قيراطاً.
هذا وتعرّض الفقهاء لشروط الإحتراف بالتجارة، منها ما رُوي عن الإمام أبي الليث انه قال: “لا يحل لرجل أن يشتغل بالبيع والشراء ما لم يحفظ كتاب البيوع”. فإلى هذا الحدّ وصل حرص الفقهاء على أن يكون تعامل التجار مؤسساً على قواعد الشريعة، أي على قواعد العدل كي تستقيم المعاملات بين الناس بلا غش أو تدليس أو غبن.
* تأريخ في مصطلحيّ القانون والتجارة:
* في القانون:
يرجع أصل كلمة قانون الى الكلمة اليونانية (Kanun) أي العصا المستقيمة، وكانت تُستخدم للإشارة إلى الاستقامة والنظام، ومن ثم انتقلت من اليوناية الى الفارسية بذات اللفظ أي (Kanun) بمعنى أصل الشيء وقياسه، ومن ثم تمّ تعريبها لأحد المعنيين، إما الأصل أو الإستقامة.
والقانون في الإصطلاح هو أمرٌ كُليّ ينطبق على جميع جزئياته التي تُتَعرّفْ أحكامها منه، وهو في معجم المعاني الجامع، مقياس كل شيء وطريقه، هو قواعد وأحكام تتّبعها الناس في علاقاتهم المختلفة وتنفّذها الدولة أو الدول بواسطة المحاكم. وهذه القواعد هي التي تحكم المجتمع وتعمل على حسن سيره، بحيث لا يمكن لأي مجتمع أن يعيش باستقرار إذا كان أفراده لا يخضعون لقوانين تحكمهم.
* في التجارة:
التجارة كسبٌ طيّبٌ حـثَّ عليه الإسلام وأمر به.
عندما سُئِـل النبيّ الأكرم (ص): أي الكسب أطيب؟ قال (ص): “عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور”.
قال العلماء: والبيع المبرور ما ليس فيه غشٌّ ولا خداع ولا ما يخالف الشرع.
فالقرآن الكريم أظهر ما للتجارة في الإسلام من أهمية مُسمياً أرباحها بفضل الله، على ما جاء في كتابه العزيز تبارك وتعالى:
﴿ وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ﴾ (المزمل: آية/20).
وقال تعالى: ﴿ فإذا قُضيتِ الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ﴾ (الجمعة: آية/ 10).
* فضل التجارة في الإسلام:
تظهر أهمية التجارة في الاسلام من خلال ورودها في محكم تنزيله وفي سُنّة رسوله الكريم.
فقد ذُكرت كلمة التجارة باشتقاقاتها تسع مرات في سبع سورٍ (البقرة/ النساء/ التوبة/ الجمعة/ النور/ فاطر/ الصفا)، مرة يُراد بها التجارة المعنوية، ومرة يُراد بها تجارة البيع والشراء.
كما ولوحظ أن كلمة التجارة، تلك الواردة في القرآن الكريم، قد إستُعملت في بابيْ الدنيا والآخرة في البيع والشراء المادي، وفي البيع والشراء المعنوي، أي الطاعة والثواب. ففي كل من سورة البقرة وفاطر والصفا، قد استُعملت في باب الطاعة والثواب، أما في السور الأخرى فقد إستُعملت في باب البيع والشراء الحياتي المادي، فيكون استعمال لفظة التجارة قد وردت في باب ربح المادة والثواب، إلاّ أن الغالب عليها عند الإطلاق هو البيع والشراء الحياتي المادي.
وقد أَخبَر الرسول (ص) عن بركة التجارة على صاحبها، فقال (ص): “أعظم الناس هما المؤمن الذي يهمَ بأمر دنياه وأمر آخرته”. وقال (ص): “التاجر الصدوق يُحشر يوم القيامة مع الصدّيقين والشهداء”،
وكانت التجارة عمل النبي الأكرم (ص). ففي هذه النصوص، كما في غيرها، دلالة رفيعة على مدى الإهتمام بالدنيا والتجارة فيها والإهتمام بأمر الآخرة. فإذا كانت التجارة بحقٍ والتزم صاحبها الحق والصدق، فهي حتماً ودون أدنى شك سبب من أسباب التكريم والرفعة في الآخرة حيث يُحشر مع صفوة الخلق يوم الحساب.
“وقد سُئل أحد الصالحين عن التاجر الصدوق، أهوَ أحبّ إليه من المتفرّغ للعبادة؟ قال: التاجر الصدوق أحبّ إليّ، لأنه في جهاد يأتيه الشيطان من طريق المكيال والميزان ومن قبل الأخذ والعطاء فيجاهدُه”.
وجاء عن عُمر رضي الله عنه، أنه قال: “ما من مكان أحبّ إليّ أن يأتيَني فيهِ أجلي بعد الجهاد في سبيل الله إلاّ أن أكون في تجارة أبيعُ وأشتري”. وقد أخذ هذا المعنى من قوله تبارك وتعالى: ﴿ وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ﴾ (المزمل: آية/20).
هذا ورغم أهمية التجارة في الإسلام فإن الرسول (ص) نبّه وحَـذَّر من مخاطرها في أحايين كثيرة، كالإفراط في حبّ الدنيا ومباهجها وجني الأرباح والإنشغال بذلك عن ذكر الله وعن الواجبات نحو الدين والأمة.
في المحصّلة، فإن التجارة من الكسب الحلال الذي حثَّ عليه الإسلام ورغبَ فيه فيما لو سلمت من الغش والخداع والإحتكار والكذب، فكان لا بد من أن يكون للإسلام قواعد واضحة المعالم في الأمور التجارية، فهو شريعة خالدة ودائمة تُظهرُ تماماً ما للوضع الاقتصادي من تأثير في حياة الأُمة، وهو بذلك يكون قد قضى على مفاسد الرأسمالية والملكية الفردية التي يمتص فيها الأغنياء دماء الفقراء.
* في الحديث عن التجارة:
للحديث عن التجارة أسباب متعددة، أهمهـا يكمن في جهل البعض ببركتها، فأرباحها تكمن بفضل الله وحدَه. والسبب الثاني يكمن في لجوء كثيرين إلى الوظائف في الدولة والمؤسسات. وكما قال البعض فإن الوظيفة تضعِفُ التوكل على الله، وهذا ليس تقليلاً من أهمية الوظائف عموماً، لكن لا بد من ألاَّ تكون هي الغاية والهدف وكأن الدولة هي المعطية والرازقة، فالله تبارك وتعالى هو الرزاق ذو القوّة المتين، على ما ورد في كتابه الكريم:
﴿ وما من دابةٍ في الأرضِ إلاّ على اللهِ رزقها ويعلمُ مستقرّها ومستودعها كلٍّ في كتابٍ مبين ﴾ (هـود: آية/6).
وفي المطلق، فإن الإنسان يبحث غريزياً عن الوظيفة لما فيها من راحة نفسية، وإنما لا بأس في أن يلجأ إلى وسيلة تدرّ عليه كسباً حلالاً، على ما قال أحد الحكماء:
“إعمَــل حمّــالاً وفكّـر بأن تكونَ تاجرا”، ولا بد للمرء أن يُفكّـر إلى ما يمكن أن يعود له عن طريق الكسب الحلال، فالحاجة أمّ الإختراع.
* ضوابط التجارة في الإسلام:
– التوكل على الله تعالى:
أخرج البخاري في صحيحه عن أنسٍ رضي الله عنه أنه قال عن الصحابي الجليل عبد الرحمن ابن عوف:
“قـدِم علينا عبدُ الرحمَـن بنُ عوفٍ وآخى رسول الله (ص) بينه وبين سعدٍ بنِ الربيع، وكان كثير المال، فقال سعدٌ: قد عَلِمَـتِ الأنصارُ أنّي من أكثرها مالاً، سأَقْسِـمُ مالي بيني وبينكَ شطرينِ وَلِـي إمرأتانِ فأنظُـرْ أَعجبَهُما إليكَ فَــأُطلِّـقُها حتى إذا حلَّــتْ تزوجتَهـا، فقال عبدُ الرحمنِ: باركَ الله لكَ في أهلِـكَ، فلم يرجعُ يومئذٍ حتى أَفضَـلَ شيئاً من سمنٍ وَأقطِ فلَـم يلبث إلاَّ يسيراً، حتى جاء رسول الله (ص)، وعليهِ وَضَـرٌ من صُفرَةٍ فقالَ له رسول الله (ص): مَهيَــمْ قالَ: تزَوّجتُ إمراةً مِـنَ الأنصارِ، فقال: ما سُقْـتَ فيها: قال: وزنَ نواةٍ من ذهبٍ، أو نواةً من ذهب، فقالَ: أولِـمْ ولو بشاةٍ.
إستطاع الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف أن يكوّن ثروةً واسعة بعد أن كان صداقه رُبـعَ دينار، وتصدّقَ بأربعينَ ألفَ دينارٍ وترك تركةً تعادلُ مائتا ألف وثلاثة ملايين دينار. وهو الذي دخل المدينة مُعدماً فقيراً، لكنه كان سبباً في الإنعاش الاقتصادي في المدينة، وكان له ما أراد من أثر توكله على الله تبارك وتعالى، والتاجر دائم التوكّل على الله تعالى، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ ومن يتوكل على الله فهوَ حسبُهُ إن اللهَ بالغُ أمرِهِ قد جعَـلَ اللهُ لكل شيءٍ قدراً ﴾ (الطلاق: آية/3).
– إتقان الضوابط الشرعية في التجارة:
لا بد لكل تاجر أو حرفي من أن يميّز المباحَ من المحظورِ في شتى المسائل المرتبطة بالتجارة. فكلاهما يحتاج إلى إدراك كافة الأحكام المتعلقة بالكسب المشروع كي يحصل على ضمان رأسماله في الدنيا كما في الآخرة، إذ عليه تجنُّب الوقوع في المعاصي، وأن يقف على مفسدات المسائل التجارية وعلى ما شذَّ من تلك المفسدات ليدرك سبب إشكالها.
ومن ضوابط التجارة في الإسلام إعطاء حقَ الله كالصدقة والزكاة تحقيقاً للبركة. فالتاجر الذي يزكّي بضاعته بعد أن يقيّمها بنسبة ربع العشر في كل ما هو معدّ للبيع، ويصرفها كما أمر الله سبحانه وتعالى في الأصناف الثمانية، فهو بذا لن يترك للشيطان مجالاً للأمر بالفحشاء والتخويف من الفقر كما قال تعالى في محكم تنزيله:
﴿ الشيطانُ يَعِـدُكمُ الفقْــرَ ويأمُـرُكُـمْ بالفحشاءِ والله يَعِـدُكُـــم مغفرةً منهُ وفضلاً والله واسعٌ عليمٌ﴾ (البقرة: آية/268).
أيضاً في قوله تعالى:
﴿ وما أنفقتُم من شيء فهوَ يخلِـقٌهُ وهوَ خيرُ الرازقين ﴾ (سبأ: آية/39).
– التسامح في البيع والشراء:
روى البخاري عن جابرٍ بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي (ص) قال: “رَحِـمَ اللهُ رجلاً سَمْحـاً إذا باعَ، وإذا اشترى، وإذا إقتضَى”.
هذا التسامح أو المسامحة لا فرق، تستوجب أن يتنازل كل طرف للآخر وفقاً لما يراه ملائماً ولو بالقليل، وبذلك يلتقي البائع والشاري في وسط الطريق فلا تذهب روح المودة والأدب سدى بينهما.
– عدم جواز إضرار التاجر بأخيه التاجر:
في صحيح البخاري ومسلم يقول الرسول (ص): “لا يبيع بعضُكم على بيع بعض”.
ومعناه أنه لا يجوز لتاجرٍ أن يبيعَ على بيع أخيه ولا يجوز أن يبيع بضاعةً بأرخصَ مما يبيعها أهلَ السوق، رغبةً في الإضرار لهم وإحداث الكساد لتجارتهم.
فقد نهى خليفة المسلمين عمرَ رضي الله عنه التجّار من الإضرار بأهل السوقِ ببيع سلعِهم بأرخص مما يبيع به سائر التجار.
وقد رُوِيَ عن سعيدٍ بن المسيب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرَ على حاطب بن أبي بلتعةٍ رضي الله عنه وهو يبيع زبيباً له في السوقِ، فقال له عمر: “إما أن تزيدَ في السعرِ وإما أن ترفعَ من سوقنا” (ورد في سنن البيهقي).
وما رُوي ايضاً عن عمرو بن شعيب قال: “وجد عمر بن الخطاب حاطب بن أبي بلتعة يبيع الزبيب في المدينة، فقال: “كيف تبيع يا حاطب؟ فقال: مدّين، فقال له عمر: “تبتاعون بأبوابنا وأفنيتنا وأسواقنا، وتقطعون في رقابنا، ثم تبيعونَ كيف شئتُم، بع صاعاً وإلاّ فلا تبع في سوقنا، وإلاّ فسيروا في الأرض واجلبوا ثم بيعوا كيف شئتم” (ورد في مصنف عبد الرزاق).
تجنّب الربا:
في الكتاب الكريم كما في السُنَّـةِ المطهّرة نصوصٌ عديدة تدل على حرمة الربا. قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿ وأحلّ الله البيعَ وحرّمَ الربا ﴾ (البقرة: آية/275). وفي قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إتقوا اللهَ وذُروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأْذَنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلَكُـمْ رؤوسُ أموالكم لا تظلمونَ ولا تُظلمون ﴾ (البقرة: آية/278 و279).
وعن مسلم وغيره من حديث جابر: لعن رسول الله (ص) أكـلَ الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: “هُم في الإثمِ سواء”.
– تحريم الإحتكار وكراهيته:
الإحتكار محرّم ومكروه، وهذا ما أجمع عليه جمهور الفقهاء.
ولا يختلف معنى الإحتكار الشرعي الإصطلاحي عن معناه اللغوي.
فالإحتكار لُغةً على ما جاء في لسان العرب لإبن منظور كالآتي:
أولاً: الحَكْـر بفتح الحاء وسكون الكاف، إدخار الطعام للتربص وصاحبه محتكر.
ثانياً: الحَكْـر والحُكْـر بفتح الحاء في الأول وضمّها في الثاني وفتح الكاف فيها بمعنى ما احتكر تقول: إنهم ليحتكرون في بيعهم ينظرون ويتربّصون، وأنه يحكِـر، بكسر الكاف – لا يزال يحبس سلعته والسوق مادة – أي ملأى حتى يبيع بالكثير من شدّة حَكْرهِ – بفتح الحاء وسكون الكاف، الإسم من الإحتكار.
ومنه الحديث أنه نهى عن الحكرة، ومنه حديث عثمان أنه كان يشتري حكرة، أي جملة وجزافاً، وأهلُ الحكرة الجمع والإمساك.
أيضاً وفي تعريفٍ للإحتكار: هو جمعُ الطعامِ ونحْوِه وإحتباسِه (لسان العرب لإبن منظور 4/208) و (تاج العروس للزبيدي 11/72)،
واصطلاحاً، هو أن يشتريَ السّلعةَ للتجارةِ التي يحتاجُ إليها الناسُ، ولا يبيعُها في الحال، بل يحبِسُها مع حاجةِ الناسِ إليها ليغلو ثمنُها (مغني المحتاج للشربيني 2/38).
أيضاً في (كشّاف القناع للبهوتي 3/187).
رُوي عن عمر رضي الله عنه أن النبي (ص) قال:”من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس”.
والإحتكار جريمة ضد الإنسانية تستوجب الطرد من رحمة الله، ولذلك قال النبي (ص): “الجالب مرزوق والمحتكر ملعون” فالمتحكر يبقى تائهاً في مطاردة المال إلاّ هو سادِسُهُمْ ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلاّ هو معَهُم أينَ ما كانوا ثم ينبِّئَهُـمْ بما عَمِلوا يومَ القيامةِ إن الله بكل شيءٍ عليم”.
هذا وظهرت الأمانة في أبهى صورها من خلال ما روته كتب الحديث الصحيحة، ومنها ما رُويَ عن عبد الله بن دينار أنه قال:
خرجتُ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكّةَ، فعرسنا في بعض الطريق، فانحدر بنا راعٍ من الجبـلِ، فقال له:
يا راعي، بعني شاةً من هذه الغنم، فقال: إني مملوكٌ فقال: قلْ لسيّدك أكلَها الذئبُ، فقال الراعي: فأينَ الله؟ فبكى عمر رضي الله عنه ثم غدا مع المملوك، فاشتراه من مولاه، وأعتقهُ، وقال: “أعتقتكَ الصدقَ في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن يعتقكَ في الآخرة”.
– في الإبتعاد عن الغش:
على التاجر إظهار ما في بضاعته من عيوب، وهذا واجب عليه ومن حق المسلم على أخيه المسلم. فقد روي عن عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: المسلم أخو المسلم، ولا يحلّ لمسلمٍ باع من أخيه بيعاً فيه عيب إلاّ بيّنهُ له” (ورد في صحيح ابن ماجه).
وكذلك فقد حذّر الله سبحانه وتعالى من الغش في الكيل والميزان، وهدّد الذين يتلاعبون بالمكاييل والموازين بعذاب أليم يوم القيامة فقال: ﴿ ويلٌ للمطفِّفين * الذين إذا إكتالوا على الناس يستوفونَ * وإذا كالوهُم أو وَزَنوهُم يَخْسرُون * ألا يظنّ أولئكَ أنَهم مبعوثون * ليومٍ عظيم * يوم يقوم الناسُ لربّ العالمين ﴾ (المطففين: آية 1-6).
أين نحن اليوم من المحتكرين أصحاب رؤوس الاموال، وأين هم اليوم من سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه في عام الرمادة وقد إشتدَّ بالمسلمين الجوع والفقر، جاءت تجارته من الشأن ألف بعيرٍ محمّلة بالتمر والزبيب والزيت، فجاءهُ تجّار المدينة وقالوا له تبَيعَنا ونزيدُكَ الدرهمَ درهمين؟ فقال لهم عثمان بن عفان رضي الله عنه: لقد بعتها بأكثر من هذا. فقالوا نزيدك الدرهمَ بخمسة؟ فقال لهم عثمان رضي الله عنه: لقد زادني غيركم الدرهم بعشرة. فقالوا له: فمن الذي زادك وليس في المدينة تجّار غيرنا؟ فقال لهم عثمان رضي الله عنه لقد بعتها لله ورسوله، فهي لفقراء المسلمين. (ألله أكبر!) فلو لم يكن يحمل بين جناحيه ضمير المؤمن الحي لكانت هذه الفرصة لا تعوّض ليربح الأموال الطائلة ولو كانت على حساب الجياع والعراة والمرضى والثكالى واليتامى وأصحاب الحاجات، فمهما خاف الناس وبُعثَ الرعبُ في قلوبهم برقابة البشر، فهي تسقط حتماً أمام رقابة الذات ورقابة الله العزيز الحكيم، فما تغيّـرت الحياة وحدث البلاءُ ووُجدت الخيانة وانتشر الظلم إلاّ يوم ضعُفَـت رقابة الله في قلوب البشر.
فالشعور الدائم بمراقبة الله تبارك وتعالى من منهج الاسلام، وضعه ربّ العباد لتربية الإنسان على اتباع الأمانة في البيع كما في الشراء، وقد غرس الاسلام في نفوس المسلمين الشعور الدائم بمراقبة اله سبحانه وتعالى والإحساس بمعيَّـتهِ في كل الأحوال والأوقات على ما جاء في كتاب الله تبارك وتعالى في الآية السابعة من سورة المجادلة: ﴿ ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلاّ هو رابِعُـهُـمْ ولا خمسةٍ ﴾.
– الإتجار في الحلال والمباح شرعاً:
على كل مسلم تاجر ألاّ يبيع ما هو محرّم شرعاً وأن يتاجر في كل ما هو مباح مجتنباً المحرمات وكل ما فيه ضرر كالمواد المخدّرة ونحوها. إذاً لا يصح للمسلم أن يتاجر بشيء منها حتى ولو بيعت من غير مسلم، لقول الرسول (ص) “لا ضرر ولا ضرار”. رواه مالك والحاكم والبيهقي والدارقطني وابن ماجه وأحمد وغيرهم، وصحّحه الألباني في السلسلة الصحيحة.
– وجوب عدم الإنشغال في التجارة عن الواجبات نحو الدين والأمة:
من البديهي ألاّ تُشغِل المسلم في تجارته عن واجباته الدينية كأن تشغله عن ذكر الله وعن الزكاة والحج والصلاة وعن برّ الوالدين وعن الإحسان الى الناس وعن صلة الأرحام. فمثل هؤلاء مثلُ من وصفَهُم الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم:
﴿ رجالاً لا تُلُـهيهمْ تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقامِ الصلاةِ وإيتاء الزكاةِ يخافونَ يوماً تتقلّبُ فيه القلوبُ والإبصارُ * ليَجزِيَـهُـمُ اللهُ أحسنَ ما عملوا ويزيدَهُمْ من فضلِـهِ واللهُ يرزُقُ من يشاءُ بغير حساب ﴾ (النور: آية 37 – 38).
في تعريف لمعنى القانون التجاري في معجم المعاني الجامع، هو مجموعة القواعد القانونية التي تحكم التجار والأعمال التجارية. كما ويمكن تعريفه على أنه مجموعة الأنظمة والقوانين التي تحكم وتنظّم مختلف الأعمال والنشاطات التجارية المتعلقة بالتجار والمؤسسات والشركات التجارية والمصارف.
وتُعرف التجارة بأنها تداول الحاصلات والأموال وغيرها بهدف الربح إما بواسطة النقل، أو المبادلة، أو تغيير المواد الأوليّة.
وفي مقدمتِهِ عرّف ابن خلدون التجارة على انها “محاولة الكسب بتنمية المال بشراء السلع بالرخص وبيعها بالغلاء”. فالقدر النامي يسمى ربحاً، ومحاولة الربح تحصل إما إتجاراً بالسلعة في الأسواق فيعظم الربح، وإما بنقل السلعة من بلدٍ لآخر لبيعها بأعلى من ثمن الشراء، أو بيعها بالغلاء على الآجال. وهذا الربح بالنسبة إلى أصل المال يسير، إلاّ أن المال إذا كان كثيراً عَظُـمَ الربحُ، لأن القليل في الكثير كثير. والمكان الذي يحوي السلعة يسمى سوقاً، وكلمة سوق تُفيدُ معنى الحركة، لأن السلعة تُساقُ إلى السوقِ.
جاء في محكم التنزيل: ﴿ وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ﴾ (المزمل: آية/20).
ويعني المسافرين للتجارة يطلبون رزق الله. فتاريخ التشريع التجاري يتّصل بتاريخ التجارة نفسها. وللتاريخ أثر فاعل في القانون التجاري وقواعده وأنظمته، ولهذا نجد النظم التشريعية في تطوّر دائم.
إلى ذلك، فإنّ للفينيقيين تاريخٌ حافلٌ في التجارة. فقد إحترفوا التجارة البحرية ومخرت أساطيلهم عباب البحر الأبيض المتوسط. وكان الإغريق قوماً تجاريين على خلاف الرومان الذين كانوا يرون أن التجارة لا تليقُ بالأشراف فتركوها للرقيق والأجانب. لهذا، فإن التشريع الروماني لم يكن يفرّق بين القانون المدني والقانون التجاري. ورغم ذلك، فقد أخذ الرومان عن الفينيقيين نظام الرمي في البحر، وهو أصل نظرية الخسارات العمومية المعروفة في القانون البحري، وهو ما كان يُعمل به في جزيرة رودس إحدى مستعمرات الفينيقيين، كماأخذوا عن اليونان القرض البحري.
يُعدّ نظام الرمي في البحر الأقدم، وهو أساس نشوء نظام الخسائر البحرية المشتركة (Common maritime losses) الوارد في قانون رودس كما في مختلف القوانين.
ومن نظام الخسائر البحرية المشتركة، العَـوار. والعَوار لغةٌ يعني العيب، والعوارية هي ما تلفَ جرّاء ماء البحر من بضائع محمّلة على متن السفينة فنقصت قيمتها.
والخسائر البحرية منها ما هو خاص ومنها ما هو مشترك.
فالخسائر الخاصة هي تلك التي يتحملها من تصيبه، كالأضرار التي قد تلحق بالبضائع المشحونة بسبب ما اعتراها من عيب، أو قد تلحق بالسفينة نتيجة خطأ ربّانها.
أما الخسائر المشتركة فهي بطبيعتها كل ما نتج من هلاك لأشياء أو نفقات أقدم عليها الربّان عن قصد للمنفعة المشتركة ولمواجهة أي خطر تعرضت له الرحلة البحرية. وتلك الخسائر هي مشتركة بين مجهّز السفينة والشاحن، يسهمان في تحمّلها على أن تُوزّع أعبائها لما يعود عليهما من فائدة عامة.
هذا ويُعدّ مبدأ الخسائر العمومية البحرية من أقدم أنظمة القانون البحري، وقد كُتِبَ لدى الفينيقيين في جزيرة رودس في القرن العاشر قبل الميلاد وقد عُرف بقانون رودس للرمي في البحر. وهذا القانون أعطى لصاحب البضائع المشحونة والتي ألقيت في البحر حق مداعاة الشاحنين لمطالبتهم بما أفادوه جرّاء رميهم لبضاعته في البحر.
ويرجع مصطلح العوارية أو الخسارة إلى التعبير الإيطالي Avera وقد تطوّر إلى مصطلحي Avaria وAveria وردا في القواميس الايطالية منذ العام 1341 للدلالة على الخسائر والنفقات التي تنفق في سبيل السلامة العامة. فنظام الخسائر المشتركة هو نظام ضارب في القدم. فالعلاّمة Ripert يرى بأن نظرية الخسارة هي نظرية تدخل ضمن مجموعة القواعد القانونية القديمة، ويقول:”إذا كان الأصل الحقيقي للخسارة المشتركة غير معروف لدينا بشكل دقيق، فإننا نجد على الأقل أو كلياً آثارها في التشريعات القديمة. ويبدو أنها كانت مرتبطة بكل الشعوب الرائدة التي وصلت إلى درجة معينة من الحضارة والتقدم”.
ويظهر من خلال قول Ripert أن المؤسسة الاصلية للخسائر المشتركة مرّت بعصور عديدة. ويعتبر قانون رودس، الذي ظهر عند الرومان، أول مصدر تاريخي مكتوب منظم للخسائر المشتركة، وكانت الفكرة في نشوء نظام العوارية تحت هذا القانون تقوم على “الرمي في البحر”، لذا سُمّي رودس الخاص بالرمي في البحر Les Rhodia de Jactu، وقد أخذ الرومان هذا التطبيق عن الملاحين الرودينيين. ووفق منطوق هذا القانون فإن كل من المجهّز ومالكي البضائع عليهم أن يشاركوا في تحمل الخسائر الناجمة عن الرحلة البحرية، فكان أن جاءت هذه القاعدة لتكرّس مبدأ العدل والإنصاف ولترسي بالمقابل وسيلة منطقية لإنقاذ السفن المهدّدة بالخطر تتمثّل برمي البضاعة في البحر.
وبما أن نظام الرمي في البحر أصبح قديماً، وهو بالتالي لم يعد يتماشى مع حركة الملاحة الحديثة في ظل التطور السريع الحاصل في بناء السفن التجارية، خاصةً وأن القوانين البحرية القديمة لم تستطع مجاراة المشاكل الجديدة الاتي أفرزتها التطورات التقنية للملاحة البحرية، فكانت الحاجة أكثر من ضرورية لإيجاد قواعد دولية تنظّم مبدأ الإشتراك في الخسائر البحرية المشتركة، ذلك أن التشريعات البحرية في تنظيم الخسائر المشتركة تختلف إختلافاً يؤسس لتنازع فيما بينها سيما وأن الشاحنين عادةً ما يكونون متعددي االجنسيات. وقد سار القضاء في معظم الدول المعنية على تطبيق قانون ميناء التفريغ النهائي بوصفه القانون الذي يحكم تنفيذ عقد النقل. ونتيجةً لهذا التنازع ظهرت الحاجة إلى توحيد الممارسات الخاصة بالعوارية العامة، فكانت الدعوة الى عمل مشترك لتوحيد قواعد الخسائر المشتركة وكانت النتيجة المباشرة لذلك اندلاع شرارة توحيد قواعد العوارية العامة.
وتحقيقاً لهذه الغاية، عقدت جمعية القانون الدولي مؤتمراً لها في مدينة يورك عام 1864 وآخر في أنغرس عام 1877 خلصا الى وضع قواعد يورك وأنغرس الخاصة بالخسائر المشتركة وعددها ثماني عشر قاعدة مرقمة باللاتينية في مؤتمر ليفربول عام 1890 جرى تعديلها في استوكهولم عام 1924 وفي أمستردام عام 1950 ومن ثم في هامبورج عام 1974 حيث تم الإتفاق بالإجماع على تبني قواعد جديدة أطلق عليها اسم قواعد يورك وأنغرس 1974….
بالمطلق، فإن جوهر نظام العوارية يقوم على قاعدة أن من ينشد العدالة، عليه الخضوع لمبادئها. والعوارية مدينةٌ إلى ما أرسته الشرائع السماوية من مبادىء أهمها عدم شروع الإثراء على حساب الغير، ذلك أن نظرية الإثراء بلا سبب تقوم على مبدأ أخلاقي يمنع الإثراء على حساب ضرر الغير.
تبقى الإشارة إلى أن النظريات التي أرست الأساس المنطقي لمبدأ المشاركة في الخسائر تتمثل في نظرية العقد أو المشاركة ونظرية الإثراء بلا سبب، ونظرية إتحاد المصالح.
عودٌ على بدء،
بحلول القرنين السابع والثامن بعد الميلاد إنتشر الإسلام شرقاً وغرباً وأصبح للعرب شأن في التجارة إلى أن جاءت الحروب الصليبية نجم عنها التواصل بين الأمم والإنفتاح على التجارة. أما قال تعالى في كتابه الكريم:
﴿ يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ﴾ (الحجرات: آية/13).
ففي عصر الصليبيين بدأت تلوح في الأفق مظاهر التجارة الحقيقية، بحيث مكّنت الحروب الصليبية التجار الإيطاليين والمجاهدين الأوروبيين الذين كانوا يعملون على تخليص بيت المقدس من المسلمين، من التعرف على النظم الاسلامية التي كانت سائدة في سواحل البحر الابيض المتوسط الشرقية والجنوبية، وأوجدت في نفوسهم رغبةً في فتح أسواق الشرق الإسلامية امام الأوروبيين. ولما كانت القوانين الرومانية والكنسية متّسمة ببعض التعقيدات والإجراءات الشكلية التي تؤخر نمو وإزدهار التجارة، فقد إقتبس التجار الصليبيين آنذاك عن المسلمين نظامهم القانوني المأخوذ من الشريعة الاسلامية.
فقد عالجت الشريعة الإسلامية المعاملات التي تقارب الشؤون الدنيوية. ومن عادلة وحكمة الإسلام في تشريع أحكام المعاملات الدنيوية أن يقتصر التشريع على الاحكام العامة الكلّية، تلك التي لا بد من أن تُبنى عليها أحكام المعاملات بين الناس. فالإسلام لم يشرّع الأحكام التفصيلية الجزئية في كثير من المعاملات، ويرجع السبب في ذلك إلى أمرين:
– الأمر الأول: لأن الأحكام التفصيلية في الشؤون الدنيوية تختلف باختلاف الزمان والمكان والمصالح والبيئات، ومن العدالة في التشريع أن يُترك لأولي الأمر في كل أمّـة أن يفصّلوا أحكامهم المدنية في شؤونهم الدنيوية التفصيل الذي يلائم أحوالهم ويحقق مصالحهم وفق الأسس المقررة في الإسلام والأحكام التي شرّعها.
– الأمر الثاني: وهو الجوهر، لأن لإصلاح المعاملات واستقامتها يقوم على ضمائر وذمم المتعاملين أكثر مما يقوم على سنّ القوانين ومجموعات الأحكام. فذمّة الإنسان تراقبه في سرّه وفي علانيته، وتوجب عليه الصدق والأمانة في غفلة من يعامله كما في يقظته، في حين أن القانون لا يراقب إلاّ ما ظهر، ولهذا فلقد خفف الإسلام من أحكام المعاملات وأكثّر في أخلاق المتعاملين، على ما جاء من أحكام وردت في محكم التنزيل فيما خصّ المعاملات، بحيث نجد بأن القرآن الكريم وضع الدستور الأول في قوله تعالى وجلّ جلاله: ﴿ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ﴾ (البقرة: آية/267).
في هذه الآية الكريمة إباحةً للمكاسب وإخبارٌ أن فيها طيباً. وللمكاسب وجهان: أحدهما إبدال الأموال والأرباح، والآخر إبدال المنافع. وفي مواضع من كتابه الكريم إباحة للمكاسب، كما في قوله تعالى: ﴿ وأحلّ الله البيع وحرّم الربا ﴾ (البقرة: آية/275).
وقال تعالى:﴿ وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله﴾ (المزمل: آية/20).
وقال تعالى:﴿ ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلاً من ربكم ﴾ (البقرة: آية/198).
وقد ورد في تفسير الطبري (3761): حدثني المثنى، قال: حدّثنا عبد الله بن صالح، قال: حدّثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن إبن عباس: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم، وهو لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده.
فالبيع لُـغةً، تعاني مقابلة شيء بشيء على وجه المعاوضة، فهو مقابلة المال بالمال، وقيل: المبادلة.
فقد جاء في لسان العرب لإبن منظور: البيع: ضد الشراء. والبيع: الشراء أيضاً، وهو من الأضداد. وبعت الشيء شريته أبيعه بيعاً ومبيعاً وهو شاذ، وقياسه مباعاً، والإبتياع الاشتراء… إبتاع الشيء: إشتراه، وأباعه: عرضه للبيع… والبيعان: البائع والمشتري، والبيع اسم المبيع… والبياعات: الأشياء التي يبتاع بها في التجارة. والبيع: الصفقة، وهو من أسماء الأضداد التي تطلق على الشيء وضدّه، مثل الشراء.
ففي قوله عزّ وجلّ: “وأحـلّ الله البيع” إباحة لسائر البيوعات، لأن لفظ البيع موضوع لمعنى معقول في اللغة وهو تمليك المال بمال بإيجاب وقبول وعن تراضٍ، وهذه حقيقة البيع في مفهوم اللسان، منه ما هو جائز ومنه ما هو فاسد، وما من خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية، وإن كان مخرجها مخرج العموم، إلاّ أن المراد في الجوهر كان الخصوص، فهُم متفقون على حظر الكثير من البيوعات، كبيع ما ليس عند الإنسان وبيع الغرر والمجاهيل وبيع المحرّمات من الأشياء.
ففي بيان أحكام البيع نصّ على أربعة أحكام فقط، وهي عامة:
أولها: إباحته، في قوله تعالى: ﴿ وأحلّ الله البيع وحرّم الربا﴾ (البقرة: آية/275).
ثانيها: في الإشهاد عليها، في قوله تعالى: ﴿ واشهدوا إذا تبايعتم ﴾ (البقرة: آية/282).
ثالثها: إشتراط التراضي، في قوله تعالى: ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارة عن تراض منكم ﴾ (النساء: آية/29).
رابعها: كراهة مباشرتها في وقت ينشغل فيه المرء عن ذكر الله وعن الصلاة، في قوله تعالى: ﴿يا ايها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة في يوم الجمعة فأسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خيرٌ لمن إن كنتم تعلمون ﴾ (الجمعة: آية/9).
وقد اقتصر رسول الله (ص) في أحكام المعاملات على أمهات الاحكام التي تمنع التخاصم فيما بين المتعاملين وتحول دون وقوع البغضاء بينهم وحثّ على الصدق والأمانة واجتناب الغش، فنهى عن بيوعات لاشتمالها على الغرر والتدليس كبيع حَـبَـل الحَبَلَة، وبيع اللبن في الضرع، والصوف على الظهر، والسمك في الماء، وبيع ما لم يبدو صلاحه. فبيع حَـبَـل الحَبَـلَة ورد فيه حديث في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
أن رسول الله (ص) نهى عن بيع حَـبَـل الحَبَـلَة، ومعناه: بيع ما في بطن الناقة، وهو معدومٌ مجهول، أو تعليق البيع بأجلٍ مجهول، بأن يبيعه بثمنٍ مؤجّل إلى وضع نتاج الناقة. فهذان التفسيران مذكوران للحديث، وفي مطلق الاحوال فقد نُهي عنه لما فيه من الضرر الكبير والغرر.
ونهى عن بيع الإنسان ما ليس عنده لأنه ربما يعجز عن الحصول عليه ولا يقدر على تسليمه للمشتري، فيؤدي هذا التعامل الى الخصومة، إلى آخر ما هو مبسوطٌ في كتب الفقه.
إلى ذلك فقد بنى الإسلام قانون المعاملات بين الناس على أُسسٍ ضامنة لتبادل حاجاتهم ومصالحهم دون إضرارٍ بأحد، ولا وقوعٍ في حرج، ولا فتح باب الخصومات، فنهى عن أن يأكل أحد مال غيره بالباطل، وأن تكون المبادلات بالتراضي. وكلمة الباطل تشمل كل وسيلة غير مشروعة لأخذ مال الغير، إذ قال تعالى:
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارة عن تراضٍ بينكم ﴾ (النساء: آية/29).
وقال النبي (ص): “إنما البيع عن تراضٍ”.
وقال عليه افضل الصلاة والسلام: “البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذّبا وكتما مُحقت بركة بيعهما”، والبيّعان، اي المتبايعان، رجلٌ تبايع مع آخر فهما بالخيار، والخيار يعني أن التخيير ثابت لهما، ما لم يتفرقا: يعني الأبدان. فطالما أنهما في مجلس العقد، حتى لو كتب العقد وانتهت الصفقة فإنه لا يزال مخيّراً وكل طرفٍ يحق له أن يرجع. والبائع إذا لم يصدق لا يُبارك له في البيع. فلو أيقنَ الإنسان هذه المعاني وطلب البركة فعلاً، لتغيّرت أحواله كثيراً، وتبقى القضية بالبركة، فإذا زالت زال كل شيء. تسأل المرء أحياناً: أين المال الذي كان لديك، فيقول: والله لا أدري كيف إنتهت وتبخّرت من غير عائد يذكر.
هذا واقع من يعيش بعيداً عن الصدق والأمانة في البيع والشراء والنيّة في شتى الأمور. فإذا رُزق الإنسان الصدق في أقواله وأعماله تكون له البشرى عند الله عزّ وجلّ، وتكون له البشرى في الحياة الدنيا. فإذا باعَ بوركَ له في بيعه، وإذا اشترى بُورك له في الشراء، وإذا تعامل مع الغير بُوركَ له في هذه المعاملة، والناس إذا أيقنوا صِدقَـهُ تتابعوا على التعامل معه.
وتدراكاً للمنازعات، أمر الله تبارك وتعالى بالإشهاد حين التبايع، في قوله الكريم: ﴿واشهدوا إذا تبايعتم ﴾ (البقرة: آية/282)، أي أشهدوا على حقكم إذا كان فيه أجل أو لم يكن فيه أجل. وكذلك أمر سبحانه وتعالى بكتابه الدَّين المؤجّل، في قوله الكريم:
﴿يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجل مسمى فاكتبوه﴾ (البقرة: آية/282).
وهو أمرٌ منه تبارك وتعالى بالكتابة للتوثقة والحفظ، وهو استحباب وإشارة إلى أهمية التوثيق في المعاملات المالية.
وقد بيّن الله سبحانه وتعالى الحكمة في ذلك في قوله، دائماً وفي سياق الآية 282 من سورة البقرة:
﴿ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألاّ ترتابوا إلاّ أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألاّ تكتبوها﴾.
فعن أبي سعيد الحذري أن رسول الله (ص) قال:”التاجر الصدوق الأمين مع النبيّين والصدّيقين والشهداء” رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
ومن القواعد الفقهية في الإسلام إن العادة مُحكَّمة أي أن العادة تجعلُ حَكَـماً لإثبات حكم شرعي إذا لم يرِد نص في ذلك الحكم المُراد إثباته، فإذا ورد النص عمل بموجبه، ولا يجوز ترك النص والعمل بالعادة، إذ ليس للعادة حق تغيير النصوص، فالنص أقوى من العرف، والعُرفُ قد يكون مستنداً على باطل.
ويشترط بعض علماء الشريعة الإسلامية أن يكون التاجر مُلماً بقواعد المعاملات. فقد رَوى الإمام أبي الليث الملقب بإمام الهدى أنه قال: “لا يحل لرجل أن يشتغل بالبيع والشراء ما لم يحفظ كتاب البيوع”. وكان التجار قديماً إذا سافروا اصطحبوا معهم فقيهاً يرجعون إليه في أمورهم ويشاورونه في معاملاتهم.
* فعن محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله، لما قيل له: ألا تُصنِّف كتاباً في الزهد؟ قال: “قد صنفت كتاباً في البيوع”.
يعني: الزاهد من يتحرر عن الشبهات والمكروهات في التجارات كما وفي سائر المعالملات والحِرَف. وعليه، فليكن معتدلاً في معاشه بما لا يُشينُـهُ، بحيث يصون نفسه ومن يعول، ولا يرد مواطن الذلّة.
– وينبثق عما ورد، القاعدة العامة التي تحكم عبء الاثبات في الشريعة الإسلامية وهي قاعدة البيّنة على المدعي واليمين على من أنكر، فضلاً عن القاعدة التي تحكم تقدير الإثبات في الشريعة الاسلامية وهي قاعدة درء الحدود بالشبهات. أياً كان الأمرُ حولَ طبيعة الإثبات في الشريعة الاسلامية فإن الفقه الإسلامي يتفق على ان ثمة قواعد وأحكاماً عامة للإثبات في الشريعة الغراء.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): “لا تَحاسدوا، ولا تناجشوا ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يَبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذلهُ ولا يكذبهُ ولا يحقِرهُ. التقوى ها هنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات – بِحَسْبِ إمرىءٍ من الشر أن يحقِـرَ أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضُهُ” رواه مسلم.
ففي هذا الحديث يرشدنا النبي (ص) إلى ما يجب أن نفعله، بأن نكون متحابين متآلفين متعاملين فيما بيننا معاملة شرعية حسنة تهدينا إلى مكارم الأخلاق، وتبعدنا عن مساوئها، وتذهب عن قلوبنا البغضاء، وتجعل معاملة بعضنا لبعض معاملة خالية من الحسد والظلم والغش وغير ذلك مما يستجلب الأذى، لأن أذيّة المسلم لأخيه المسلم، سواءً بمال أو بمعاملة أو بيد أو بلسان، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، وإنما العزّ والشرف بالتقوى.
من فوائد هذا الحديث:
– أن الإسلام ليس عقيدة وعبادة فحسب، بل هو أخلاق ومعاملة.
– الأمر بأن نكون عباد الله يراد به العبودية الخاصة، وهي الطاعة والانقياد، وأما العبودية العامة فكل الخلق عبيد الله تعالى.
– وجوب تنمية الأخوّة الإيمانية، في قوله: كونوا – عباد الله – إخواناً.
– تحريم دماء المسلمين، وأموالهم وأعراضهم.
– وجوب الصدق والتناصر والتواضع وتحريم الظلم بين المسلمين.
– تحريم الحسد والتباغض والتدابر وبيع البعض على بيع البعض.
– تحريم شراء المسلم على شراء أخيه، كأن نقول لمن باع سلعة بتسعة مثلاً: أنا أعطيك فيها عشرة.
العلاقة بين الحجر والإفلاس:
الحجرُ لغةً هو المنع، واصطلاحاً عبارة عن ممنوعية طوائف من الناس عن التصرف بأموالهم وذممهم.
والعلاقة بين الحجر والإفلاس، أنه مع الإفلاس يجعل الحاكم المدين مفلساً فيصبح بذلك محجوراً عليه. لكن الحجر أعمّ من حيث أنه يمكن أن يثبت في غير حالة الإفلاس، كالمعتوه والمجنون أو الصبي.
فالمدين إذا لم يكن عنده مال يفي بديونه أو كان له مالٌ وإنما يقصر عن إيفاء ديونه، فهنا يَحجرُ عليه الحاكم الشرعي ويمنعهُ من التصرف به ويقسّم أمواله بين الغرماء، لكن مع وجود شرائط الحجر، من قبيل ثبوت ديونه عند الحاكم، وكون ديونه حالة، وإلتماس الغرماء او بعضهم الحجر عليه وقصور ما في يده عنها. وإذا حجر الحاكم عليه ثبتَ عليه حكمان: أحدهما: تعلق الدين بماله وإن تجدّدت المالية بعد الحجر، ولا ينفذ تصرّفه فيه بما يُضرَّ الغرماء. ثانيهما: أن من وجد عند المفلس عين ماله كان أحق به من غيره. ولو ماتَ مُفلساً قبل أن يُحجرُ عليه تعلّقت الديون بالتركة، ولا فرق بين المفلس وغيره.
(أنظر تفليس، مفلس – موسوعة الفقه الاسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت عليهم السلام. جزء /15 ص /353).
والحجرُ على المفلس مشروعٌ بالكتاب والسُنّـة والإجماع.
أ – في الكتاب، قال تعالى: ﴿وابلتوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشداً فأدفعوا إليهم أموالهم﴾ (النساء: آية/6).
ب – في السُنّة النبوية، ان النبي (ص) حجرَ على معاذ رضي الله عنه مالهُ وباعَهُ عليه، وقسَّـمَ ثمنهُ على غرمائهِ، وفي رواية: “خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك”. وقوله (ص): “من أدركَ متاعهُ بعينيهِ عند رجلٍ قد أفلس فهو أحق به من غيره”.
ج – في الإجماع: أن عمرُ رضي الله عنه باع مالَ رجل وقسَّم ثمنه بين غرمائه، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم يثبُت أن أحداً منهم أنكر عليه، فكان إجماعاً.
وانظر إلى إدراك علماء الشريعة الاسلامية لمعنى رفع يد المفلس عن أمواله Dessaisissement. فالفقه الحديث يقول أن إشهار الإفلاس يترتب عليه عدم قابلية اموال المفلس للتصرّف، وان حكم الافلاس يضع اموال المفلس تحت تصرف القضاء، وأن حق الضمان العام الذي للدائن على أموال المدين يظل لحين الإفلاس غيرُ مستقرٍ وغير محدود، وأنه بمجرّد صدور الحكم يستقر، بحيث أن أموال المدين لا يمكن أن تفلت من أيدي الدائنين.
فالسرخسي يقول في مبسوطه، في كلمات قصيرة وحاسمة، أن حكم التفليس معناه: “تعلق حق غرماء المفلس في مال هذا” (المبسوط جزء 20 ص 89).
ويقول الفقه الحديث بأن المفلس يمتنع عليه التصرف في أمواله بالبيع أو تقرير أي حق عيني على كل أو بعض أمواله. ويقول الفقه الاسلامي: “وأما حاله بعد التفليس فلا يجوز له فيها عند مالكٍ بيع ولا شراء ولا أخذ ولا عطاء، ولا يجوز إقراره بدين في ذمته لقريب ولا لبعيد”. (بداية المجتهد لإبن رشد ج/2 ص 237).
نظام الافلاس في الشريعة الاسلامية:
الإفلاس لغةً مصدر فلس، يقال: أفلس الرجل إذا صار ذا فلوس بعد أن كان ذا ذهب وفضة، أو صار إلى حالٍ ليس له فلوس. واصطلاحاً: أن يكون الدين الذي على المدين أكثر من المال لديه.
عرّفت الشريعة الاسلامية نظام الافلاس منذ عهد النبوة. وقد نظّم الفقه الاسلامي أحكامه، بحيث قلّما نجد كتباً فقهية لم تفصل في أحكامه، ما يعني أن نظام الافلاس معمول به في الفقه الاسلامي، كما وأن الأدلة على مشروعيته متوافرة في السنة وفي فعل الصحابة رضوان الله عليهم وفي المعقول.
قال ابن قدامة ألمقدسي: وإنما سمّي من غلب دينه ماله مفلساً وإن كان ذا مالٍ، لأن ماله مستحق الصرف من جهة دينه، فكأنه معدوم،
ويقول إبن رشد: الإفلاس في الشرع يطلَق على معنيين: أحدهما ان يستغرق الدين مال المدين فلا يكون ماله وفاءً بديونه، والثاني أن لا يكون له مال معلومٌ اصلاً.(القاموس الفقهي لغةً واصطلاحاً، جزء أول ص /290).(إبن رشد – معجم مصطلحات الفاظ الفقه الاسلامي جزء أول، ص/71)
بمعنى آخر، أن يكون الدين على أحدهم اكثر من ماله، سواءً أكان غير ذي مال في الاصل، أم كان له مال إلاّ أنه أقل من دينه.
– إختلف العلماء في أحكام الحالتين:
ففي الحالة الأولى، هل للحاكم أن يحجر على المدين المفلس ويمنعه من التصرف بماله حتى يبيعه ويقسّطه على الغرماء كلٌ بنسبة دَينِهِ، أم ليس له ذلك بل يحبسه حتى يدفع اليهم كل ماله بنسبة معينة أو لمن اتفق منهم؟
يظهر هذا الخلاف إذا كان للمدين المفلس مال يفي بدّيْنٍــهِ وأبى أن ينصف غرماءه، فهل يتصرف الحاكم ويقسّم عليهم المال أم يحبسهُ حتى يعطيهم بيده ما عليه؟
ثمة من يقول ببيع الحاكم ما عليه فينصف بالمحصّلة غرماءه أو غريمه إن كان مليئاً، أو يُحكم عليه بالإفلاس إن لم يفِ ماله بديونه ويُحجر عليه لمنعه من التصرف فيه، وبه قال الشافعي ومالك، وبالقول الآخر قال أبو حنيفة. وحجة الشافعي ومالك حديث الصحابي معاذ بن جبل، المولود عام 20 قبل الهجرة، والذي روى عن النبي (ص) أحاديث ناهزت المئة وثمانية أحاديث، وقد بعثه النبي (ص) الى اليمن سنة 10 هجرية للقضاء إلى اليمن وحضرموت بعدما علّمه آداب القضاء، أنه كثر دَيْنَـهُ في عهد رسول الله (ص) فلم يرد غرماؤه على أن جعله لهم من ماله. وحديث أبي سعيد الخدري أن رجلا” أصيب في عهد رسول الله (ص) في ثمار إبتاعها فكثر دَينهُ، فقال (ص): تصدّقوا عليه، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دَينه، فقال (ص) لغرمائه: خذوا ما وجدتم ليس لكم إلاّ ذلك. وهذا الحديث دلّ على مجمل أحكام وإجراءات الافلاس.
فقد رُوي عن عمر بن عبد الرحمن بن دلافٍ المزنيّ عن أبيه، أن رجلاً من جهينة كان يسبق الحاج – أي كثير الحاج – فيشتري الرواحل، فيغلي بها، ثم يُسرِعُ السير فيسبق الحاج، فأفلسَ، فرُفِـعَ أمرُه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال:
أما بعد أيها الناس، فإن الأُسَـيْـفِـع (أُسيفِـعَ تصغير أسفع، والأسفع هو الذي أصاب خدّه لونٌ مخالفٌ لسائر لونه من سواد)، أُسيفِـعَ جُهينةَ، رضيَ من دينهِ وأمانتِـه بأن يُقال سبق الحاج، ألا وإنه قد دانَ مُعرِضاً فأصبَحَ قد رينَ بهِ (أي وقع في مأزق لا يستطيع الخروج منه). فمن كان له عليه دينٌ فليأتنا بالغداة نقسِّـمُ مالهُ بينهم، وإياكم والدّين، فإن أوله همٌ وآخرُه حربٌ”.
(الموطاء، حديث 2685. رواه بسند منقطع وقد وصله الدارقطني في العلل: 2/147).
وأما حجج الفريق الثاني من الذين قالوا بحبس المفلس حتى يعطي ما عليه أو يموت محبوساً، فمنها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما حين إستشهد أبوه في معركة أُحُـد وعليه دينٌ، فاشتدّ الغرماء في حقوقهم، يقول فيه:
“فأتيتُ رسولَ الله (ص) فكلمته، فسألهم أن يقبلوا ثَمَــرَ حائطي ويحلّلوا أبي، فأبوا، فلم يعطهم رسول الله (ص) حائطي ولم يكسرهُ لهم، ولكن قال: سأغدو عليكَ إن شاء الله، فغدا علينا حين أصبحَ، فطافَ في النخلِ ودعا في ثمرِهِ بالبركة، فجددتُها فقضيتُهمْ حقوقهم، وبقي لنا من ثمرها بقيّة، ثم جئت رسول الله (ص) وهو جالسٌ، فأخبرته بذلك، فقال رسول الله (ص) لعُمَـرَ: إسمع، وهو جالس، يا عُمَر، فقال: ألاّ يكونُ؟ قد عَلِمـنا أنك رسول الله، واللَه إنكَ لرسول الله”.
(صحيح البخاري – حديث /2601).
وبما رويَ ايضاً:
مات أسيد بنُ الحُضير في شهر شعبان سنة 20 من الهجرة ودفن في البيقع، وكان من حملة نعشه خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان عليه دين أربعة آلاف درهم فبيعت أرضه، فقال عمر: “لا أترك بني أخي عالة. فردَّ الأرضَ وباعَ ثمرها من الغرماء أربع سنين بأربعة آلافٍ، كل سنة ألف درهم.
إن أداء الحقوق دون مماطلة وتأخير من شيم المسلم الحق، فمن وجدَ القدرة على ردّ ما عليهِ من حقٍ وأَخّــرهُ، إستحق العقوبة على تأخيره.
وفي حديث يقول النبي الأكرم (ص): “ليُّ الواجِــدِ يحلُّ عرضَـهُ وعقوبتهُ”. (الراوي: الشريد بن سويد الثقفي. المحدّث: الألباني. المصدر: صحيح أبي داود، رقم/3682، والنسائي وعلَّـقهُ البخاري وصحّحه ابن حبان).
وفي هذا الحديث يقول النبي (ص): ليُّ الواجِـدِ، أي تأخُّـر الغنيّ عن قضاء دينِـهِ ومماطلته فيه يُحلُّ عِرضَـهُ، أي بإغلاط القول له، وعقوبتهُ، أي بحبسِـهِ ومعاقبته. “قال ابنُ المبارك”، وهو الإمام عبدُ اللهِ بن مبارك، فسَّـرَ بعض الحديث، فقال: “يُحـلُّ عِـرْضَـهُ يُغلّـظ لهُ”، أي: بالقول، وعقوبتهُ يُحبسُ له، أي يتم حبسهُ عقوبةً له، وهذا بخلاف الأمر بأنظار المُعسِـر والحثِّ عليه، لاختلاف الحالين. فالمُعسِـرُ لا يجد ما يقضي به ديونَـهُ وليس تأخيرهُ عن مماطلةٍ. أما الغنيُّ فهو يجد ما يقضي به، ولكنه يؤخِّـر حقوقَ الناسِ عمداً، فاستحقَّ العقوبة واللومَ. وللقاضي، أو الأمير، أن يعاقبهُ حتى يُسلّـم الحق، ما دام مليئاً عليه أن يُسلّم الحق لمستحقّـه ولو بالسجن أو بالتأديب.
وفي الحديث: التيسيرُ على المُعسِرِ في أداء الدينِ.
ما يفيده الحديث:
1 – تحريم المماطلة في وفاء الدين إذا كان المماطل غنياً وقادراً على الوفاء.
2 – أن المماطل الغني لا يأثم دائنِه إن وصَفَـهُ بالمماطلة والتسويف وعدم أداء الحقوق.
3 – أن العاجز عن الوفاء لا يحلُّ لدائنِـهِ أن ينالَ من عرضِـهِ، بل عليه نظرة إلى ميسرة.
* في المحاصة وقسمة الغرماء:
المحاصة باب يمكن الحاكم من إيصال الحقوق إلى أصحابها. والشريعة الإسلامية جاءت وحفظت حقوق الناس ووضعت أدق الأحكام للعناية بمصالح العباد، وهذا يؤشر على مكانة هذا الدين. ولا يُخفى أن الإنسان في هذه الدنيا لا يدم على حال. فقد يكون مُفلساً بعد أن كان مليئاً.
إكتفى العلماء بإعطاء المحاصة المعنى اللغوي ألا وهو القسمة بنسبة معينة وإعطاء حصة لكل دائن في دين ثابت في ذمة المدين. وقد أثبتت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنّة والقواعد مشروعيتها. فالمساواة، فيما بين الغُرمَـاء، هو من باب تحقيق العدالة التي أتت بها الشريعة الاسلامية، بحيث يتوجب على الحاكم أن يسارع في محاصة مال المفلس لإعطاء كل غريمٍ حقه دون أن يلحق الضرر بالمفلس، فيترك من ماله حوائجه الاصلية من نفقة وكسوة له ولعياله ممن تلزمه الإنفاق عليهم، ويترك له ايضاً الدار التي يقيم فيها.
والقسمة اصطلاحاً هي إقتسام الشيء أو المال.
أما الغريم فهو الدائن وجمعُـهُ غُرمـاء. والغريم هو من يطالب بحقه بالمال حتى يقبضهُ. والغُرم هو الدين. ويقال فلان غارم أي مديون وعليه دين. وقسمه الغرماء هي الآلية التي يعتمدها الحاكم المسؤول لتوزيع ما أمكن من أموال المدين بغرض تقسيمها على الدائنين، تلك التي يُفترَض أن تكون أقل من أصل الدين.
فإذا قيل إن المفلسَ محجورٌ عليه، فالنظرُ فيما يُحجر عليه، وبأي ديون تكون المحاصة في مالهِ وفي أي شيء من مالهِ تكون المحاصة وكيف تكون.
فأما المفلس فلهُ حالان: حالٌ في وقت الفلس قبل الحجرِ عليه، وحال بعد الحجر.
فأما قبل الحجر: فلا يجوز له إتلاف شيء من ماله عند مالكٍ بغير عوض إذا كان مما لا يلزمه ومما لا تجري العادة بفعلِـهِ. وإنما اشترط إذا كان مما لا يلزمه، لأن له أن يفعل ما يلزَم بالشرع، وإن لم يكن بعوض، كنفقته على الآباء المعسرين، أو الأبناء، وإنما قيل مما لا تجري العادة بفعله، لأن له إتلاف اليسير من ماله بغير عوض كالأضحية، والنفقة في العيد، والصدقة اليسيرة، وكذلك تراعى العادة في إنفاقه في عوض كالزواج والنفقة على الزوجة. ويجوز بيعه وابتياعه ما لم تكن فيه محاباة، وكذلك يجوز إقراره بالدين لمن لا يتهم عليه. واختلف قول مالك في قضاء بعض غرمائه دون بعض وفي رهنه.
وأما جمهور من قال بالحجر على المفلس فقالوا: هو قبل الحكم كسائر الناس، وإنما ذهب الجمهور لهذا لأن الأصل هو جواز الأفعال حتى يقع الحجر، ومالك كأنه اعتبر المعنى نفسه، وهو إحاطة الدين بمالِـهِ، لكن لم يعتبره في كل حال لأنه لا يجوز بيعه وشراؤه إذا لم يكن فيه محاباة ولا يجوزُه للمحجور عليه.
وأما حاله بعد التفليس فلا يجوز له فيها عند مالك بيع ولا شراء ولا أخذ ولا عطاء، ولا يجوز إقراره بدينٍ في ذمته لقريب ولا بعيد، قيل: إلاّ أن يكون الواحد منهم بينة، وقيل: يجوز لمن يعلم منه اليه تقاضى. واختلف في إقراره بمال معيّن مثل القراض والوديعة على ثلاثة أقوال في المذهب: بالجواز، والمنع، والثالث: بالفرق بين أن يكون على اصل القراض، أو الوديعة ببيّنـةٍ، أو لا تكون، فقيل: إن كانت صدق وإن لم تكن لم يصدق.
واختلفوا في هذا الباب في ديون المفلس المؤجلة، هل تحلّ بالتفليس أم لا؟ فذهب مالك إلى ان التفليس في ذلك كالموت، وذهب غيره الى خلاف ذلك، وجمهور العلماء على أن الديون تحلّ بالموت. قال بن شهاب: مَضَـتْ السنة لأنه دينه قد حلّ حين مات، وحجتهم في ذلك: إن الله تبارك وتعالى لم يبح التوارث إلاّ بعد قضاء الدين. والورثة في ذلك بين أحد أمرين: إما أن لا يريدوا أن يؤخروا حقوقهم في المواريث إلى محل أجل الدين فيلزم أن يجعل الدينَ حالاً، وإما أن يرضوا بتأخير ميراثهم حتى تحلّ الديون، فتكون الديون حينئذٍ في التركة خاصة لا في ذممهم، بخلاف ما كان عليه الدين قبل الموت، لأنه كان في ذمة الميت، وذلك يُحسن في حق ذي الدين. ولذلك رأى بعضهم أنه إن رضي الغرماء بتحمّله في ذِمَمِهِـم، أبقيت الديون إلى أجلها، ومِـمَّـن قال بهذا القول إبن سيرين الذي نشأ وعاش في بيت أنس بن مالك أحد خادمي رسول الله (ص) الأمر الذي ساعده في الإقتداء بسنن الرسول الكريم، والشيء الذي ساعده كذلك في أنه كان قريباً من منبع علم الاسلام، وهو بيت وصحابة الرسول (ص)، حيث أنه أدرك ثلاثين صحابياً، واشتغل في التجارة في إحدى محطات حياته، وعُرِفَ عنه الورَع والأمانة، ما أهّلـه ليصبح ملماً بالقضاء ويَبرَع فيه ويفصل بين المتخاصمين بالحق، حتى قيل في حقه “كان الإمام إبن سيرين وفير العلم بالتجارة، حسن العلم بالقضاء، حسن العلم بالفرائض”. واختاره أبو عبيد من فقهاء الأمصار، لكن لا يشبه الفلس في هذا المعنى الموت كل الشبه، وإن كانت كلتا الذمتين قد خربت، فإن ذمة المفلس يرجى المال لها، بخلاف ذمّة الميت.
وإما النظر فيما يرجع به أصحاب الديون من مال المفلس: فإن ذلك يرجع إلى الجنس والقدر. أما ما كان قد ذهب عين العوض الذي إستوجب من قبله الغريم على المفلس فإن دَينَـهً في ذمة المفلس. وأما إذا كان عين العوض باقياً بعينهِ لم يفت إلاّ أنه لم يقبض ثمنه، فاختلف في ذلك فقهاء الأمصار على أربعة أقوال:
القول الأول: أن صاحب السلعة أحق بها على كل حال إلا أن يتركها ويختار المحاصة، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثورٍ. والأصل في هذه المسألة ما ثبت من حديث أبو هريرة، أن رسول الله (ص) قال:”أيّمـا رجل أفلس فأدركَ الرجل مالهُ بعينه فهو أحق به من غيره”. وهذا الحديث أخرجه مالك والبخاري ومسلم، وألفاظهم متقاربة. وهذا اللفظ لمالك..
والقول الثاني: ينظر الى قيمة السلعة يوم الحكم بالتفليس، إن كانت أقل من الثمن خُيّـر صاحب السلعة بين أن يأخذها أو يحاصي الغرماء، وإن كانت مساوية للثمن أخذها بعينها، وبه قال مالك وأصحابه.
والقول الثالث: تقوم السلعة بين التفليس، فإن كانت قيمتها مساوية للثمن أو أقل منه، قُضيَ له بها، أي للبائع، وإن كانت أكثر دفع إليه مقدار ثمنه ويتحاصصون في الباقي. وبهذا القول قال جماعة من أهل الأثر.
أما القول الرابع: أنه أسوة الغرماء فيها على كل حال، وهو قول أبي حنيفة، وأهل الكوفة.
من هؤلاء من حمله على عمومه، وهو الفريق الاول، ومنهم من خصّصه بالقياس؛ وقالوا: إن معقوله إنما هو الرفق بصاحب السلعة لكون سلعته باقية، وأكثر ما في ذلك أن يأخذ الثمن الذي باعها به، فإما أن يعطي في هذه الحال الذي اشترك فيها مع الغرماء أكثر من ثمنها، وذلك مخالف لأصول الشرع، وبخاصة كما قال مالك: إذا كان للغرماء أخذها بالثمن.
أما أهل الكوفة فردّوا هذا الحديث لمخالفته للأصول المتواترة على طريقتهم في ردّ الخبر الواحد إذا خالف الاصول المتواترة، لكون خبر الواحد مظنوناً، والأصول يقينية مقطوعٌ بها كما قال عمر (ر) في حديث فاطمة بنت قيس: “ما كنا لندع كتاب الله وسنّة نبيّنا لحديث إمرأة” ورواه عن عليّ (ر) أنه قضي بالسلعة للمفلس، وهو رأي إبن سيرين وابراهيم من التابعين. وربما إحتجّوا بأن حديث أبي هريرة مختلف فيه، ذلك أن الزهري روى عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال:”أيما رجل مات أو أفلس فوجد بعض غرمائه ماله بعينه فهو أسوة الغرماء”، وهذا الحديث أولى لأنه يتوافق والأصول الثابتة. قالوا: وللجميع بين الحديثين وجهٌ، وهو حمل ذلك الحديث على الوديعة والعارية. إلا أن الجمهور دفعوا هذا التأويل بما ورد في لفظ حديث أبي هريرة في بعض الروايات من ذكر البيع، وهذا كلّه عند الجميع بعد قبض المشتري السلعة، فأما قبل القبض فالعلماء من أهل الحجاز وأهل العراق متفقون على ان صاحب السلعة أحق بها لأنها في ضمانه.
واختلف القائلون بهذا الحديث إذا قبض البائع بعض الثمن، فقال مالك: إن شاء أن يرِد ما قبض ويأخذ السلعة كلّها، وإن شاء حاص الغرماء فيما بقي من سلعته. وقال الشافعي: بل يأخذ ما بقي من سلعته بما بقي من الثمن.
وقالت جماعة أهل العلم … داود وإسحاق وأحمد: “إن قبضَ من الثمن شيئاً فهو أسوة الغرماء” وحجّتهم ما روى مالك عن إبن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن رسول الله (ص) قال:
أيما رجل باع متاعاً، فأفلسَ الذي إبتاعه ولم يقبض الذي باعه شيئاً فوجده بعينهِ فهو أحق به، وإن مات الذي إبتاعه فصاحب المتاع أسوة الغرماء”، وهو حديث، وإن أرسله مالك فقد أسنده عبد الرزاق، وقد روي من طريق الزهري عن أبي هريرة فيه زيادة بيان، وهو في قوله: “فإن كان قبض من ثمنه شيئاً فهو أسوة الغرماء” ذكرَه أبو عبيد في كتابه في الفقه وأخرجَـهً. وحجّة الشافعي: ان كل سلعة، أو بعضها، في الحكم واحد، ولم يختلفوا أنه إذا فوّت المشتري بعضها أن البائع أحق بالمقدار الذي أدرك من سلعته، إلاّ عطاء بن أبي مسلم الخراساني فإنه قال: إذا فوت المشتري بعضها كان البائع أسوة الغرماء.
وأما معرفة الديون التي يُحاص بها من الديون التي لا يُحاصُ بها على مذهب مالك، فإنها تنقسم أولاً إلى قسمين: أحدهما أن تكون واجبة عن عوض، والثاني أن تكون واجبة من غير عوض. فأما الواجبة عن عوض فإنها تنقسم إلى عوض مقبوض وإلى عوض غير مقبوض. فأما ما كانت عن عوض مقبوض، فلا خلاف في المذهب أن محاصة الغرماء بها واجبةٌ. وأما ما كان عن عوض غير مقبوض، فإن ذلك ينقسم إلى خمسة أقسام:
أولاً: أن لا يمكنه دفع العِوَضْ بحالٍ كنفقة الزوجات لما يأتي من المدّة.
ثانياً: أن لا يمكنه دفع العوض، ولكن يمكنه دفع ما يُستوفى فيه، مثل أن يكتري الرجلُ الدارَ بالنقدِ، أو يكونَ العُرفُ فيه النقدَ، ففلّسَ المُكتري قبل أن يسكن، أو بعدما سكنّ بعضَ السُكنى وقبل أن يدفع الكِـراءَ.
ثالثاً: أن يكون دفع العوض يمكِنُـهُ ويَلزَمُـهُ كرأس مال السَّلَـمِ إذا أفلسَ المُسْلـمُ إليه قبل دفع رأس المال.
رابعاً: أن يُمكنه دفعُ العِـوَضِ ولا يَلزَمَـهُ، مثل السلعة إذا باعها ففلَّس المُبتاعُ قبل أن يدفَـعَها اليه البائِـعُ.
خامساً: أن لا يكون إليهِ تعجيلُ دفعِ العِـوَضِ، مثلُ أن يُسلِـمَ الـرَّجـلُ إلى الرجُـلِ دنانيرَ في عروضٍ إلى أجلٍ فيُفلِسَ المسلِمُ قبل أن يدفع رأس المال، وقبل أن يَـحُـلَّ أجَـلُ السَّـلَمِ.
في المحصّلة، التجارة عصب الحياة، تتنوع بتنوع أهدافها إن بين الأفراد من الداخل، أو حتى بين شعوب العالم في الخارج.
والإسلام حثّ على العمل الفردي وأظهر إهتماماً بالغاً في التجارة لما لها من أثر في الحياة الطبيعية. واعتبرت الشريعة الاسلامية أن المال الصالح يستوجب الحرص عليه واستثماره، فقد حرّم الاسلام الموارد غير المشروعة بالمطلق، لا سيما تلك التي يكون مصدرها غير مشروع، كما وحثَّ على التراضي في البيع والشراء ضمن أُطر وقواعد العدالة والإنصاف.
وهنا لا بد من أن نثبت كلمة للمؤرخ الكاتب والفليسوف البريطاني ويلز Wells، تناول فيها رأيهُ في الشريعة الاسلامية، حيث قال:” كل شريعة لا تسير مع المدنية في كل طور من أطوارها، فأضرب بها عرض الحائط ولا تبالي بها، لأن الشريعة التي لا تسير مع المدنية جنباً إلى جنب لهي شرّ مستطير على اصحابها تجرّهم الى الهلاك، وإن الشريعة الاسلامية التي وجدتها تسير مع المدنية أنّـى سارت لهي الشريعة الاسلامية. وإذا أراد الإنسان أن يعرف شيئاً من هذا فليقرأ القرآن وما فيه من نظرات علمية وقوانين وأنظمة لربط المجتمع، فهو كتاب ديني علمي اجتماعي تهذيبي خُلقي تاريخي. فالكثير من أنظمته وقوانينه تستعمل حتى في وقتنا الحالي وستبقى مستعملة حتى قيام الساعة. وإذا طُلِـبَ منّي أن أُحـدِّد معنى الاسلام، فإنني أُحدّدهُ بهذه العبارة “الاسلام هو المدنية”، وهل في استطاعة إنسان أن يأتيني بدورٍ من الأدوار كانت فيه الشريعة الاسلامية مغايرة للمدنية والتقدم؟
هذا قليل من كثير مما تناوله فقهاء الشريعة الاسلامية في مسائل شغلت عقول رجال القانون وأخصّها القواعد التجارية. فالشريعة الاسلامية هي مصدر للقانون التجاري لا يصحّ إغفاله، لا بل يجب على كل من يتصدى للتشريعات أن يُنقّـب عمّا فيها من احكام تجارية، فالنظام التجاري العربي، بقواعده، كان قائماً على النظام الفقهي الاسلامي، وكان يسير معه جنباً إلى جنب، ذلك أن النظام الفقهي هذا رائعٌ بحكمته، عظيم ببساطته، خالدٌ بآثاره،
فالعقد عهدٌ في تعريفه وماهيته وتنفيذه، وأن حسن نية وشرف المعاملة هما أساس التجارة، والعبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني، هذه كلّها أسس فقهية قويمة تأسست عليها التجارة وأنتجت نظاماً للإثبات، سهلاً وبسيطاً وخالياً من تعقيدات الشكل وقيوده. وقد أدّى هذا النظام السهل إلى إنماء التجارة وإحلال الرفاه الاقتصادي بين الشعوب.
هذه عجالة لا أدعي أنها تفي موضوعاً فقهياً حقه، حيث لا مناص من العودة الى المراجع الفقهية، وما أغناها، وإنما قدرٌ كافٍ من الغاية المرجوة في هذا البحث المتواضع الذي يسلط الضوء على أهم القواعد التجارية في الشريعة الاسلامية، معتذراً عما قد يكون فيه من نقص، متمثلاً بقول العماد الأصفهاني: “إني رأيت أنه لا يكتب إنساناً كتاباً في يومه إلاّ قال في غـدِهِ: لو غَـيَّــرَ هذا لكان أحسن، ولو زيدَ كذا لكان يُستحسن، ولو قُــدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العِـبَـر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر”. والله ولي التوفيق.
“محكمة” – الجمعة في 2023/6/2