القُدس .. ألعام الجديد.. وافتقاد الجديد في لبنان /عصام كرم
بقلم النقيب عصام كرم:
لا وزراء في أميركا. فيها سكريتيرون. أوّلهم سكريتير الخارجية. هو “سكريتير دولة”. يعيّنهم الرئيس. وهم مسؤولون تجاهه. أبراهام لينكولن عيّن سبعة سكريتيرين. وفي إحدى الجلسات سأل عن موقف كلٍّ منهم من قضيّة مطروحة. فقال الأوّل “لا “. والثاني قال “لا”. والثالث “لا” … حتّى السابع. فيقول لنكولن: سبع لاءات ونعم واحدة… والغَلَبة لـ النعم. يعني لصوته وحده. دونالد ترامب، بعده بمايتي سنة، يقول الكلام نفسه للعالم. كأنّ حكّام العالم سكريتيرون عنده. أربع عشرة “لا”. و”نعم” واحدة. والـ نعم عطلّت تصويت الـ 14 في مجلس الأمن.
دونالد ترامب أعطى القُدس عاصمةً لـ إسرائيل. صحيح أنّ الكونغرس قرّر ذلك من زمان. لكنّ الكونغرس، في وَهْم الواهمين، أراد قراره قرار حثّ، لا قرار إلزام. لعلّ ذلك يساعد على التقدُّم في درب السلام الفلسطيني العربي الإسرائيلي. كم أخطأ الواهمون! أميركا تركت للزمن الإسرائيلي أن يعمل للإستيطان. للتهويد. لكلّ أعمال التوسّع المتغطرس المستقوي. دونالد ترامب “اختصر” كلّ هذا لا يحسب حساباً لمجلس الأمن. ولا لـ أُوروبا. ولا لـ الصين. ولا لـ روسيا. ولا لهيئة الأمم مجتمعةً. وتكاد تكون مُجمعة. إختصر كلّ هذا بكلمة: ألقُدْس عاصمة إسرائيل.
حتّى التاريخ لم يكن له حساب عند دونالد ترامب. ألقُدس عاصمة إسرائيل، متناسياً أنّ مملكة داود انقسمت بعد سليمان إلى شمال عاصمته السامرة وجُنوب عاصمته القدس. إسرائيل ويهودا. ولست أدري إذا كان دونالد ترامب يعرف… وهو خِرّيج أيّ جامعة؟ إنّ البابليين، بقيادة نبوخذ نصّر، احتلّوا يهودا في سنة 586 وهدموا هيكل سليمان. ثمّ دخل الفرْس بابل بقيادة قُوْرُش. فأجاز لليهود أن يعودوا إلى القدس ويبنوا الهيكل الثاني. ويمشي التاريخ … ودونالد ترامب يجهل مشية التاريخ … فتصير يهودا، في القرن الرابع ، مع فتوحات الإسكندر، مقاطعةً صغيرة في المملكة الكبيرة. في سنة 63 يأتي الرومان. ويحكم هيرودوس… وفي قول آخر هادريان… فيكبّر الهيكل بما أثار حساسية الفراعنة. وفي سنة 70 بعد المسيح تقوم ثورة يهودية يقمعها الرومان ويهدمون أورشليم والهيكل … فلا يبقى منه إلاّ الحيط … حيط المبكى. ويأتي المسيح. فلا أرض. ولا حيطان. ولا حواجز. ألكلام الإنفتاحي المسيحي شمل كلّ الناس في كلّ أرض. ويتنصّر الرومان. ويوقّع الملك قسطنطين في سنة 313 قرار التسامح. قرار ميلانو. وتنصرف أُمّه، هيلانة، إلى إبراز معالم درب المسيح. فيعود الثقل والوهج إلى القُدس. وتُبنى الكنيسة الأُولى … كنيسة القبر. كنيسة القيامة. وتطلّ معالم الجلجلة. ويظهر الصليب. يومذاك، لو يعرف ترامب، نهضت مملكتان: ألقسطنطينية ومملكة فارس… والتاج لـ آل ساسان. ويحتلّ الفرْس القدس في طريقهم إلى مصر. ويستعيدها هِرَقْل الإمبراطور الروماني. وتقع مجازر يذهب ضحيتها الفُرس واليهود. ويُطلّ الإسلام. ويتلو محمّد بن عبد الله الآيات المنزلات. وتقوده خِلْفةٌ مع أهله إلى يثرب في هجرة كانت في 15-16 آب 622. ويكون الإسراء والمعراج. وتُبنى المساجد في القُدس. ويسود السماح. هؤلاء أهل كتاب. والمقصود المسيحيون، وخصوصاً اليهود. ويمشي التاريخ. ولا يعرف شيئاً عن مشيته دونالد ترامب. فيهدم الحاكم الفاطمي في مصر كنيسة القبر. ويأتي الصليبيون، وقد مسّتهم فشعريرة كليرفو Clairvaux، يستعيدون بيت المقدس بحروب كارثيّة … إلى أن يطردهم منها الكردي الذي حكم مصر، صلاح الدِّيْن الأيّوبي.
دونالد ترامب. هل يعرف كلّ هذا؟ كلّ العارفين يقولون “لا”. ويقولون إنّه لا يعرف أنّ أللّنبي دخل القدس في سنة 1917 حافي القدمين .. كما موسى. ولا يعرف . والإسرائيليون يكتمون ذلك . إنّ هرتزل ما طلب القدس يهوديةً لأنّه يعرف ماذا تعني القُدس لأهل الديانات الثلاث. وتأسّست تلّ أفيف، المدينة اليهودية الكبرى، في سنة 1909.
دونالد ترامب. أين هو من كلّ هذا؟ همّه قصّة التدخّل الروسي في انتخاباته. وهمّه تقوية إسرائيل. مع علمه بأنّ القوّة وحدها لا تحلّ مسائل هذا الزمان. فتقف إسرائيل أمام مأزق مع التاريخ نبّهها إليه متنوّرون يهود مثل ناحوم غولدمان.
دونالد ترامب، رئيس أميركا، المريدة نفسها واجهة العالم الحرّ، متجاهلةً أنّ البورتوريكيّين يكتبون إسمها AmeriKKKa بـ 3K تذكيراً بـالـ كيو كلوكس كْلان.
كنت قرأت أشياء كثيرة عن دونالد ترامب آثرت عدم إثارتها لأنّها تنال من كرامة رئيس الدولة العظمى. لكنّي، اليوم، سأسمح لنفسي بكتابتها. ما رئيس قيل فيه ما قيل في دونالد ترامب. عالم النفس الأميركي. دائماً شهود من أهله. أُستاذ علم النفس في جامعة جون هوبكنز في باليتمور، قبل مايكل وولف في كتابه “نار وغضب”، يوكّد أنّ الرئيس الأميركي يعاني اهتزازات في الشخصية واضطرابات تجعله خطراً على الذات وعلى الآخر … وعلى العالم. هو فرانكنشتاين طبيعتلي psychiatrique لا يؤتمن على المفاتيح النووية. وجاء من يأخذ على الدكتور جون غارتنر أنّه ديموقراطي. فقال: أنا كنت ضدّ كلّ أعمال جورج بوش تقريباً. لكنّي، على رغم ذلك، لم أقل شيئاً عن سلامته العقلية. كثيرون طلبوا من باراك أوباما التحقُّق من حالة هذا المرشّح الذي لا يفرّق بين التخيّل والواقع. بين الرغبات والحقائق. من نكد الديموقراطية في أميركا أن تخيّر الناس بين دونالد ترامب وهيلاّري كلينتون. مثلما من نَكَد الديموقراطية في فرنسا أن تخيّر الناس بين نيكولا سركوزي وفرانسوا هولاند.
لكنّ كلام دونالد ترامب ليس نهاية الكلام. أنغلوساكسونيّان، في ماية سنة، ملّكا طارئين أرضاً لا يملكانها. بَلْفور وترامب… مخلّفَيْن الدماء والثارات. كأنّ لا خوف من أن ينقلب الزمان منصفاً، فيعود الحقّ إلى أصحابه عبر هيأة الأُمم التي كانت لها وقفة عادلة في قضية القُدس. فقالت “لا” لـ أميركا المستنقذة قرار رئيسها بالـ فيتو. مع أنّ الأُمم المتحدة لــــم تكن دائماً الكلمة الفاعلة في النزاعات الدوامي. هي تركت لبنان مثلما تركت الصومال ورْواندا والتيبيت والبوسنة. فدار الزمان دورته في كوسوفو. وصار الجلاَّد ضحيّة. فثأر الألبان من الصِرْب كما ثأر الصِرْب من تركيا.
يكفي الموقف الدولي، خصوصاً الأُوروبي، حتّى يظلّ في الفلك الأميركي الإسرائيلي لسعات الوخز والتبكيت. يكفي الرفض الإسلامي العربي حتّى يساور القلق ألضمير المفتئت على الحقّ. يكفي ثورة الحجار حتّى تهتزّ الجُوّانية المرتبكة. يكفي أن يصيب حجر واحد من مقلاع منتفض واحد جوليات الجِبّير. ألثورة دائماً مضطرّبة. لأنّها، دائماً، في حاجة إلى من يعترف بها. فكيف بالإحتلال! يكفي أنّ ناساً كثيرين يقولون”الأرض المحتلّة” كلّما حكوا عن فلسطين. يكفي هذا العناد في الحقّ يحوّل العقبات إلى منطلقات. من عقبة القُعود إلى منصّة التوتُّب.
أكتب هذا، وأنا أعلم أنّ بين القائلين “لا” ناساً لا يؤمنون بما قالوا. ناسٌ مواربون. يقولون قولاً يرجعون عنه ساعة يخلون إلى شياطينهم. ولكن يكفي أن يكونوا قالوها في وجه من لم يصدّق إلاّ أنهم إمَّعة.
لا يجوز، كما في قضية القُدس، أن نخيّر الناس بين نهضة جديدة وقرون وسطى جديدة. هذا مع اقتناعي بأنّ حقوق الإنسان إلى أميركا كمثل الحرّية إلى بريطانيا يوم كانت عُظمى.
* * *
حرامٌ أن يُطلّ العام الجديد على ظلم جديد. مع أنّ الظلم متمادٍ في كلّ المجالات. والإستثناءات قليلة. بمنطق القوّة حكى دونالد ترامب. وبمنطق غلبة الإمبراطورية على الديموقراطية كمثل جورج دبليو بوش في العراق. وبهذا المنطق يجب أن يُردّ عليه. والقوّة لا تكون بالسلاح وحده. من زمان يحكي الأغنياء عن تطبيعَيْن: تطبيع الفقر. وتطبيع الغنى. دُوْنيّة الطبقة المعسورة وفوقية الطبقة الميسورة. ويُتبْعون قولهم هذا كلاماً عن الجَدَازيّة méritocratie. فتظلّ الطبقيّة قائمة ولكن بين جدير وغير جدير.
ألصين فرحت بخطاب دونالد ترامب… ألخطاب المشوب بالإضطراب الصاخب. لأنّ ذلك فَتَح شهيّتها على فَتْح الطرق الإقتصادية… برّية وبحريّة. فتعود إلى فتح “طريق الحرير”، وهي كانت من ألفي سنة طريقاً للتبادُل التجاري وطريقاً للأديان.
في لبنان.. ألحالة هي هي. في 2017 لا شيء تحقّق… سوى، أللّهمّ، وقفة كريمة في قضيّة سعد الحريري وكلمة كريمة في القمّة الإسلامية العربية. بلى! ميشال عون يعمل على إثبات وجود الرئاسة. إميل لحود سبقه إلى شيء من هذا، ولو مع اختلاف الحال. هـــذا أمر يلقى عندنا تشجيعاً ومواءمة. لأنّ الرئيس الماروني يثبت، من خلال تعزيز الرئاسة، أنّ اتّفاق الطائف لم يُنقص من مهابة الرئاسة. على أن تبقى الخلافات الحادّة أحياناً على أُوراها. فالسلك المفقود بين نبيه برّي وميشال عون يُفتَّش عنه في المقعد الماروني في جزّين وصولاً إلى جلسة 30 تشرين الأوّل 2016 التي حملت ميشال عون إلى بعبدا عبر رافعتَيْن: أعصابه. وأصوات النواب.
في أُوروبا تجديدان. واحد فرنسي. أليمين الفرنسي يجدّد شبابه بـ لوران فوكييز. والثاني إيطالي. أليمين الإيطالي يجدّد “شبابه” بشيخوخة سيلفيو برلسكوني بعد إخفاق ماتّيورنزي الآتي بأصوات العجوز المتصابي والعاجز عن مواجهة بيبي غْرِيّو Beppe Grillo.
في لبنان.. لا جديد. إتّفاق الطائف صار دستوراً، ولو أنّ كاتباً غربياً، فرنسياً، جان دورميّسون، وصف الطائف، يوم كُتب، بأنّه أنشلوس شرق أوسطي وفيشي Vichy لبنانية. مع أنّ الزمن لم يُعطِ دورميّسون حقاً. فلا السوريون بقوا في لبنان. ولا الكويت أُعطيت لـ صدّام حسين. ولا البوسنة والهرسك بقيتا تحت الرَّبَقَة الصِرْبية.
(نشر في مجلّة محكمة – العدد 26 – شباط 2018- السنة الثالثة).