الكوتا النسائية بين المجلس النيابي والقضاء الدستوري في ظلّ مبدأ المساواة/عباس دبوق
المحامي الدكتور عباس دبوق:
أسقط المجلس النيابي “الكوتا” النسائية وأحيل اقتراح القانون المقدّم من النائب حياة عز الدين إلى اللجان النيابية.
إنّما هذا الموضوع لأهمّيته يجب الإشارة إلى أنّه يتعارض مع مبدأ دستوري بارز وحاكم هو مبدأ المساواة.
يجب التذكير أنّ مبدأ المساواة بمفهومه العام هو من المبادئ الأساسية التي استقرّت في الضمير الإنساني، والذى لا يحتاج إلى نصّ قانوني أو دستوري لتكريسه، والقضاء يطبّق هذا المبدأ عفوًا ولو لم يفرغ في نصّ دستوري، علماً أنّه لا يكاد يخلو دستور في العالم اليوم من الإشارة إلى مبدأ المساواة، سواء في مقدّمته أو في متنه. وإنّ مبدأ المساواة هو من الحقوق الطبيعية للإنسان ولذلك يعتبر أساسًا ومرتكزًا لمختلف الحقوق والحرّيات العامة وأحد أهمّ أسس الأنظمة الديمقراطية في العالم. ويشكّل أحد أهمّ الركائز التي تقوم عليها شرعة حقوق الإنسان، فقد كرّسته في المادتين الأولى والثالثة منها التي فرضت على دول الأعضاء موجب احترام حقوق الإنسان والحرّيات العامة دون تمييز بين عرق وآخر، أو جنس وآخر، أو لغة وأخرى، أو دين وآخر.
ووضعت الحماية الدولية لهذه الحقوق والحرّيات في خانة الموجبات الإلزامية الملقاة على عاتق كلّ الدول الأعضاء على اختلافها. وتقوم علاقة وجودية بين المساواة والحرّية حيث لا يتصوّر انعدام وجود أحدهما مع وجود الآخر فيعتبر مبدأ المساواة من مواثيق الحرّيات العامة؟
ويقصد بالمساواة عدم التفرقة وانتفاء التمايز بين الأشخاص في الحقوق والواجبات لأيّ سبب كان باعتبارهم يولدون متساوين في الطبيعة، وأنّ جميع الناس أحرار بالولادة ومتساوون وعليهم أن يتعاملوا بالأخوة، مسترشدين بالعقل والضمير. لذا فإنّ مبدأ المساواة هو من المبادئ والثوابت الدستورية وقد كرّسه القضاء الدستوري الفرنسي في اجتهاده المستمرّ منذ سنة 1973 لأجل تحقيق حماية الحرّيات العامة في مواجهة السلطة التي تنتهكها.
وإنّ كفالة مبدأ المساواة بين الأفراد في الحقوق والأعباء، والاعتراف بالحقوق والحرّيات العامة، وتوفير الحماية القانونية لها هو من مقوّمات الدولة القانونية، حيث يفرض التطبيق لمبدأ المساواة تمتّع جميع الأفراد بصفة عامة بالحرّيات العامة على قدم المساواة، وبدون تفرقة أو تمييز في ما بين المواطنين.
لذا سنعرض لموقع مبدأ المساواة في نصوص الدستور اللبناني كونه يشكّل ضمانة لتمتّع جميع الأفراد بالحرّيات العامة، فضلًا عن هدفه تحقيق العدالة للجميع ومن ثمّ نعرض لإقرار المبدأ من قبل القضاء الدستوري تكريسًا لحقّ جميع الأفراد وبدون تفرقة أو تمييز من ممارسة الحرّيات العامة وتأثيره على الكوتا النسائية.
تجدر الإشارة إلى أنّ الدستور اللبناني قد نصّ صراحة على مبدأ المساواة بين المواطنين إلّا أنّ سمّ الطائفية التي كرّسها الدستور اللبناني بالتعديل الدستوري عام 1990 تجعل من مبدأ المساواة بين الطوائف والعائلات الروحية مبدأً مسيطراً، فنجد أنّ الدستور اللبناني في الفقرة(ج) من ديباجته يحمي مبدأ المساواة بين الطوائف، فالحقيقة لم ترد في الدستور عبارة مبدأ المساواة بين المواطنين من دون تمييز ديني، غير أنّ ذلك لا يعني أنّ الدستور يكرّس هذا النوع من التمييز، ولكنّه لا يستبعده كذلك، فقد جاء الدستور ليوفّق مبدأ المساوة بين المواطنين مع مبدأ المساواة بين الطوائف، وذلك يفضي إلى محاصرة الفرد واتباعه بالكلّية لطائفته: فلا يمكن له الخروج عن طاعتها وتكون حدوده وأبعادها مقتصرة على بُعْد الإنتماء الطائفي.
في الواقع يؤدّي تطبيق مبدأ المساواة بين الطوائف في بعض المجالات إلى تشويه مضمونه، فيتقدّم بالتطبيق على مبدأ المساواة بين المواطنين حيث يتجلّى ذلك من خلال:
1- توزيع الرئاسات الثلاثة (رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب ورئاسة مجلس الوزراء) على مذاهب دينية معيّنة أصبح عرفاً ملزماً وهو يخلّ بمبدأ المساواة بين اللبنانيين، وكذلك توزيع الوزارات.
2- توزيع المقاعد النيابية يتمّ بصورة لا علاقة لها بمبدأ المساواة، فقانون الإنتخاب يمنح الطوائف الكبرى معظم المقاعد ولا يترك للطوائف الصغرى إلّا مقاعد معدودة.
والدستور اللبناني الذي يلغي في المادة (95) قاعدة التمثيل الطائفي في الوظائف العامة ويدعو إلى اعتماد الاختصاص والكفاءة يستثني في المادة نفسها، وظائف الفئة الأولى، وينصّ على أن تكون هذه الوظائف مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، كما هو الحال المعتمد بخصوص المناصفة النيابية وفقاً للمادة (24) من الدستور. وهذا يتعارض أصلاً مع نصّ المادة (12) من الدستور التي تعتبر أن لا ميزة لأحد على الآخر إلّا من حيث الاستحقاق.
المساواة من منظور المجلس الدستوري اللبناني:
يبقى المجلس الدستوري اللبناني، متقدّمًا في اجتهاده نحو تحقيق العدالة الدستورية كحام للحرّيات العامة.
ونجد بأنّ المجلس الدستوري اللبناني قد اتجه في عدد من قراراته أسوة بالمجلس الدستوري في فرنسا إلى اعتبار مبدأ المساواة أحد أهمّ المبادئ الدستورية العامة.
المساواة في الحقوق والواجبات بين المرشّحين للإنتخابات: أبطل المجلس الدستوري بموجب قراره رقم 96/4 الصادر بتاريخ 1996/8/7 المادة الثانية من قانون الانتخاب رقم 96/530 لتمييزها في المعاملة بين المواطنين، ناخبين ومرشّحين في الحقوق والفرائض عندما اعتمد معايير مختلفة في تقسيم الدوائر الإنتخابية دون أن يلحظ أنّ ذلك حاصل على سبيل الإستثناء من القواعد العامة، ولأسباب ظرفية يراها المشترع متصلة بالمصلحة العامة العليا، وإن لم يأت على تبريرها يكون قد أخلّ بمبدأ المساواة أمام القانون، وقد قضى “وحيث أنّ الدستور قد أوجب تأليف مجلس النوّاب على أساس الانتخاب وهو وإنْ ترك للمشترع أمر تحديد عدد النوّاب وكيفية انتخابهم، فإنّ المجلس يبقى مقيّدًا في وضع هذا القانون بأحكام الدستور والمبادئ العامة الدستورية المتعلّقة بهذا الموضوع.”
وقد أضاف المجلس بأنّ المادة السابعة من الدستور تنصّ على أنّ ” كلّ اللبنانيين سواء لدى القانون، وهم يتمتّعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحمّلون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم”، وكذلك فإنّ الفقرة (ج) من مقدّمة الدستور تنصّ على أنّ لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على احترام الحرّيات العامة، وفي طليعتها حرّية الرأي والمعتقد وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل”.
واعتبر المجلس أنّ “الانتخاب هو التعبير الديمقراطي الصحيح والسليم عن سيادة الشعب، وهو لا يكون كذلك إلّا إذا تأمّنت من خلاله المبادئ العامة الدستورية التي ترعى الإنتخاب ولا سيّما مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون.
وحيث إنّ مبدأ المساواة أمام القانون هو مبدأ مقرّر بصورة واضحة وصريحة في أحكام الدستور، كما في مقدّمته التي تعتبر جزءًا لا يتجزأ منه”.
وقد قرّر المجلس الدستوري أنّ “القانون يجب أن يكون واحدًا لجميع المواطنين، إنطلاقًا من مبدأ إعطاء كلّ صوت القيمة الإقتراعية ذاتها في مختلف الدوائر الانتخابية، ومن خلال المساواة في محتوى قانون الانتخاب بالنسبة إلى تقسيم هذه الدوائر، بحيث تتأمّن المساواة أمام القانون بين الناخبين في ممارسة حقوقهم الانتخابية الدستورية”.
والمجلس الدستوري باستناده إلى مبدأ المساواة في قراره المشار إليه، إعتمد على مبدأ دستوري منصوص عليه في مقدّمة وأحكام الدستور، فقيمته الدستورية متأتية من كونه مبدأ مقرّرًا نصيًّا وليس من اجتهاد المجلس الدستوري كما هو الحال مع المجلس الدستوري الفرنسي.
في مقاربته لمبدأ المساواة والتمييز الإيجابي:ذهب إلى اعتبار أنّ التمييز الايجابي يشكّل حدًّا لمبدأ المساواة وتكريسًا له في آن معاً من حيث إنّ المساواة لا تعتبر قاعدة مجرّدة يتمّ تجاوزها بل هدفاً يجب الوصول إليه، وهو يتحقّق بإعطاء أكثر لمن يملك أقلّ وتقديم تسهيلات أكثر له ليصل إلى وضع ما كان من الممكن أن يصل إليه بدون تلك التدابير التمييزية الإيجابية.
بعض المواضيع لا يمكن اعتماد التمييز الإيجابي فيها كقانون العقوبات وقانون الانتخاب لجهة حقّ التصويت وحقّ الترشّح، ولجهة المساواة في الحاصل الانتخابي بين الدوائر الانتخابية إلّا في الحالات التي يعتبرها المشرّع متطلّبات لحماية المصلحة الوطنية بحيث يمكن الخروج جزئيًا وبشكل محدود عن هذه القاعدة. فالمجلس الدستوري رفض أكثر من مرّة قانونًا يلحظ كوتا نسائية للترشّح للانتخابات البرلمانية لمخالفته لمبدأ المساواة.
وانطلاقًا من اجتهاد القضاء الدستوري اللبناني والفرنسي المشار إليها بخصوص وجوب التزام السلطة التشريعية النصوص والمبادئ الدستورية عند سنّها للقوانين لا سيّما مبدأ المساواة بين المواطنين وحفظ حقوقهم وواجباتهم دون أيّ تمييز أو تفضيل، فيكون البحث في مسألة الكوتا النسائية في الانتخابات البرلمانية مسألة عبثية وإقرارها سيجعل القانون عرضة للإبطال من قبل القضاء الدستوري في حال الطعن به أمامه.
“محكمة” – الأربعاء في 2021/10/20