المجلس العدلي “فزّاعة” أم “ضمانة”؟/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
لم تُثرْ جريمة تحمل طابعاً سياسياً وتعرّض أمن الدولة الداخلي للخطر، مواقف رافضة لإحالتها على مرجعها القضائي المختص وهو المجلس العدلي، مثلما حصل مع حادثة البساتين أو قبرشمون في قضاء عاليه حيث ظهر انشقاق سياسي واضح المعالم بين مؤيّد لسلوكها الطريق القانوني الصحيح، ومناهض لهذه الإحالة مفضّلاً الاكتفاء بالإحالة على القضاء العسكري، ممّا أدّى إلى تجميد عمل مجلس الوزراء بانتظار إيجاد مخرج سياسي لهذه الإشكالية غير المتوقّعة والتي لا شكّ أنّ السياسة لعبت دوراً محورياً في تركيب مشهديتها العامة، وهذا الأمر بمفرده كاف لاعتبار جريمة البساتين سياسية بامتياز وإلاّ لما شهدت كلّ هذه المناكفات والتحدّيات بهدف فرض رأي سياسي على آخر لتأكيد زعامة الساحة الدرزية في لبنان بين الزعيمين وليد جنبلاط وطلال أرسلان.
وبعيداً عمّا حدث في ذلك المشؤوم من تاريخ جبل لبنان في يوم الأحد الواقع فيه 30 حزيران 2019، حيث تعرّض موكب وزير الدولة لشؤون النازحين صالح الغريب لإطلاق نار من مسلّحين تابعين للحزب التقدّمي الاشتراكي ممّا أدّى إلى مقتل مرافقيه سامر أبي فرّاج ورامي سلمان وسقوط جريحين آخرين، فإنّ ما استوقف الرأي العام هو ما تبع الحادثة من ذيول سياسية تمظهرت في مواقف وخطابات وتصريحات قلّلت من شأن المجلس العدلي وأهمّيته وذهبت إلى توصيفه بأنّه موجود إسمياً بينما حركته القانونية والعدلية بطيئة ومميتة لمسار الدعاوى المحالة عليه، وبالتالي هناك خشية من إبقاء أيّة دعوى محالة على هذا المجلس سيفاً مسلطاً على رقبة الفريق السياسي المعني بالمتهمّين سواء أكانوا موقوفين أو فارين من وجه العدالة.
واللافت للنظر أنّ بعض الأصوات المعترضة على الإحالة الطبيعية لمثل هذه الحادثة الأمنية الخطرة على المجلس العدلي، كانت من الداعمين الرئيسيين لإحالة جرائم أقلّ أهمّية على هذا المجلس، لا بل كان من المفروض ألاّ تحال عليه في الأساس مثل “جريمة الزيادين”(1) بشهادة المجلس العدلي نفسه الذي اعتبرها في حكمه بأنّها جريمة ثأرية ولم يكن يوجد أيّ داع لإشغاله بها، ولكنّ الغلبة في نهاية المطاف في تحديد مسار بعض الدعاوى تكون للسياسة، لأنّها هي من يتولّى رسم خريطة طريق الدعوى السياسية أو المسيّسة.
إزدهار “العدلي”
وبعكس ما أشاعته تصريحات وخطابات سياسية من أجواء سلبية عن المجلس العدلي دون انتباه إلى مخاطر ترسّخها في ذهن الرأي العام، فإنّها لم تفرّق بين ما يقوم به المحقّق العدلي من تحقيقات إستنطاقية وما يجريه المجلس العدلي نفسه من محاكمات علنية، وهو استطاع خلال فترة انتداب القاضي الدكتور أنطوني عيسى الخوري لترؤسه بين كانون الثاني 2014 و25 شباط 2015 حيث تقاعد، أن يختم المحاكمة في عدد من الدعاوى الهامة ويصدر الأحكام المناسبة فيها دون التفات إلى خطورة الوضع الأمني في لبنان آنذاك، كما فعل في قضيّة أحداث نهر البارد بين الجيش اللبناني وتنظيم “فتح الإسلام” الإرهابي، وفي تفجير عين علق الإرهابي، و”جريمة الزيادين”، والشقّ المدني في قضيّة أحداث الضنية بين الجيش اللبناني ومجموعة بسّام كنج الإرهابية بعدما طالها العفو في العام 2005 فمنح التعويضات المالية المستحقّة لذوي العسكريين الشهداء.
ويمكن القول إنّ هذه الفترة كانت ذهبية ومزدهرة للمجلس العدلي لأنّه فصل في دعاوى عالقة لديه، مع الإشارة إلى أنّ ملفّ “نهر البارد” كان كبيراً جدّاً بفعل عدد المتهمّين وهو الأضخم في تاريخ القضاء اللبناني، فاضطرّ المجلس العدلي وهو أعلى هيئة قضائية فيي لبنان، إلى التعامل معه بحكمة وروية وبتقسيم المتهمّين مجموعات لكي يتسنّى له محاكمتهم في قاعة خصّصت لذلك في حرم السجن المركزي في رومية ثمّ في قاعة محكمة التمييز في الطبقة الرابعة من قصر عدل بيروت.
السياسة تتحكّم
ولا يُسأل المجلس العدلي عن سبب تأخّر محقّقين عدليين في إنهاء عملهم القضائي واختتام التحقيقات، وهنا تلعب السياسة في بعض الأحيان دور الموجّه في تحريك الملفّات أو تنويمها كما حدث في جريمة اغتيال رئيس الجمهورية الأسبق بشير الجميل، وجريمة اغتيال القضاة الأربعة في قصر عدل صيدا القديم، علماً أنّ المحقّقين العدليين ينطلقون في تحقيقاتهم الاستنطاقية ممّا بين أيديهم من تحقيقات أوّلية تجريها الضابطة العدلية، وبالتالي العملية برمّتها رهن حركة ونشاط القوى الأمنية المعنية وتوقيف الفاعلين والمساهمين والمحرّضين والمتدخّلين، فإذا ما أفضت تحقيقاتها إلى نتيجة مثمرة وملموسة على صعيد القضيّة الموجودة بين يديها، صار بإمكان المحقّق العدلي السعي إلى تبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود ثمّ إعلان انتهائه من التحقيق وإصدار قراره الاتهامي لكي تنتقل المهمّة إلى ساحة المجلس العدلي.
كما أنّ المجلس العدلي ضمانة لجهة تشكّله من قضاة خمسة يعملون في غرف محكمة التمييز، بعكس المحكمة العسكرية حيث يوجد قاض مدني واحد برتبة مستشار والبقية ضبّاط عسكريون، وهو أيضاً، ضمانة على صعيد الحياكة القانونية للدعوى بعكس المحكمة العسكرية التي تفتقد أحكامها للتعليل القانوني على غرار ما يحصل في الأحكام الصادرة عن القضاء العدلي، وهذا كاف للتأكيد بأنّ المجلس العدلي ضمانة وليس فزّاعة، فالدعوى أمامه لا تموت ولا تنسى، وإنْ حصل بطء فيها قد يكون شديداً في بعض الأحيان، وذلك وفقاً لنشرة المناخ السياسي في لبنان.
(1) في 24 نيسان 2007، أقدم أشقاء القتيل عدنان إبراهيم شمص على قتل زياد قبلان وزياد الغندور بعد خطفهما من محلّة عين الرمّانة في 24 نيسان 2007، ورمي جثّتيهما في بلدة جدرا في قضاء الشوف، ثأراً لمقتل شقيقهم في 25 كانون الثاني 2007 في محلّة وطى المصيطبة بعد خلافات بين طلاّب تابعين لفريقي 8 و14 آذار في حرم جامعة بيروت العربية وتمدّدها إلى المنطقة المحاذية.
(نشر هذا المقال في مجلّة “محكمة” – العدد 44 – آب 2019)
“محكمة” – الجمعة في 2019/8/23