المجلس العدلي واغتيال رئيس للجمهورية
بقلم الدكتور عصام نعمة إسماعيل:
إنّ المجلس العدلي عندما حكم في قضية اغتيال الرئيس السابق بشير الجميل، كان أمامه وقائع محدّدة لا يمكنه تجاوزها، فالرئيس بشير الجميل كان ولا زال رئيساً سابقاً للجمهورية اللبنانية منتخباً من أعضاء مجلس النوّاب اللبناني. ولم يتمّ رسمياً إثارة مسألة ارتكابه الخيانة العظمى أو التعامل مع العدوّ الإسرائيلي. بل على العكس فلقد تقدّم أحد النوّاب باقتراح قانون بتسمية المطار باسم مطار الشهيد بشير الجميل وعاد وأثار هذا الموضوع في جلسة مجلس النوّاب تاريخ 2/11/1982.
ومنذ العام 1982 وحتّى تاريخه، لم يعمد مجلس النوّاب إلى اتخاذ إجراءات ترمي إلى نزع صفة رئيس الجمهورية عن الشيخ بشير الجميل، بل لقد انتخب مجلس النوّاب الشيخ أمين الجميل رئيساً للجمهورية اللبنانية في جلسته بتاريخ 21/9/1982 ويومها اعتبر رئيس مجلس النوّاب كامل الأسعد في كلمته:” أنّ بشير الجميل ذهب ضحيّة مزاياه والتزاماته الوطنية أكثر من أيّ سبب آخر، ولعلّ التاريخ والمؤرّخ بقدر ما تطغى الحقيقة على تمويه الحقيقة والافتراء عليها لدى التاريخ والمؤرّخ، سيسجّل في صفحاته هذا الواقع المشرّف”.
وكذلك في جلسة 13 حزيران 1983 ناقش مجلس النوّاب على مدى يومين، وأقرّ الإتفاق المعقود بين حكومة الجمهورية اللبنانية وحكومة (دولة إسرائيل) بتاريخ 17 أيّار 1983 (وهو النصّ الوارد في محاضر مجلس النوّاب)، وقد صوّت لصالح هذا الاتفاق أكثرية 65 نائباً. ثمّ لمّا عمد مجلس النوّاب إلى سحب الإجازة للحكومة بإبرام هذا الاتفاق بموجب القانون رقم 25 تاريخ 15/6/1987، فإنّه اكتفى بإلغاء الاتفاقية المذكورة، ولم يناقش أيّ قضيّة أخرى.
وبعد هذا التاريخ لم يُصَر إلى فتح الملفّ رسمياً، ولم يتقدّم خمس أعضاء مجلس النوّاب بتحريك الإدعاء على الشيخ بشير الجميل بتهمة الخيانة العظمى سنداً للمادة 60 من الدستور، وقانون أصول محاكمة الرؤساء والوزراء (على الأقلّ من أجل محاكمة حقبة زمنية ماضية وترتيب مفاعيل قانونية على هذه المحاكمة على الرغم من أنّه من غير الجائز ملاحقة الأموات جزائياً)، بل إنّ الدوائر الرسمية اللبنانية تتعاطى مع الشيخ بشير الجميل على أنّه رئيس للجمهورية اللبنانية.
واضحٌ إذاً، بأنّ الدولة اللبنانية على مستويي السلطتين التشريعية والتنفيذية قد وقفتا إلى جانب اعتبار أنّ الشيخ بشير الجميل هو شهيد لبنان، بالمقابل فإنّ الفريق الذي ينتمي إليه المتهم باغتيال الشيخ بشير، لم يتخذّ أيّ إجراء لسحب الملفّ من المجلس العدلي، أو لتعديل أصول المحاكمة لدى هذا المجلس بحيث يجاز له قبول الدفاع عن المتهم غيابياً كحالة المحكمة الخاصة بلبنان.
ولهذا، وبعد هذه المواقف المذكورة، لا يمكن إتهام المجلس العدلي بالتجاوز، ولا يمكن تحميل هذا المجلس تبْعات امتناع مجلس النوّاب عن التحرّك في هذا الملفّ وحسم الجدل المثار حول ما إذا كان الشيخ بشير الجميل شهيداً أو عميلاً، ولا يمكن تحميل المجلس العدلي تبْعات التقصير في معالجة ملفٍّ كان ولا زال محلّ جدلٍ بين اللبنانيين. وبغياب الاتهام أو الإدانة، فإنّ الشيخ بشير الجميل هو بنظر المجلس العدلي رئيساً للجمهورية اللبنانية، وعلى هذا الأساس ودون الالتفات إلى الاعتبارات الأخرى التي لا يأخذها القضاء الجزائي بعين الاعتبار طالما بقيت شعارات مرفوعة لم ترق إلى مرتبة الإدانة الرسمية، ولهذا فإنّ المجلس العدلي قد حاكم من أقدم على اغتيال رئيس جمهورية لبنان، بمعزلٍ عن العواطف والدوافع التي كانت المبرّر لهذا الفعل، طالما أنّها لا تشكّل وفق قانون العقوبات أسباباً مبرّرة للفعل أو مانعة للعقوبة.
ولهذا، فإنّ الحكم الصادر عن المجلس العدلي هو حكم قانوني اعتمد التفسير الحرفي للقانون، وإنْ كان البعض وقد يكون بينهم قضاة في ذات المجلس، يدركون في قرارة أنفسهم أنّه حكم يناقض وثيقة الوفاق الوطني التي لها مرتبة الدستور، ويمسّ بقواعد ارتضاها اللبنانيون بمعاقبة كلّ متعاملٍ مع العدوّ الإسرائيلي أيّاً كانت مرتبته، ويثير التساؤل حول مبرّر إعطاء الأولوية لهذه القضيّة دون غيرها من القضايا العالقة أمام المجلس العدلي.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 23 – تشرين الثاني 2017 – السنة الثانية)