المحقّق العدلي “أحدٌ فردٌ” فوق القانون لا يردّ.. العدالة بوجهها الناقص/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
بسبب ثغرة فاضحة في قانوني أصول المحاكمات الجزائية والمدنية، لم تستطع لا محكمة الاستئناف المدنية ولا محكمة التمييز المدنية ردّ المحقّق العدلي، ولم تجرؤ أيّ واحدة منهما على التصدّي لهذا الخلل، حتّى بات هذا القاضي أهمّ من الرئيس الأوّل لمحكمة التمييز والنائب العام التمييزي، لا بل الحاكم بأمره يفعل ما يريد، ويتحكّم برقاب الناس كيفما اتفق حتّى ولو كانت قراراته مجبولة بالأخطاء القانونية، وصار هو مطمئنًا إلى أنّه ليس بمقدور أيّ محكمة أن تنبسّ بحرف واحد في وجهه وأن توقفه عند حدّه، لذلك لم يعد من مجال لكفّ يد المحقّق العدلي سوى طلب نقل الدعوى للإرتياب المشروع، لذلك يُشكر المشرّع على استنباط المادة 340 أ.م.ج. وإلّا لظهرت العدالة بوجه ناقص، وهذا ليس عدلًا على الإطلاق.
ولا يُسأل المحقّق العدلي عن نقص القانون، إنّما المجلس النيابي الذي بات يتوجّب عليه إجراء التعديل اللازم لناحية ردّ المحقّق العدلي في حال توافرت شروط الردّ، وإنزاله عن عرشه لكي يكون بمستوى بقيّة القضاة الذين يمكن ردّهم عند ارتكابهم ما يستوجب إقصاءهم وغلّ أيديهم عن متابعة النظر في الملفّ الموجود لديهم، ولئلّا يظنّ نفسه إلهًا أو قدّيسًا وهو من طينة البشر.
وإن لم يكن المحقّق العدلي من قضاة محاكم الإستئناف ولا من قضاة محكمة التمييز، فأين هو مكانه وما هو تصنيفه وما هو مستواه؟ وكيف يخلو قانونا أصول المحاكمات المدنية والجزائية من الإلتفات إلى وضعه القانوني عند طلب ردّه بسبب هفوات وأخطاء صدرت عنه وكأنّه فوق القانون؟ والكلام هنا عن المحقّق العدلي كصفة ومَهمَّة بغضّ النظر عن اسم القاضي والملفّ المعروض عليه.
فهل يعقل أنّه يمكن ردّ قاضي التحقيق والمحقّق العدلي بمنزلته مع فوارق طفيفة؟
وهل يستقيم مع ميزان العدالة أن يكون المحقّق العدلي “فردًا أحدًا”، بينما يمكن ردّ رئيس محكمة التمييز وهو أهمّ من المحقّق العدلي في الدور والدرجة والأداء والمسؤولية؟
وهل يعقل أنّه يمكن استئناف قرارات قاضي التحقيق، بينما لا توجد محكمة يلجأ إليها أيّ طرف في دعوى محالة على المجلس العدلي لاستئناف قرارات المحقّق العدلي؟
وهل يعقل أن يكون المحقّق العدلي فوق كلّ النصوص القانونية بعكس كلّ المبادئ القانونية؟
ومنذ متى يكون القاضي، مطلق قاض، فوق النصوص القانونية؟
وكيف يمكن للمرء أن يتظلّم من قاض بوصفه محقّقًا عدليًا ولا يوجد مرجع قضائي أعلى منه يصحّح أخطاءه في حال وجودها؟
وإذا ما تقدّم قاض معيّن في موقع محقّق عدلي في جريمة ما لطلب يد شقيقة المدعى عليه ولم يتنحّ من تلقاء نفسه مع أنّ القانون يفرض عليه ذلك حكْمًا، فكيف يمكن ردّه وليس لدى القضاء العدلي مرجع قضائي قادر على ردّه؟
وهل يعقل أنّه يمكن ردّ أيّ عضو في المجلس العدلي، بينما لا يمكن فعل ذلك مع المحقّق العدلي، لذلك ارتأى المشرّع تعيين قضاة إضافيين في مرسوم تعيين أربعة قضاة من محكمة التمييز ليكوّنوا مع الرئيس الأوّل لمحكمة التمييز هيئة المجلس العدلي الخماسية؟
وهل يعقل أنّ الأحكام الصادرة عن المجلس العدلي باتت تقبل الإعتراض وإعادة المحاكمة بعدما كانت سيفًا قاتلًا للعدالة لا تقبل أيّ طريق من طرق المراجعة العادية وغير العادية، بينما لا توجد مرجعية قضائية لاستئناف قرارات المحقّق العدلي؟ وقدّ تمّ التخفيف من هول أحكام المجلس العدلي بتعديل الفقرة الثانية من المادة 366 من قانون أصول المحاكمات الجزائية بموجب القانون رقم 711 تاريخ 2005/12/9 بعد ثبوت براءة المحكوم الفلسطيني يوسف شعبان وظهور قتلة السكرتير الأوّل في السفارة الأردنية في بيروت نائب عمران المعايطة في 29 كانون الثاني 1994 ومحاكمتهم أمام محكمة أمن الدولة الأردنية.
وهل يعقل أن يبقى المحقّق العدلي طليق اليدين قانونًا عندما يخطئ ولا يحاسب من خلال قضاة أعلى منه في الموقع والدرجة بتصويب الخطأ القانوني المرتكب منه عن قناعة وسبق إصرار وترصّد أو عن جهل بالقانون؟وما دام النصّ غائبًا ومغيّبًا لردّ المحقق العدلي لأسباب مبهمة وغير مفهومة، ألا يمكن الإجتهاد وهو تعويض عن فظاعة وبشاعة الإستنكاف عن إحقاق الحقّ، أم أنّ المراد إبقاء المحقّق العدلي حاكمًا بأمره وامبراطورًا لأسباب سياسية تراعي حاليًا ملفّ انفجار مرفأ بيروت على ما في ذلك من مخاطر جمّة على نزاهة القضاء؟
أسئلة واستفسارات كثيرة يجب أن تحرّك المجلس النيابي للقيام بالتعديلات اللازمة لمهام المحقّق العدلي تقديرًا للعدالة والإنسانية في الدرجة الأولى.
وبعدما حادت محكمة الاستئناف المدنية المؤلّفة من القضاة نسيب إيليا وميريام شمس الدين وروزين حجيلي عن جادة الحقّ المستقيم باستعجالها البتّ في طلبات ردّ المحقّق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار مرتكبة خطأ قانونيًا فادحًا يستوجب مدعاة الدولة بشأن المسؤولية الناجمة عن أعمال القضاة، ها هي محكمة التمييز المدنية تسلك الطريق نفسه بمنحى آخر وتقترف خطأ جسيمًا لا يستهان به.
فمحكمة الإستئناف المدنية فصلت في طلبات الردّ المقدّمة من النوّاب المدعى عليهم نهاد المشنوق وغازي زعيتر وعلي حسن خليل قبل أن تبلّغ الخصوم بهذه الطلبات إنفاذًا لمضمون المادة 126 من قانون أصول المحاكمات المدنية التي تؤكّد وجوب تبليغ القاضي المعني والأطراف في القضيّة مع إمهالهم فترة ثلاثة أيّام لإعطاء ملاحظاتهم وجوابهم القانوني الكافي من منظارهم، وكأنّها في سرعة من أمرها تسابق الزمن وتستعجل إستصدار قرارها قبل معاودة هؤلاء النوّاب الإحتماء بكهف الحصانات النيابية.
فهل من المنطق أن ينصبّ اهتمام محكمة الاستئناف المدنية على إطلاق موقف من طلبّ ردّ المحقّق العدلي حتّى ولو لم تكن مختصة نوعيًا، بتسريع عملية الفصل في هذا الطلب وقبل اكتمال التبليغات؟ وهل وظيفة محكمة الاستئناف المدنية أن تحمي المحقّق العدلي المحصّن بالقانون بشكل مستغرب، أو أن تنفّذ القانون وأن تلتزم بما تقوله النصوص القانونية؟ وإذا كانت هذه النصوص من دون جدوى فلماذا وضعها المشرّع؟ وهل وضعت لزيادة عدد الصفحات والمواد في قوانين الأصول التي ترعى الإجراءات الواجبة؟ وكيف تقول المحكمة رأيها من دون سماع رأيّ كلّ الخصوم حتّى ولو كانوا مؤيّدين لموقف المحقّق العدلي؟
وبعد أسبوع على صدور “قرار النكسة” لمحكمة الاستئناف المدنية يوم الإثنين الواقع فيه 4 تشرين الأوّل 2021، أصدرت محكمة التمييز المدنية بغرفتها الخامسة والمؤلّفة من القضاة جانيت حنا رئيسة منتدبة، ونويل كرباج وجوزف عجّاقة مستشارين، قرارها في طلب الردّ المقدّم من زعيتر وحسن خليل نفسيهما بحقّ القاضي البيطار، وفيه خطأ قانوني جسيم أيضًا، لا بل إنّ هذه المحكمة سارعت إلى إصدار قرارها قبل موعد جلسة التحقيق والإستجواب المحدّدة من البيطار لهذين النائبين ولو تمهّلت قليلًا وأمعنت النظر بعض الشيء في ما كتبته من سطور وحروف لراجعت حساباتها قليلًا ولما أوقعت نفسها في خطأ قانوني صريح.
فمحكمة التمييز التي هي محكمة قانون، تقول في متن قرارها إنّه ليس لها أن تضع يدها على طلب الردّ بصورة قانونية، فهل يعقل أن يصدر مثل هذا الكلام عن أعلى محكمة؟
ولم تكتف بذلك بل أتبعته بخطأ آخر، فقضاتها يعرفون أنّهم يملكون حقّ التقدير في مدى وجوب إبلاغ القاضي المطلوب ردّه، فهل الأصول المدنية الجوهرية باتت من الأمور التقديرية؟
ثمّ أنّه كان يتوجّب على محكمة التمييز أن تقول رأيها بعد حصول التبليغ وليس قبله، إذ ليس من وظيفتها إلّا الإلتزام بما يقوله القانون عندما يكون واضحًا وشفّافًا وصريحًا، لذلك كان يفضّل أن تقف المحكمة على رأي المحقّق العدلي بعد تبليغه طلب الردّ ثمّ تحدّد موقفها النهائي وتقول رأيها بكلّ تجرّد وموضوعية.
وبعدما كانت محكمة الاستئناف المدنية قد نأت بنفسها عن تبليغ الخصوم، إعترفت محكمة التمييز المدنية بوجوب تبليغ القاضي المطلوب ردّه والخصوم معًا، لكنّها لم تفعل لجهة تبليغ القاضي بداعي أنّه ليس من قضاة محكمة التمييز.
إنّ البتّ بطلب الردّ لا يكون على طريقة الفصل في “الأمر على عريضة” بدون دعوة الخصم وسماعه، والفارق القانوني بينهما واضح، ومحكمة التمييز المدنية بغرفتها الخامسة مولجة بالنظر في طلبات العجلة، ممّا يعني أنّه يجب أن تكون خريطة طريق عمل المحكمة واضحة لقضاتها الثلاثة والرئيسة بينهم آتية من محكمة استئناف تنظر في قضايا العجلة والقرارات الصادرة عن قضاة الأمور المستعجلة، فهل يتساوى قرارها مع القانون؟
وسارت محكمة التمييز على خطى محكمة الاستئناف في سرعة البتّ بطلب الردّ إنتصارًا للمحقّق العدلي من أجل إتاحة الفرصة أمامه لعقد جلسة الإستجواب والحؤول دون تأجيلها وكأنّ وظيفتها هي الأخرى، إستمرار التحقيق ولو كان موسومًا بالخطأ.
على أنّ أخطر ما في قرار محكمة التمييز المدنية هو دخولها في أساس الملفّ وليس من حقّها أن تفعل ذلك على الإطلاق، بقولها إنّ” حسن سير العدالة ينفي إمكانية تقرير إبلاغ طلب الردّ وترتيب النتائج الملازمة له، وأهمّها توقّف القاضي عن متابعة النظر في القضيّة إلى أن يفصل في الطلب” وكأنّ المحكمة تبدو بهذه العبارة “ملكة أكثر من الملك” وليس هناك أيّ داع للظهور بهذا المنظر لأنّه يخرج عن صلاحياتها.
موقع “محكمة” ينشر النصّ الكامل لقرار محكمة التمييز المدنية على الشكل التالي:
قرار 2021/86 تاريخ 2021/10/11
أساس 2021/61
طالبا الردّ: النائب علي حسن خليل والنائب غازي زعيتر
المطلوب ردّه: المحقّق العدلي الرئيس طارق البيطار.
قـرار
باسم الشعب اللبناني
إنّ محكمة التمييز المدنية، غرفتها الخامسة، المؤلّفة من القضاة جانيت حنا رئيسًا منتدبًا ونويل كرباج وجوزف عجّاقة مستشارين،
لدى والتدقيق والمذاكرة ،
حيث تبيّن أنّه بتاريخ 2021/5/18 تقدّم الوزير السابق النائب الأستاذ علي حسن خليل والوزير السابق النائب الأستاذ غازي زعيتر، وكيلاهما النقيبة أمل حدّاد والأستاذ رشاد سلامة، بطلب ردّ المحقّق العدلي، القاضي طارق البيطار، في الدعوى المحالة على المجلس العدلي بـــــــــــرقم 2020/1 (إنفجار مرفأ بیروت بتاريخ 2020/8/4)
وعرض طالبا الردّ الوقائع والظروف والمعطيات التي تشكّل برأيهما سببًا لردّ المحقّق العدلي وطلبا في الختام،
أوّلًا: إنفاذ المادة / ١٢٥ / أ.م.م. لجهة إبلاغ المطلوب ردّه النسخة المرفقة بالدعوى وإلزام القاضي المطلوب ردّه بوقف متابعة النظر في القضيّة،
ثانيًا: إعتبار المحقّق العدلي بالصلاحيات الملحوظة بالمادة / 363 / أ.م.ج. وهي صلاحيات قاضي التحقيق والهيئة الاتهامية بمثابة قاض من قضاة النيابة العامة التمييزية وتنطبق عليه أحكام المادة / ١٢٨ / أ.م.م لجهة الردّ والتنحّي وبالتالي إعلان اختصاص المحكمة للنظر بالطلب الحالي وجواز ردّ المحقّق العدلي،
ثالثًا: إبلاغ الخصوم، فور تزويد الجهة طالبة الردّ بأسمائهم وعناوينهم وفقًا للأصول إنفاذًا للمادة /١٢٦/أ.م.م.،
رابعًا: إنفاذ المادة / ١٢١ / أ.م.م. وإلزام المطلوب ردّه بالتنحّي عملًا بالنصّ الآمر للمادة المذكورة لتوفّر الفقرتين / 6 / و / ٧ / من المادة / ١٢٠ / أ.م.م.،
خامسًا: قبول طلب الردّ أساسًا وإعطاء القرار بردّ المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار في الدعوى العالقة أمام المجلس العدلي برقم 2020/1،
بناء عليه،
حيث إنّ الطلب الحاضر يرمي إلى ردّ المحقّق العدلي، القاضي طارق البيطار، في الدعوى المحالة على المجلس العدلي رقم 2020/1 (إنفجار مرفأ بيروت تاريخ 2020/8/4)، وإنّ طالبي الردّ يطلبان إبلاغ هذا الطلب إلى القاضي المطلوب ردّه لكي يتوقّف عن متابعة النظر في القضيّة وفقًا لما تنصّ عليه المادة ١٢٥ أ.م.م. كما يطلبان إبلاغ الخصوم وفقًا للمادة ١٢٦ أ.م.م. توصّلًا لإعطاء القرار بردّ القاضي البيطار عن ملفّ الدعوى المذكورة ،
وحيث إذا كان تقديم طلب ردّ القاضي يستدعي إبلاغ هذا الطلب من القاضي المطلوب ردّه ومن الخصوم تمهيدًا للبتّ به، فإنّه ليس لهذه المحكمة ان تضع يدها على طلب الردّ وأن تسير بإجراءاته، بدءًا بإبلاغ الطلب إلى القاضي والخصوم، ما لم يكن القاضي المطلوب ردّه من قضاة محكمة التمييز وفقًا لما تنصّ عليه الفقرة الأخيرة من المادة ١٢٣ أ.م.م.، إذ إنّ حسن سير العدالة ينفي إمكانية تقرير إبلاغ طلب الردّ وترتيب النتائج الملازمة له، وأهمّها توقّف القاضي عن متابعة النظر في القضيّة إلى أن يفصل في الطلب (المادة ١٢٥ أ.م.م.)، ما لم تكن المحكمة قد وضعت يدها على طلب الردّ بصورة قانونية،
وحيث إنّ المحقّق العدلي المطلوب ردّه ليس من عداد قضاة محكمة التمييز، وإنّ الصلاحيات الممنوحة له بموجب أحكام المادة 363 أ.م.ج. لا تجعله تابعًا للنيابة العامة التمييزية ولا قاضيًا من قضاة محكمة التمييز، وإنّ طلب ردّه لا يقدّم بالتالي أمام هذه المحكمة وفقًا لأحكام الفقرة الأخيرة من المادة ١٢٣ أ.م.م.،
وحيث إنّ هذه المحكمة لا تكون قد وضعت يدها بصورة قانونية على طلب الردّ الحاضر، ولا يمكنها من ثمّ السير بإجراءاته والبتّ به،
لذلك
تقرّر بالإتفاق: عدم قبول طلب الردّ الحاضر للأسباب المبيّنة في متن القرار وتضمين طالبي الردّ الرسوم والمصاريف.
قرارًا صدر في بيروت بتاريخ 2021/10/11.
“محكمة” – الإثنين في 2021/10/11