المحكمة العسكرية: العمالة ليست وجهة نظر.. عينٌ على عين العدو/فداء عبد الفتاح
فداء عبد الفتاح*:
شهد لبنان بعد حرب تموز 2006 تفكيك عدد كبير من شبكات التجسّس التي تبيّن أنه كان لها دور في تحديد بعض المواقع التي تعرضت للقصف حينها. لم يوفّر العدو وسيلة إلّا واستخدمها لاختراق الجبهة الداخلية، إذ استغل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السيّئة، والأزمة الطائفية التي أجّجها البعض وكان أداة لتأزيم الوضع الداخلي، بخاصة بعد فشله في تحقيق أي انتصار في العدوان، فبات استهداف الجبهة الداخلية حرباً غير مباشرة من جبهات عدة. كيف ذلك؟
تداولت مواقع التواصل الاجتماعي أخيراً عناوين لحملة توعية رفعت شعارات مثل «ما تكون للعدو عين» و«انتبه هاتفك الذكي جاسوس» وغيرهما من العبارات التي تحثّ المواطنين على الانتباه لكل ما يمكن أن يخدم العدو الإسرائيلي عن غير قصد، وذلك على خلفية نشر فيديو يظهر فيه إطلاق صاروخ من أحد المواقع باتجاه الأراضي المحتلة، ما كشف المنطقة التي خرج منها الصاروخ وأدى إلى قصفها. ودعت الحملة سكان القرى إلى إطفاء كاميرات المراقبة خصوصاً تلك الموجهة إلى الطرقات العامة لعدم كشفها أمام العدو، وعدم كشف حركة المواطنين والمقاومين بعدما أعمى رجال المقاومة الإسلامية في لبنان عيون العدو باستهدافهم معظم نقاط المراقبة على الشريط الحدودي المحتلّ. وهذه التدابير هي من بديهيات كل معركة مع عدو لا يوفر أسلوباً لاختراق مجتمعنا وكشف بيئة المقاومة وزرعها بالجواسيس والعملاء.
تطبيقات لتأمين عمل أم عميل
تطبيق «لينكد إن» هو أحد التطبيقات التي تستخدم عالمياً لتأمين فرص عمل، وتبيّن أخيراً في عدد من الملفات المحالة أمام المحكمة العسكرية أنه جرى استغلال هذا التطبيق لتوريط أشخاص وتجنيدهم كعملاء. ادّعت النيابة العامة العسكرية على عدد من هؤلاء الأشخاص، وإن لم يؤدِّ هذا التواصل إلى إعطاء العدو معلومات أمنية، وأُحيلوا إلى المحاكمة أمام المحكمة العسكرية لمجرد التواصل مع المشغّلين، مع علمهم بأنهم إسرائيليون أو يعملون لمصلحة العدو. من المهم جداً أن نوضح في الآتي ما المقصود بالتواصل الذي على أساسه تدّعي النيابة العامة العسكرية بجرم التواصل مع العدو.
ما هو التواصل الذي يُعدّ جرماً جزائياً يعاقب عليه القانون؟
هناك فرق كبير بين من يبادر للاتصال ومن يتلقى الاتصال، كما هناك فرق بين من يتلقى الاتصال وهو عالم بالجهة المتصلة وبمضمون اتصالها ولا يبلّغ عنها ويرضى باستقبال اتصال آخر، ومن يتلقى اتصالاً مشبوهاً ويعمد فوراً للتبليغ عنه. وفقاً لهذه المعطيات يُحدّد ارتكاب الجرم من عدمه ويُعاقب المرتكب استناداً إلى قانون العقوبات بالأشغال الشاقة المؤقتة (المادة 278).
فقد يستغل المشغّلون ما تحتويه بعض السير الذاتية لجمع المعلومات ومحاولة الوصول إلى «الضحية» عبر استغلال حاجاته، سواء المادية أو الاجتماعية أو غير ذلك من أساليب الاستدراج التي قد يقع فيها عدد من الأشخاص، لأن أجهزة الاستخبارات تجمع كل المعلومات المنشورة على شبكة الإنترنت وتربطها ببعضها لتتمكن من فهم جميع جوانب الشخصية المستهدَفة ومن أي باب يمكن الدخول إليها لتجنيدها، وقد يأخذ هذا العمل شهوراً وسنين ليصبح العميل جاهزاً للعمل على الأرض.
الساحة مفتوحة لتجنيد العملاء
أصبحت الجبهة الداخلية أكثر عرضة للاختراق من العدو الإسرائيلي نتيجة انتشار الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي واستخدامها بشكل كبير من شرائح المجتمع كافة، ونتيجة غياب التوعية والإرشاد حول كيفية الاستخدام الآمن لها، سواء على الصعيد الشخصي أو على صعيد الأمن القومي، بالإضافة إلى الواقع السياسي المأزوم والانقسام الحاد بين مكونات المجتمع الواحد والتحريض المذهبي والطائفي وعدم فهم حدود حرية الرأي وضوابطها، بخاصة في ما يتعلق بالترويج للعدو. إذ جرى الادّعاء على عدد من الأشخاص وإحالتهم إلى المحاكمة أمام المحكمة العسكرية استناداً إلى نص المادة 295 من قانون العقوبات، ليس بسبب تواصلهم مع العدو، وإنما بسبب التفاخر بالترويج له، كمن يتابع صفحاتهم ويعبر عن إعجابه بها أو من ينشر كلاماً أو فيديوهات يفاخر فيها بأنه لا يعدّ «إسرائيل» عدواً. وقد ادعى مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية أخيراً على شاب نشر عبر حسابه على «تيك توك» فيديو اختيار الأعلام واختار علم «إسرائيل» متباهياً بذلك.
كيف تتحرك النيابة العامة العسكرية في جرم التعامل مع العدو؟
الخيانة والتجسس والصلات غير المشروعة بالعدو جرائم تمس بأمن الدولة الخارجي ويعاقب عليها قانون العقوبات اللبناني بعقوبات تصل إلى الإعدام. وقد حصر القانون الرقم 24 قانون تنظيم «القضاء العسكري» في المادة 24 منه صلاحية المحكمة العسكرية (محكمة استثنائية) بمحاكمة مرتكبي هذه الجرائم.
تتحرك النيابة العامة العسكرية بناءً على إخبار أو شكوى بوقوع جرم التعامل أو الاشتباه فيه، وتستعين النيابة العامة العسكرية بالأجهزة الأمنية التي تمتلك قدرات وتقنيات للتحقيق في هذه الملفات، خصوصاً أن معظمها تجري عبر وسائل الاتصال والتواصل.
في هذا النوع من الجرائم تتحرك النيابة العامة العسكرية لمجرد الشبهة، وهذا أمر لا بد منه لخطورة الجرم المُرتكب وانعكاساته السلبية على المجتمع والأمن القومي. كما ذكرنا سالفاً، كُشف عدد كبير من شبكات التجسس بعد حرب تموز 2006 كما أوقفت شخصيات معروفة أثارت ملفاتهم جدلاً واسعاً لدى الرأي العام بسبب الاستنسابية في تطبيق القانون، كملف العميد فايز كرم والمخرج زياد دويري وتلفيق ملف الممثل زياد عيتاني. صدرت أحكام مخففة في ملفات وأحكام مشددة في ملفات أخرى، وكان لملف عامر الفاخوري حصة الأسد إذ منعت عنه المحاكمة لسقوط الجرم بمرور الزمن.فهل يسقط جرم العمالة بمرور الزمن؟
“إن جرم العمالة يجب ألا يسقط بمرور الزمن»، وفقاً لما صرح به مصدر قضائي رفيع، فعلى مجلس النواب أن يؤدي دوره في الحفاظ على أمن الدولة الخارجي والداخلي بسنّ قانون بمفعول رجعي يعدّ أن جرم العمالة هو من الجرائم التي لا تسقط بمرور الزمن. «المحكمة العسكرية تطبق القانون وليست من تشرّعه، وفي حال وجد في النص الواجب التطبيق شوائب، فهذا ليس من مسؤولية المحكمة الملزمة بتطبيق النص الذي قد يكون في بعض الملفات ليس عادلاً.”
قانون العقوبات ينص على أن الدخول إلى بلاد العدو من دون إذن جنحة، والترويج للعدو عبر نشر ما يؤدي إلى إضعاف الشعور القومي جناية. هذا الخلل في قانون تجريم العمالة مع العدو يتطلب تعديلاً للنص وتشديداً للعقوبة كي لا يتمكن أي عميل وخائن للوطن من الاستفادة من مرور الزمن على الجرم كما حدث في ملف العميل فاخوري.
فالأحكام التي تصدر بناءً على معطيات الملف والأدلة الواردة فيه ولا تستطيع المحكمة أن تشدّد العقوبة أو تخففها خلافاً للنص، ولكن في إمكانها أن تدقق بالوصف الجرمي للفعل وأن تأخذ بنتيجة الفعل المرتكب قبل تحديد الجرم والعقوبة وكل ذلك ضمن مضمون النص القانوني الواجب التطبيق. وتؤخذ في الحسبان القاعدة القانونية في حال تعارضت القوانين مع تطبيق القانون الأصلح للمتهم، مهما كان نوع الجرم المرتكب، لذلك لا بدّ من تعديل القانون بمفعول رجعي على ارتكاب جرم التعامل مع العدو.
صليبا الحاج
يقول المحامي صليبا الحاج لـ«القوس» إنه لا يوجد معايير واضحة لكيفية الملاحقة في جرم التعامل مع العدو، وإن التدخل السياسي في هذه الملفات كبير جداً، فمن غير المقبول أن يُلاحق شباب بجرم العمالة لمجرد ولوجهم لمواقع عالمية بهدف البحث عن فرصة عمل ليجدوا أنفسهم ضحايا مشغّلين حاولوا تجنيدهم من دون أن يؤدي هذا التواصل إلى أي نتيجة أو إلى أي فعل مسيء للأمن القومي. وبدلاً من ملاحقة هؤلاء الشباب، من المفترض أن تلاحق الأجهزة الأمنية هذه الأرقام المشبوهة وتعمل على حظرها، خصوصاً أن بعض الشبان أغرتهم عروض العمل المقدمة إليهم ليتبيّنوا لاحقاً أن صاحب الموقع أو الشركة التي اتصلت بهم تعمل كمشغّل لمصلحة العدو الإسرائيلي، وهذه المواقع منتشرة في كل العالم والآلاف يلجؤون إليها للبحث عن فرصة عمل.
ويسأل صليبا: هل ستلاحق المحكمة العسكرية اللبنانيين العاملين في دول مطبّعة مع العدو في حال تبيّن أن الشركات التي يعملون بها فيها إسرائيليون أو تتعامل مع إسرائيل؟ وماذا يفعل العامل اللبناني بعد توقيعه عقود عمل وتبيّن أن زملاء عمله إسرائيليون، هل يترك العمل خوفاً من الملاحقة في بلاده؟
عندما طرحنا هذين السؤالين على مصدر قضائي، أجاب إنه جرت ملاحقة من يعمل في شركة تتعامل مع «إسرائيل» في إحدى الدول العربية المطبّعة مع العدو وهو عالمٌ بذلك، وإن هذا الأمر لا يمكن السماح به لأنه باب من أبواب التطبيع غير المباشر عبر الاعتقاد أن العمل في الدول العربية المطبّعة وفي شركات تتعامل مع العدو أو تابعة له أمر طبيعي ومقبول، لكنه يؤدي في النهاية إلى استدراج شبابنا بحجة «الحاجة إلى العمل والرواتب المرتفعة للقبول بالتعامل مع العدو.”
بين حق الدفاع المقدس عن المتهم ومسؤولية الحفاظ على أمن الوطن الداخلي والخارجي وغياب البرامج الهادفة إلى تعزيز الشعور بالانتماء الوطني، وتدعيم الجبهة الداخلية لناحية تحصين المواطنين من إغراءات العمالة التي يقع فيها ضعاف النفوس والانتماء الوطني، وبسبب غياب إستراتيجيات الأمن الوقائي، بات من اللازم والضروري العمل على تعديل القوانين لتصبح أكثر وضوحاً لجهة آليات المراقبة والمحاسبة وتحديد آليات الملاحقة، وحماية المواطنين وتحصينهم بدلاً من ملاحقتهم لمجرد الشبهة في حالات، وتركهم رغم تورطهم بتعامل مباشر في ملفات أخرى بحجة النصوص القانونية ومعطيات الملف والتدخل السياسي.
فجرم التعامل مع العدو بكل أشكاله المباشرة وغير المباشرة وبجميع الوسائل هو جرم جنائي يجب ألا يسقط بمرور الزمن، وأن يعاقب مرتكبه مهما طالت المدة بعد تعديل القانون وتوضيح الآليات والمعايير بعيداً عن أي استنسابية أو ازدواجية لتحصين جبهة لبنان الداخلية وحمايتها من أي اختراق، وتأكيد مسؤوليتنا تجاه تعزيز الأمن الوقائي حماية لمجتمعنا وتعزيزاً للروح الوطنية.
* المصدر: ملحق “القوس” الصادر عن صحيفة “الأخبار”.
“محكمة” – السبت في 2023/11/4