المصارف اللبنانية تنتهك العقود الموقّعة مع المودعين تحت ستار القانون/باسكال ضاهر
المحامي الدكتور باسكال فؤاد ضاهر:
يدور البحث الراهن حول مدى قانونية تذرّع المصارف بأحكام المادة /192/ من قانون النقد والتسليف، والمادة /301/ من قانون الموجبات والعقود للقول بقانونية الإيفاء بالليرة اللبنانية بدلاً من الدولار الأميركي .
أثناء أزمة شحّ الدولار الاميركي التي يعيشها اللبنانيون، صدح قول البعض أنّ القانون اللبناني يعاقب جزائياً كلّ من يمتنع عن قبول العملة الوطنية، الأمر الذي ترافق مع إفراغ المصارف لماكينات الصرّاف الآلية (ATM) من العملة الخضراء. وأصبح المواطن حامل بطاقة الدفع الإلكترونية بالعملة الأجنبية (لا سيّما بطاقات الصرّاف الآلي Debit Card)، لا يستطيع السحب سوى بالعملة الوطنية، وكان اللافت أيضاً توقيت هذا الكلام المساق بمعرض معاناة اللبنانيين الهالعين إلى شراء الدولار المرتفع من السوق الموازي بغية تسديد سنداتهم بالدولار لدى المصارف.
إنّ ما تمّ بيانه يحمل في طيّاته وجهين؛ الظاهر كلامٌ منّمقٌ يشدّ على عصب اللحمة الوطنية عبر الهمز من نافذة النقد اللبناني. أمّا حقيقة الباطن فليست سوى خشبة خلاص للمصارف للهروب من التزاماتها العقدية الموقّعة مع عملائها أصحاب الحسابات بالعملة الأجنبية، بغية إلزامهم قبول الإيفاء بالليرة اللبنانية عوضاً عن العملة الأجنبية موضوع عقد فتح الحساب.
وحجّة القائلين بذلك هي مادتان: الأولى أحكام المادة /192/ من قانون النقد والتسليف، التي تعاقب الممتنع عن قبول العملة اللبنانية، والثانية أحكام المادة /301/ من قانون الموجبات عقود والتي اعتبرت أنّه عندما يكون الدَيْن مبلغاً من النقود، يجب إيفاؤه من عملة البلاد. علماً أنّ أحكام هذه المادة ضاربة في القِدم وقد تمّ وضعها في الثلاثينيات من القرن المنصرم، وإنّ من يطّلع على تاريخ هذه المادة يعي أنّ الإرتكان إلى أحكامها يكون غير ذي جدوى.
أمّا ردّنا القانوني على أصحاب هذا الرأي غير السوي، الآتي بيانه:
يُستنبط من أحكام المادة /221/ من قانون الموجبات والعقود مبدأٌ قانونيٌ عامٌ وهو “العقد شريعة المتعاقدين”، وهو ما يعرف باللاتينية Pacta sunt servanda. ومعنى ذلك أنّ العقد الموقّع يُعتبر القانون الخاص الأسمى الواجب التقيّد بمنطوقه طالما أنّه غير مخالف لأحكام النظام العام. ويوجب على فريقيه إلتزام عدم الحيد عن مندرجاته، أو الإحتيال على آلية تنفيذه، لأنّ القوّة والمكانة التي منحه إيّاها القانون جعلته يعلو على أيّ نصّ آخر سنداً للمبدأ القانوني “النصّ الخاص يقدّم في التطبيق على النصّ العام”. وعلى ما تقدّم، لا يسع أيّ طرف في العلاقة التعاقدية خرق وانتهاك مندرجات أحكام هذا العقد.
هذا من ناحية، وأما من ناحية أخرى، فقد وضعت الفقرة الأولى من أحكام المادة /299/ من قانون الموجبات والعقود مساراً حكمياً في تنفيذ العقود يقتضي بموجبه إيفاء الشيء المستحقّ نفسه؛ وشدّدت على أنّه لا يُجبر الدائن على قبول غير هذا الشيء المستحقّ حتّى وإن كان أعلى قيمة. أيّ أنّ عقد الحساب المدرج بالعملة الأجنبية لدى المصرف يوجب عليه إلتزام التسديد من المودع بالعملة عينها، وذلك حتّى في الحالة التي يكون فيها هذا الإيفاء المقترح من المصرف (المدين) أعلى قيمة من المتوجّب لمصلحة المودع (الدائن)،
إستناداً إلى ما تقدّم، نرى أنّ ما تجريه المصارف مع أصحاب بطاقات السحب والدفع الإلكترونية بالدولار الأميركي (لا سيّما بطاقات الصرّاف الآلي Debit Card) لناحية إلزامهم قبول الإيفاء بالليرة اللبنانية مخالفٌ “لأساسه العقدي”. وكان الأجدى بالمصارف، بغية الحؤول دون ارتكابها هذه المخالفة، التفريق في ماكينات السحب بين العميل حامل بطاقة الدولار الأميركي، وبين من يملك بطاقة الليرة اللبنانية، بتقييد حامل بطاقة الليرة اللبنانية بسحب الدولار في ماكينات الصرّاف الآلي (ATM) وليس العكس.
والغرابة بمكان، هو التناقض الساطع في تصرّفات المصارف والمحدّد بالآتي:
بما أنّ المصارف تفرض مندرجات عقد فتح الحساب المصرفي على العميل؛ وبما أنّ الإيداع بالعملة الأجنبية يوجب بكنهه التزام الإيفاء بهذه العملة دون غيرها؛ وبما أنّ المصارف بتصرّفاتها باتت تحول دون تحقيق هذا الإيفاء لأنّها أفرغت العملة الأجنبية من ماكينات السحب، تكون بفعلها قد انتهكت التزامها العقدي موقعةً نفسها في التناقض، لأنّها من ناحية ألزمت العميل قبول مندرجات العقد المصاغ منها، ومن ناحية أخرى تسعى إلى خرقه، الأمر الذي يدفعنا إلى القول إنّ هذه التصرّفات تقع تحت طائلة المسؤولية، سيّما أنّ إتمام إيفاء الشيء المستحقّ نفسه وبالوقت المحدّد هو المبدأ، وأيّ خروجٍ عن نطاقه يقع تحت عباءة المسؤولية العقدية أمام القضاء.
“محكمة” – الجمعة في 2019/11/29
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.