خاص –”محكمة”:
قدّم المحامون ديالا شحادة، وواصف الحركة وعبد السلام فتح الله ووائل همام شكوى إلى النائب العام لدى محكمة التمييز القاضي غسّان عويدات اتخذوا فيها صفة الإدعاء الشخصي ضدّ رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس مجلس شورى الدولة القاضي فادي الياس، وحاكم المصرف المركزي رياض سلامة بجرم “التماس طلب من قاضٍ يتعلّق بمراجعة قضائية (التدخّل في عمل القضاء)” – الجرم الموصوف المنصوص عنه في المادة /419/ المعدّلة من قانون عقوبات اللبناني.
وسارع القاضي عويدات إلى إصدار قرار بحفظ هذه الشكوى جاء على الشكل التالي:“تبيّن أنّ المدعين المحامين: ديالا شحادة، واصف الحركة، عبد السلام فتاح ووائل همام كانوا قد تقدّموا بشكوى مع اتخاذ صفة الإدعاء الشخصي ضدّ كلّ من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس شورى الدولة القاضي فادي الياس وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة بجرم المادة 419 عقوبات.
وحيث إنّ المادة 419 عقوبات تنصّ على ما يلي: “من التمس من قاضٍ أو محكّم أو من شخص يقوم بمهمّة قضائية أو بمهمة تحكيمية، بأي وسيلة، أي طلب متعلق بدعوى أو بمراجعة قضائية، يُعاقب بالحبس من ستّة أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة تتراوح بين عشرة أضعاف الحدّ الأدنى للأجور ومئة ضعفه. تُشدد هذه العقوبة وفق أحكام الـمادة 257 من قانون العقوبات اذا كان الفاعل أو الشريك أو الـمتدخل أو الـمحرض موظفاً وفق الـمعنى الـمقصود في الـمادة 350 من هذا القانون”.
وحيث إنّ المدعين لا يحوزون على صفة المتضرّر من الفعل المدلى به بكونه مشكّلًا لجرم المادة 419 عقوبات موضوع هذه الشكوى لأنّ صفة المتضرّر لا تمنح سوى لمن أصابه ضرر شخصي ومباشر من أيّ جرم ممّا يقتضي معه اعتبار هذه الشكوى بمثابة إخبار.
وحيث إنّ مجلس القضايا في مجلس شورى الدولة قد أقرّ مبدأ التعاون بين القضاء والإدارة في مراجعات الإبطال لتجاوز حدّ السلطة بحيث يجوز للقاضي الإداري إرشاد الإدارة نحو السبل الواجب سلوكها لتأمين احترام مبدأ المشروعية (مجلس القضايا قرار رقم 2002/484 – 2003 تاريخ 2003/5/7)،
وحيث إنّ دعوة السيّد رئيس الجمهورية كلًّا من السيّد رئيس مجلس شورى الدولة الذي يحوز في الوقت عينه على صفة رئيس مكتب مجلس شورى الدولة، والسيّد حاكم مصرف لبنان إلى اجتماع في قصر بعبدا إثر البلبلة التي أحدثها في الشارع قرار وقف تنفيذ أحد التعاميم الصادرة عن مصرف لبنان لا يشكّل التماسًا لأيّ طلب متعلّق بمراجعة قضائية”.
لذلك نقرّر حفظ الشكوى.”
ماذا جاء في الشكوى المقدّمة من المحامين؟
أوّلًا: في الوقائع:
1. بتاريخ 2021/6/1، أصدر مجلس شورى الدولة قرارًا إعداديًا قضى بوقف تنفيذ التعميم رقم /13318/ الصادر عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بتاريخ 2021/3/24، وهو التعميم الذي مدّد العمل بالقرار الأساسي رقم /13221/ الصادر بتاريخ 2020/4/21 الذي استحدث بدعة “التسديد البدلي” للمودعين في المصارف اللبنانية لتسهيل استمرارها في حبس ودائعهم بالعملة الأجنبية والتصرّف بها خلافًا للدستور وقانون النقد والتسليف وقانون الموجبات والعقود وغيرها من القوانين اللبنانية المرعية، وذلك في إطار المراجعة الإدارية رقم 2021/24551 المقدّمة من المحامين الأساتذة الدكتور باسكال ضاهر وشربل شبير وجيسيكا القصيفي بهدف إبطال التعميم المذكور وجميع مفاعيله؛
2. وبتاريخ 2021/6/2، أصدر مصرف لبنان بيانًا وجّهه إلى المصارف العاملة في لبنان وجاء فيه:”بعد أن تبلّغ مصرف لبنان القرار الإعدادي لمجلس شورى الدولة رقم 2020/213-2021 نهار اليوم الواقع فيه 2021/6/2، قرّر المصرف المركزي تعليق العمل بالتعميم رقم ١٥١ الذي يسمح للمودعين بسحب أموالهم من حساباتهم بالدولار على سعر 3900 ل.ل. للدولار إستنادًا لهذا القرار الإعدادي الصادر عن مجلس شورى”؛
3. وبتاريخ 2021/6/3، لبّى المدعى عليه الثاني رئيس مجلس شورى الدولة القاضي فادي الياس دعوة المدعى عليه الأوّل رئيس الجمهورية ميشال عون إلى القصر الجمهوري في بعبدا، حيث اجتمعا حول طاولةٍ واحدة مع المدعى عليه الثالث حاكم صرف لبنان المركزي رياض سلامة ومستشار رئيس الجمهورية للشؤون القانونية المحامي سليم جريصاتي، وذلك لمناقشة القرار الإعدادي القضائي الصادر بوجه المدعى عليه الثالث عن الغرفة القضائية التي يرأسها المدعى عليه الأوّل. ودامَ لنحو ساعتين الاجتماع الذي أسماه المجتمعون أو قبلوا بتسميته “اللقاء المالي-القضائي” (وكأنّ من شأن هذه البدعة اللغوية أن تشرّع ما جرّمه القانون) قبل أن يخرجَ منه المدعى عليه الثالث ناطقًا بالحكم على الشعب اللبناني: اعتبار القرار الإعدادي المُشار إليه في الفقرة (1) من الشكوى الحاضرة وكأنه لم يكنْ (!)، في انتهاكٍ سافرٍ لاستقلالية القضاء لم يسبق للبنان أن شهدَه لا في زمن الانتداب الفرنسي ولا في زمن الحرب الأهلية ولا في زمن الوصاية السورية!
4. وفي المؤتمر الصحافي الموجز الذي أعقب اللقاء-الجريمة وبثته مباشرة وسائل الإعلام اللبنانية، أدلى المدعى عليه الثالث من داخل القصر الجمهوري بالبيان الآتي:
“دعا اليوم فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وترأس اجتماعاً ضمّ أيضاً رئيس مجلس شورى الدولة القاضي فادي الياس. وتخصّص هذا الاجتماع للتداول في التداعيات التي نتجت عن إصدار مجلس شورى الدولة قراراً إعدادياً بوقت تنفيذ تعميم مصرف لبنان رقم /151/. بعد التداول، بما أن مصرف لبنان لم يتبلّغ صورة صالحة للتنفيذ عن القرار المذكور، وبما أن مصرف لبنان تقدّم اليوم بمراجعة لدى مجلس شورى الدولة تضمنت عناصر إضافية جديدة لم تكن واردة في الملف، بناء عليه تقرّر اعتبار التعميم رقم 151 الصادر عن مصرف لبنان ما زال ساريَ المفعول وستعمل المصارف بموجبه. كما أننا أكدنا ضرورة التعاون الكامل بين مصرف لبنان ومجلس شورى الدولة لما فيه مصلحة لبنان”.
5. وردّاً على سؤال صحافي عن سبب إعلانه في اليوم السابق تعليق العمل بالتعميم المعني بالقرار الإعدادي لمجلس شورى الدولة، ثم عودته عن ذلك في البيان الصحافي الذي اعتبر القرار المذكور المذكور وكأنه لم يكن، قال المدعى عليه الثالث:
“نحن تبلّغنا القرار [القضائي] ولكن يوجد بعض الأمور التي أشار إليها حضرة الرئيس [المدعى عليه الأول]، ونحن لم نصدر تعميماً يلغي تعميماً وإنما أصدرنا إعلاناً لنكون محترمين.. لأننا نحترم مجلس شورى الدولة ونحترم كل القضاء، فنحن كنا ننفذ أو نأخذ التدابير التي اتُخذ قرارٌ بشأنها. الآن وجدنا اليوم، وهكذا شرح لنا الرئيس الياس، أنه يوجد إمكانية ألا نطبّق [القرار القضائي] فوراً، وهي من خلال أن يكون هناك تبليغ مختوم وأنه إذا كنا متقدّمين بمراجعة فهذا يعطينا وقتاً”.
6. وعقب المؤتمر الصحافي المذكور، ضجّت وسائل الإعلام التقليدية والإلكترونية بمواقف الاستهجان من التدخّل السافر في عمل القضاء الذي أقدم عليه المدعى عليهم بالاشتراك والتواطؤ على مرأى ومسمع من الشعب اللبناني مباشرة، بمن فيهم أصحاب الحقوق المعنيون بالقرار القضائي موضوع الجرم المرتكب من قبل المدعى عليهم. وهو تدخّلٌ لم يقف عند حدّ تلبية قاضٍ يترأس القضاء الإداري (المدعى عليه الثاني) طلباً من موظفٍ عام يترأس السلطة التنفيذية (المدعى عليه الأول) للبحثِ في قرارٍ يتعلق بمراجعة قضائية تنظر فيها الغرفة القضائية التي يرأسها هذا القاضي، بل تعدّاه إلى اجتماعِ القاضي المذكور بالجهة المقدَّمة بوجهها المراجعة (المدعى عليه الثالث) وتفويضَها إعلانَ ما تمخّض عنه “المالي-القضائي” هذا – “تَقرّر (من قرّر؟) اعتبار التعميم رقم 151 الصادر عن مصرف لبنان ما زال ساريَ المفعول” – ألا وهو الرجوع عن قرارٍ قضائي ببيان إعلامي تلاه المعني بتنفيذ القرار! كلّ هذا بحضور ومشاركة وزير عدلٍ أسبق ومحامي يعتدّ بالقانون هو سليم جريصاتي، الذي لم يرَعْه مشهدُ انتهاك الدستور وقانون العقوبات وقسمَ القُضاة وقسم رئيسٍ جمهورية هو وصيّ على حماية الدستور وحُسن تطبيقه والحقوق الناشئة عنه؛
7. هكذا ببساطة، ومن دون أي اعتبار للدستور والقوانين اللبنانية وهيبة القضاء واستقلاليته، استدعى الموظف العام (المدعى عليه الأول) القاضيَ ليمليَ عليه مع المدعى عليه الثالث طلبهما وإرادتهما بالعدول عن القرارالإعدادي الصادر في المراجعة القضائية العالقة لدى غرفته القضائية، ثم يفوّض القاضي، المدعى عليه الثاني، الجهة المعنية بتنفيذ “قراره” الجديد تلاوةَ القرار السياسي-المالي-القضائي هذا، بُحكم التسمية التي ارتضاها المجتمعون للقائهم، على الشعب وأصحاب الحقوق! لم تلتئم غرفة الرئيس فادي عيد لمراجعة القرار والرجوع عنه، ولم يصدرْ قرارٌ قضائي أصولاً للرجوع عن القرار المعني، ولم يرفّ جفنٌ للمدعى عليهم أثناء ارتكابهم جرماً مشهوداً بهذا السفور بحق القضاء!
8. خرج هذا المشهد المخجل قبل يومٍ من اجتماع قضائي عُقد في قاعة محكمة التمييز في قصر عدل بيروت بتاريخ 2021/6/4، وصدر في ختامه بيان دعا في أوّل بنوده إلى:
“التأكيد على ضرورة إقرار مجلس النواب لقانون استقلالية السلطة القضائية بأقصى سرعة، على أن يتضمن مبدأ انتخاب جميع أعضاء مجلس القضاء الأعلى بمن فيهم الأعضاء الحكميين، رفض مبدأ تعيين السلطة السياسية لأي قاضِ، والتأكيد على وجوب احترام مبدأ فصل السلطات فعلاً لا قولًا”.
9. ودفع “اللقاء السياسي-المالي-القضائي” العجيب موضوع شكوانا هذه جمعية “نادي قضاة لبنان” إلى إصدار بيانٍ مؤثّر بتاريخ 2021/6/7، نعت فيه ما تبقى من هيبة القضاء، وجاء فيه حرفياً:
“لم تكد تداعيات التعرض بطريقة مستهجنة للحكم المبرم في قضية الطفلة ايلا طنوس وتصنيف القضاة المريب والإستهزاء الإعلامي الممنهج المتبع ضد القضاء تمرّ، حتى نسمع، ثم نشاهد، من دون أن نصدق، الإجتماع الرئاسي الذي اختلط فيه الحكم والخصم والذي خلص بالإجماع، إلى إصدار حكمٍ مبرم بالحداد على ما تبقى من كرامة العدالة وهيبة القضاء واستقلاليته”. مهما كانت المبررات، إن هذا الإجتماع يشكل خرقا لمبدأ فصل السلطات المنصوص عليه في الفقرة (هاء) من مقدمة الدستور ولموجب الحياد وأطاح بكل الشعارات الرنانة التي ما فتئت تصدح في أرجاء البلاد، فرجال الدولة يمتحنون عند التحديات الكبرى وما أكثرها، فأين هم؟”.
10. وبعد مضيّ أسبوعٍ على “اللقاء المالي-القضائي”، أصدر المدعى عليه الثاني بياناً إعلاميّاً، بتاريخ 2021/6/9، دافعَ فيه عن نفسه بوجه “الحملات الممنهجة في وسائل الإعلام التي استهدفته وتطاولت على كرامته وعلى مناقبيته”، وبرّر اجتماعه مع المدعى عليهما الأول والثاني الذي رجع بموجبه عن قرارٍ قضائي خلافاً للأصول الجوهرية الشكلية والموضوعية بذريعة أن:
أ. الصفة الموضوعية للدعاوى التي ينظر فيها القضاء الاداري تنزع عن المدعى عليه الثالث الصفة الشخصية “باعتبار أن المختصم هو القرار الإداري لا الشخص المسؤول في الإدارة التي أصدرت هذا القرار” واستطراداً فهو لم يجلس مع خصم في لقاء بعبدا (!)؛
ب. الدور الإستشاري الممنوح لمجلس شورى الدولة سندًا للمادة /57/ من نظامه يشمل القرارات الصادرة عن حاكم مصرف لبنان، وبالتالي فاجتماع بعبدا كان في إطار ممارسة هذا الدور (!!)؛
11. وبمعزل عن أنّ القانون والعرف أوجبا أن يكون الدور الاستشاري لمجلس شورى الدولة خطياً لا شفهياً، وأن يكون سابقاً لصدور مشاريع القوانين والتعاميم لا لاحقاً لها، فلقد أغفل المدعى عليه الثاني في بيانه الدفاعي/التوضيحي التصدّي للواقعة المحورية في قضية لقاء بعبدا، وهي أن الاجتماع “الاستشاري” كما وصفه تمخّض عن قرارٍ قضائي جديد أعلنه المدعى عليه الثالث على الشعب اللبناني من دون/قبل أن يصدر عن الغرفة القضائية التي يرأسها المدعى عليه الثاني، فاختزل المدعى عليه الثاني بذلك هيئة حاكمة مؤلفة من ثلاثة قضاة، ونسف سرّية المذاكرة التي أقسمَ على حمايتها في حِلفِ اليمين القضائي الذي أدّاه قبل أقلّ من عامين ليسَ سوى أمام المدعى عليه الأوّل بالذات.
ثانياً: في القانون:
12. لما كانت المادة /419/ من قانون العقوبات، والتي تمّ تعديلها بموجب القانون /165/ الصادر بتاريخ 2020/5/8 والمنشور في العدد /20/ من الجريدة الرسمية الصادر بتاريخ 2020/5/14(ص. 1177) قد نصّت على ما حرفيته:”من التمس من قاضٍ أو محكّم أو من شخص يقوم بمهمة قضائية أو بمهمة تحكيمية، بأي وسيلة، أي طلب متعلق بدعوى أو بمراجعة قضائية، يُعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة تتراوح بين عشرة أضعاف الحد الأدنى للأجور ومئة ضعفه. تُشدد هذه العقوبة وفق أحكام الـمادة 257 من قانون العقوبات اذا كان الفاعل أو الشريك أو الـمتدخل أو الـمحرض موظفاً وفق الـمعنى الـمقصود في الـمادة 350 من هذا القانون”؛
13. ولما كانت أركان جرم المادة /419/ ع. متوفرة بل وساطعة في الفعل المشكو منه، بل تمّ الإقرار به جليّاً في مضمون المؤتمر الصحافي الذي عقده المدعى عليه الثالث بعد “اللقاء المالي-القضائي” سيئ الذكر، وأعلن فيه عن قرارٍ قضائي لم تلتئم غرفةٌ قضائية لمذاكرته ولم ينطق قاضٍ به، بل صدر “بعدَ تداولِ [المدعى عليهم] في التداعيات التي نتجت عن إصدار مجلس شورى الدولة قراراً إعدادياً” بناء على “دعوة” موجهة من المدعى عليه الأوّل؛
14. وإن المادة /419/ ع. المعدّلة هي واضحة تماماً لجهة تجريم كل من يلتمس من قاضِ طلباً متعلقاً بمراجعة قضائية، ولا لبس في أن دعوة قاضٍ من أجل تداول مراجعة قضائية ينظر فيها طلباً لرجوعِه عن قرار إعدادي صدر في إطارها هو بالحدّ الأدنى تدخّل في القضاء من قبل أصحاب النفوذ التماساً لطلبٍ يتعلق بمراجعة قضائية، لأن القرارات القضائية تصدر من غرف القضاة لا من قصور الرؤساء، وبموجب قرارات خطية موقعة من مرجعها القضائي لا ببيانات شفهية منطوقة بلسان المعني بتنفيذها! وإن الدهشة من جسامة وسفور الفعل الجرمي المدّعى به تكادُ لا تفارقنا منذ ارتكابه علناً وحتى تاريخ كتابة هذه الشكوى، لأنّه عن حقّ لمشهدٌ غير مسبوق في تاريخ لبنان القضائي يُسجّل للتاريخ في صفيحة إرث كلّ من المدعى عليهم الثلاث؛
15. بل إن أشدّ ما يذهلُنا في هذه المشهدية، فيما لم يجفّ بعد حبرُ مرسوم التعديل الذي لحق بالمادة /419/ ع. قبل نحو سنة من اليوم، هو أن المدعى عليه الأول الذي وقّعه بصفته رئيساً للجمهورية هوَ عينُه من انتهكه أسوأ انتهاكٍ، ويا للمفارقة! ونحن نذكّر هنا بالأسباب الموجبة للتعديل التي أتت لتحصّن القضاء من تدخّلات أصحاب النفوذ. وهي هذه الأسباب الموجبة بالذات ما يجب الاستناد إليه لتفسير المادة /419/ع.، الواضحة جداً، تفسيراً سليماً لجهة ما أراده المشرّع منها، وهو تحصين القضاء ضد تدخلات أصحاب النفوذ:
“في ظلّ ما يتعرض له القضاء من تدخلات من أصحاب النفوذ، وتحصيناً للقضاء من تلك التدخلات،
وبما أن الـمادة 419 من قانون العقوبات، بصيغتها الراهنة، تكتفي بفرض غرامة مالية تتراوح بين عشرين ألف ومئة الف ليرة على من استعطف قاضياً كتابة كان أو مشافهة لـمصلحة أحد الـمتداعين أو ضده، وهي عقوبة لا تتناسب مع خطورة الفعل،
وبما أنه يقتضي تغيير توصيف الفعل من مخالفة إلى جنحة وتشديد العقوبة خاصة إذا كان مرتكبها موظف عام أو متولي منصب رسمي مستخدماً نفوذه وموقعه”؛
16. ولما كان التقاضي حقّ كرّسه الدستور اللبناني حين أكد في مقدمته التزام لبنان بـ”الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” الذي نصّت مادته /8/ على أن:
“لكلِّ شخص حقُّ اللجوء إلى المحاكم الوطنية المختصَّة لإنصافه الفعلي من أيَّة أعمال تَنتهك الحقوقَ الأساسيةَ التي يمنحها إيَّاه الدستورُ أو القانونُ.”
17. ولما كانت المادة /60/ من الدستور اللبناني المعدّل نصّت على أنه: “لا تبعة على رئيس الجمهورية حال قيامه بوظيفته إلا عند خرقه الدستور أو في حال الخيانة العظمى. أما التبعة فيما يختص بالجرائم العادية فهي خاضعة للقوانين العامة. ولا يمكن اتهامه بسبب هذه الجرائم أو لعلتي خرق الدستور والخيانة العظمى إلا من قبل مجلس النواب بموجب قرار يصدره بغالبية ثلثي مجموع أعضائه ويحاكم أمام المجلس الأعلى المنصوص عليه في المادة الثمانين ويعهد في وظيفة النيابة العامة لدى المجلس الأعلى إلى قاض تعينه المحكمة العليا المؤلفة من جميع غرفها.”
18. ولما كان قانون أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء ورؤساء الحكومة، الذي تم تشكيله وفقاً للمادة /80/ من الدستور اللبناني، حصر في المادة /18/ منه، صلاحية اتهام الرؤساء بالمجلس النيابي في ما يتعلق بالجرائم العادية:
“لا يمكن اتهام رئيس الجمهورية لعلتي خرق الدستور والخيانة العظمى أو بسبب الجرائم العادية إلا من قبل المجلس النيابي. وللمجلس النيابي أن يتهم رؤساء الحكومة والوزراء لارتكابهم الخيانة العظمى او لإخلالهم بالموجبات المترتبة عليهم”؛
19. ولما كان الفقه القضائي اللبناني قد فسّر الدستور لجهة التبعة الجزائية للرؤساء عن الجرائم العادية التي يرتكبونها. إذ قال القاضي المتقاعد الدكتور سليم سليمان، القاضي السابق في مجلس شورى الدولة، ورئيس المحكمة الإدارية وهيئة التحكيم في جامعة الدول العربية، وعضو لجنة الدراسات الدستورية والقانونية في الرابطة المارونية، والمستشار القانوني المفضّل لعدد من الوزراء والسياسيين المخضرمين حاضراً وسابقاً، في مقابلة نشرتها مجلة “محكمة” بتاريخ 2019/7/19(العدد/40/):
“يُعاقَب المجرم على سلوك يعتبر خطراً على المجموعة (…) ويُعتبر هذا الأساس الذي لا بدّ منه لبقاء الفرد والمجموعة وتطورّهما ونموهما الواحد للآخر، ومن يتعرّض لهذه الأسس بمفرده فرداً كان أو جماعة يستجلب المعاقبة بالإخراج من الحماية التي توفّرها القواعد التي تحمي هذه الأسس والمتمثّلة بقانون العقوبات والمساواة تجاه هذا القانون، والتي تتضمّن حماية من يتقيّد بأحكامه على السواء ومعاقبة من يخالف أحكامه على السواء حاكماً كان أم محكوماً. هذا ما نصّت عنه المادة /7/ من الدستور بكلّ وضوح – كل اللبنانيين سواء لدى القانون – ورئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء والمواطنون سواء لدى قانون الجزاء (…) لقد نصّت المادة /60/ [من الدستور] على أن جرائم رئيس الجمهورية العادية هي خاضعة للقوانين العامة. والمقصود هنا قانون الجزاء (…) فجرائم السياسيين العادية تخضع لقواعد القوانين الجزائية، غير أن هؤلاء السياسيين، رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ورئيس الوزراء يتمتعون بامتيازِ قضائي وهو امتياز شكلي يتعلّق بالمرجع الصالح”؛
20. ولما كانت “الحصانة، بمفهومها القانوني، لا تعني انعدام المحاسبة أو استحالة التقاضي. إذ أن مبدأ التقاضي هو دستوري، وتنصّ عليه كلّ الشرع والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، إذ أنه معيار تمييز دولة القانون عن شرعة الغاب. وبالتالي فإن الحصانة تعني عدم الخضوع للطريق العادي العام للمحاسبة، وإنما لطريق خاص يستوجب إجراءات إضافية أو يحصل أمام مرجع غير اعتيادي، فحصانة الرؤساء والوزراء تعني أنهم يُحاكمون أمام المجلس الأعلى إن كان الارتكاب مرتبطاً بالوظيفة، وحصانة القاضي تعني أصول خاصة لمحاكمته ولا تعني عدم محاكمته، وحصانة المحامي تعني تعليق الملاحقة على إذن من النقابة خارج حالة الجرم المشهود وهكذا… وبالتالي فإن أيّ حصانة مطلقة لا تشير إلى باب من أبواب المحاسبة تكون خارقة للدستور وللمواثيق الدولية المصادق عليها”، بحسب التعريف الذي تضمّنه قرار قاضية الجزاء المنفردة في بيروت الرئيسة لارا عبد الصمد في قرار أصدرته قبل أقل من شهرين بتاريخ 14/4/2021 وقضى بردّ الدفوع الشكلية المقدّمة من المدعى عليه الثالث في دعوى مُقامة بوجهه من عدد من المودعين؛
21. ولما كانت المادة /354/ من قانون أصول المحاكمات الجزائية قد حدّدت أصول وإجراءات ملاحقة القاضي الذي يشغل منصب رئيس مجلس شورى الدولة، ومنحت النائب العام التمييزي صلاحية الملاحقة والادعاء:
“إذا ارتكب أي من رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس مجلس شورى الدولة والنائب العام التمييزي ورئيس ديوان المحاسبة ورئيس هيئة التفتيش القضائي جريمة، من نوع الجنحة أو الجناية خارج وظيفته أو أثناء قيامه بها أو بمناسبتها فيُحاكَم أمام هيئة قضائية مؤلفة من خمسة قضاة تعين بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير العدل.
يجري إختيار أعضاء الهيئة من القضاة العاملين أو من المتقاعدين في منصب الشرف على أن لا تقل درجة أي منهم عن السابعة عشرة.
يتولى النائب العام التمييزي بنفسه الملاحقة ما لم يكن ممن إرتكب الجريمة أو أسهم فيها، عندها يعين بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء قاضٍ لا تقل درجته عن السابعة عشرة للقيام بمهام النائب العام التمييزي لتولّي الملاحقة في الجريمة فقط.
يعيّن وزير العدل بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى القاضي الذي سيولج بالتحقيق في الجريمة من درجة لا تقل عن درجة القاضي المحال أمامه.
تطبق الأصول المنصوص عليها في المواد 345 وما يليها في ملاحقة ومحاكمة من سبق ذكرهم.
يتولى رئيس الهيئة القضائية المعينة مهام الرئيس الأول لمحكمة التمييز في مجال الموافقة على توقيف القاضي المدعى عليه.”
22. ولما كان المدعى عليه الثالث لا يتمتع بحصانة سوى بصفته رئيساً لـ”هيئة التحقيق الخاصة” وفقاً لأحكام القانون رقم 44/2015، وهي ليست الصفة التي يشتكي المدعون ضده بموجبها وفقاً للشكوى الحاضرة، وهو لا يتمتع بأية حصانة وفقاً لأحكام قانون النقد والتسليف والقوانين المرعية الإجراء التي لا تتضمن أي نصّ يمنحه إياها كـ”حاكمٍ للمصرف المركزي”، ولا يوجد نصّ لا في القانون المذكور ولا في سواه يطلب الإذن لملاحقة حاكم المصرف المركزي أو يحيله إلى المادة /61/ من من قانون الموظفين (المرسوم الاشتراعي رقم 112/1959). ولا يمكن التأويل أو القياس في مسألة الحصانات التي نصّ عليها المشرّع صراحة في ما يتعلق بالرؤساء ورؤساء الحكومات والوزراء والموظفين العامين والنواب والمحامين، فيما أغفلها في ما يتعلق بحاكم المصرف المركزي الذي يخضع لقانون ونظام خاصين به؛
23. ولما كانت المادة /16/ من قانون أصول المحاكمات الجزائية نصّت على وجوب تقيّد النواب العامين الاستئنافيين بتوجيهات النائب العام لدى محكمة التمييز في الجرائم الخطيرة وعلى صلاحية الأخير في “الطلب من النائب العام المختص إبداء المطالعة التي تتوافق مع توجيهاته الخطية”؛
24. ولما كان المدعون جميعاً يملكون حساباتٍ مصرفية وقّعوا لفتحها عقوداً مع المصارف العاملة في لبنان بهدف إيداع الودائع فيها سنداً لطبيعة اقتصاد دولتنا الحرّ وموجب حماية الملكية الخاصة المكفولين في دستورنا اللبناني، فضلاً عن مبدأ حرية التعاقد والنصوص القانونية الراعية للودائع في قانون الموجبات وعقود وغيره من القوانين النافذة؛
25. ولما كان فعل المدعى عليهم ألحقَ ضرراً مباشراً بالمدعين ليس فقط لأنه ألغى بصورة غير قانونية، وجرمية، قراراً إعدادياً جاء لينصفَهم وليؤكّد المؤكّد، أي سيادة القانون على هرطقات المدعى عليه الثالث القانونية وخصوصاً استحداثه بدعة “التسديد البدلي”، هم الذين تعرضت ملكياتهم الخاصة المكفولة دستورياً للانتهاك مرة جديدة بموجب الجرم موضوع شكوانا الحاضرة، بل كذلك لأن فعل المدعى عليهم انتهك كذلك حقوق المدعين الأساسية التي منحها لهم الدستور لجهة:
أ. الحق بالتمتع بنظامٍ يلتزم مبدأ الفصل بين السلطات (الفقرة “هـ” من مقدمة الدستور)؛
ب. الحق بحماية الملكية الخاصة (المادة /15/ من الدستور “الملكية في حمى القانون فلا يجوز أن ينزع عن أحد ملكه إلا لأسباب المنفعة العامة في الأحوال المنصوص عليها في القانون وبعد تعويضه منه تعويضاً عادلاً”)؛
ت. والحق بالمساواة أمام القانون (المادة /7/ من الدستور “كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم”.
26. ولما كان بيان القضاء المُشار إليه ضمن الفقرة (8) أعلاه قرّر “العمل على تقديم دعوى بحق كل من أساء وتطاول على القضاة ونال من هيبة القضاء، من سياسيين وإعلاميين”؛
27. ولما كانت ارتكابات المدعى عليهم نالت ليس فقط من هيبة القضاء وإنما كذلك من ثقة المواطنين به ما أدى إلى المزيد من المساس بهذه الهيبة، وهو ما تجلى في ردود الفعل الغزيرة العلنية التي أعقبت لقاء بعبدا “السياسي-المالي-القضائي” المنعقد بتاريخ 2021/6/3 وتداولها الإعلام؛
28. ولما كانت المادة /419/ع. دعت في فقرتها الثانية إلى تشديد العقوبة وفقاً للمادة /257/ع. (من الثلث إلى النصف وتضاعف الغرامة) إذا كان الفاعل أو الشريك أو الـمتدخل أو الـمحرض موظّفاً وفق المعنى المقصود في المادة /350/ع.؛
29. ولما كان المدعى عليهما الأول والثاني هما من الموظفين العامين المُشار إليهم بموجب المادة /350/ع.: “يُعد موظفاً بالمعنى المقصود في هذا الباب كل موظف في الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات والجيش والقضاء وكل عامل أو مستخدم في الدولة وكل شخص عين أو انتخب لأداء خدمة عامة ببدل أو بغير بدل.”، ما يقتضي تشديد العقوبة بحقهما سنداً للفقرة الثانية من المادة /419/ع. المدّعى بها؛
30. ولما كان القضاء هو الملاذُ الوحيد للمواطنين المتشبّثين بنهوض دولة سيادة القانون، التي نحن بأمسّ الحاجة إليها اليوم أكثرَ من أيّ يومٍ مضى، وهو كذلك الرادعُ عن الأفعال التي تنال من هيبة القضاء وتمسّ باستقلالية قضاته؛
31. ولما كان المشهد المُحزن والمُغضب في آنٍ معاً، والذي انطبعَ في أذهان المواطنين والقضاة اللبنانيين على السواء بعد لقاء بعبدا “المالي-القضائي”، لا يمكن أن يمحوَه سوى تحرّك نيابتكم من دون تأخير لمحاسبته بحدّ القانون منعاً لتكراره وتحصيناً للقضاء من تدخلات أصحاب النفوذ وفق ما نصّت عليه الأسباب الموجبة لمرسوم تعديل المادة /419/ع. قبل نحو عامٍ فقط؛
لكلّ ذلك،
جاء إليكم المدعون بالشكوى الحاضرة، على ثلاث نسخ أصلية، متخذين صفة الادعاء الشخصي ضد كل من رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس مجلس شورى الدولة القاضي فادي الياس، وحاكم المصرف المركزي رياض سلامة وكل من يظهره التحقيق فاعلاً أو شريكاً أو محرضاً أو متدخلاً في جرم المادة /419/ من قانون العقوبات اللبناني في ما يتعلق بالمراجعة القضائية المسجلة لدى قلم مجلس شورى الدولى تحت الرقم 2021/24551 وكلّ ما يتفرّع عنها، وطالبين منكم، في ضوء الدستور وقانون العقوبات وغيرها من القوانين النافذة المرعية:
أولاً: إحالة النسخة الاصلية الأولى من الشكوى الحاضرة إلى مجلس النواب لجهة المدعى عليه الأول رئيس الجمهورية ميشال عون، وذلك لاتخاذ المقتضى وفقاً لأصول ملاحقة الرؤساء في الجرائم العادية المنصوص عنها في المادة /60/ من الدستور؛
ثانياً: النظر مباشرة في النسخة الأصلية الثانية من الشكوى الحاضرة واستدعاء المدعى عليه الثاني رئيس مجلس شورى الدولة فادي الياس للتحقيق معه بموجبها، واستطراداً الادعاء عليه بجرم المادة /419/ع. وفقاً لأصول ملاحقة رئيس مجلس شورى الدولة المنصوص عنها في المادة /354/ أ.م.ج.؛
ثالثاً: النظر مباشرة في النسخة الأصلية الثالثة من الشكوى الحاضرة واستدعاء المدعى عليه الثالث حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة للتحقيق معه بموجبها، واستطراداً الادعاء عليه بواسطة النيابة العامة الاستئنافية المختصة بجرم المادة /419/ع. وإحالته إلى القضاء الجزائي المنفرد المختص لمحاكمته أصولاً؛
مع اتخاذ الجهة المدعية محلّ إقامةٍ قانوني مختاراً لها لغرض الشكوى الحاضرة في مكتب المحامية ديالا شحادة الكائن في شارع بدارو، مبنى غطاس (بنك عودة) الطابق الخامس.
بكلّ احترام.”
“محكمة” – الخميس في 2021/6/10